كتاب عربي 21

الدولة الإسلامية واختبار ولاية دمشق

1300x600
تعمل التكتيكات القتالية لتنظيم الدولة الإسلامية دوما على إرباك الأعداء والمناصرين، كما أن سلوك التنظيم يحيّر معظم الخبراء والمحللين، بحيث تفضي غالبا التحليلات إلى الاستسلام لنظرية المؤامرة، فعندما خسر التنظيم معركة تكريت بداية نيسان/ إبريل ودخلت القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي إلى المدينة لم تجد أحدا من مقاتلي التنظيم، الأمر الذي أفسد فرحة الانتصار وذهب بعض البعض إلى القول بأن طائرات التحالف بمساعدة أجهزة استخبارات عديدة أخلت مقاتلي تنظيم الدولة، وفي الوقت الذي تراجع فيه التنظيم من تكريت في العراق كان التنظيم يفاجئ الجميع بدخول مخيم اليرموك في سوريا لتنتعش مرة أخرى نظرية المؤامرة. 

لا شك بأن الأطروحة الأساسية لقوى المعارضة السياسية والعسكرية السورية ترتكز إلى القول بأن تنظيم الدولة الإسلامية صنيعة نظام الأسد لضرب وتشويه الثورة، وحجاجها يستند إلى مسلمة عدم استهداف النظام للتنظيم، الأمر الذي ينطبق على تنظيم الدولة الإسلامية الذي تصر المعارضة على أنه يتجنب مواجهة قوات نظام الأسد، وانشغاله بالتصدي لفصائل المعارضة المسلحة وتحرير المحرر، لكن الحقيقة الفجة تجافي النزعة الرغبوية لخصوم التنظيم، الذين يجتهدون في البحث عن حجج بلاغية تفسر تقدم التنظيم ببطء ولكن بثبات. 

خلال الفترة الأخيرة كان وجود تنظيم الدولة الإسلامية المرئي في سوريا يقتصر على المناطق الشرقية، مع احتفاظه بوجود لا مرئي في مناطق عدة، إلا أن التنظيم بدأ مؤخرا بتأسيس ولايات جديدة في مناطق أخرى، ويبدو أن ولاية دمشق أحد أهم الولايات وأخطرها، فقد جاء الإعلان عن السيطرة على مخيم اليرموك الذي يعتبر أحد ضواحي دمشق نقطة تحول في مسار التنظيم وخلط الأوراق لدى الفصائل المتواجدة في المخيم التي عجزت عن فك الحصار المفروض على المخيم، حيث برزت نظرية تواطؤ جبهة النصرة مع تنظيم الدولة وتردد حركة أحرار الشام، لكن التنظيم كما عودنا كان يختبر مدى ردود الأفعال لدى مختلف الفصائل المتواجدة ومعرفة توجهاتها، ومعرفة ردو فعل نظام الأسد والفصائل الموالية له، وردود فعل المجتمع الدولي، نظرا لحساسية وتعقيد وخصوصية مخيم اليرموك لدى كافة الأطراف، ولذلك سوف يعمل التنظيم على تثبيت سيطرته المكانية إذا وجد تراخيا، لكن المرجح أن ينسحب جزئيا بانتظار تطورات المشهد.   

يدرك تنظيم الدولة الإسلامية صعوبة السيطرة على أماكن تتمتع بحساسية استراتيجية في محيط معاد لنهجه، إلا أن التنظيم يعمد إلى تنفيذ هجمات تكتيكية كاشفة واختبارية، تستند باستمرار إلى تكتيكات مميتة ومرعبة معهودة كما حدث في 31 آذار/ مارس الماضي عندما نفذ التنظيم هجوما مباغتا على قرية المبعوجة قرب حماة، وقتل أكثر من 46 شخصا من سكانها باعتبارهم من الصحوات، الأمر الذي تكرر في 1 نيسان/ إبريل بالهجوم المباغت على مخيم اليرموك والسيطرة على معظمه، وكان مخيم اليرموك قد شهد معارك عنيفة في أيلول/ سبتمبر 2012، حيث تمكنت مجموعات من المعارضة المسلحة من السيطرة عليه، بينما انقسمت المجموعات الفلسطينية المقاتلة مع النظام وضده، وبعد أشهر من المعارك، أحكمت قوات النظام حصارها على المخيم الذي بات يعاني  من يقي من سكانه البالغ عدده 15 ألف من أصل حوالي 180 ألف، من الحصار التجويع، ولذلك يدرك تنظيم الدولة الإسلامية الأهمية الاستراتيجية لليرموك الذي يقع على بعد 10 كيلومترات فقط عن مركز مدينة دمشق، لكنه استثمر حالة الحصار الخانقة التي يفرضها نظام الأسد بمساعدة حلفائه من الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، ورمزية المخيم وارتباطه بالقضية الفلسطينية، وحالة الغضب التي تتملك سكان المخيم الحانقين على النظام والفصائل الموالية له. 

لا يمكن لنظام الأسد أن بسمح بإقامة ولاية لتنظيم الدولة الإسلامية في دمشق، وهو سيعمد إلى سياسات الأرض المحروقة في نهاية المطاف، فقد أعلن عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني الخميس9 نيسان/ إبريل  عن توافق أبرز الفصائل الفلسطينية في مخيم اليرموك على عملية عسكرية بالتنسيق مع النظام السوري عقب اجتماع عقد مساء الأربعاء وشارك فيه ممثلون عن 14 فصيلا فلسطينيا في سوريا، وغابت عنه كتائب "أكناف بيت المقدس"، ويبدو أن المجتمع الدولي يدرك تماما سياسات النظام وأنصاره ، ولذلك دعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في ذات الوقت إلى العمل على تفادي "مجزرة" في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين قرب دمشق، وذلك بعد قبول الفصائل الفلسطينية تنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع الجيش السوري لاخراج تنظيم "الدولة الاسلامية" من المخيم.

 قد يتساهل نظام الأسد في مناطق عديدة بعيدة عن العاصمة دمشق رغم أنه يرتكب مجازر ممنهجة ويستخدم أسلحة محرمة دوليا، إلا أنه لا يمكن أن يتسامح مع اقتراب وصول تنظيم الدولة الإسلامية إلى مقر سيادته، فالنظام يفرض حصارا خانقا على مناطق جنوب دمشق، وخصوصاً مخيّم اليرموك، وحيّ التقدّم، وحيّ القدم، والحجر الأسود (معقل تنظيم الدولة)، وبيت سحم، ببيلا، ويلدا والعسالي، ويساند النظام في محاصرة مخيم اليرموك ميليشات جيش الدفاع الوطني المتواجدة في شارع نسرين المجاور للمخيم، ومقاتلو الفصائل الفلسطينية الموالية للأسد وهي: القيادة العامة للجبهة الشعبية، فتح الانتفاضة وجبهة النضال.

أما فصائل المعارضة المسلحة في اليرموك فتتمثل بمقاتلي "جبهة النصرة"، الذي يتواجد بين شارع اليرموك الرئيسي وشارع الثلاثين وقرب دوار فلسطين في شارع فلسطين في المخيّم، وجماعة "أكناف بيت المقدس"، وهو فصيل مقرب من "حركة حماس"، ويتواجد في جزء من شارع فلسطين وفي محيط بلدية اليرموك، وحركة "أحرار الشام"، ويتواجد في نقاط في شارع الـ 30، وهناك فصائل صغيرة أخرى، ويحاصر النظام المخيّم من ثلاث جهات وهي: حي الزاهرة، منطقة القاعة وشارع نسرين الذي يسكنه غالبية علوية وفيه "ميليشيات الأسد"، فيما تهتمّ الميليشيات الفلسطينية بمدخل المخيّم الذي يربط شارع فلسطين واليرموك الرئيسيَّين بدوار البطيخة.

تعقيدات تأسيس ولاية دمشق لا تخفى على تنظيم الدولة الإسلامية، نظرا لوجودها في محيط شديد العداء، فقد برهن اختبار اليرموك على حجم التحدي، فتنظيم الدولة يواجه مزيجا مركبا من الأعداء، مكونة من نظام الأسد والفصائل الفلسطينية المتحالفه معه، وداخل المخيم مجموعة من الفصائل المناوئة لنهجه وفي مقدمتها كتائب "أكناف بيت المقدس"، وفي جبهة الجنوب مجموعة من فصائل المعارضة الإسلامية المعادية للتنظيم وفي مقدمتها: "جيش الإسلام" و"لواء شام الإسلام" و"لواء الأبابيل"، التي دخلت على خط مواجهة التنظيم في محاولة لفك الحصار عن مخيم اليرموك في إطار معركة أطلقت عليها اسم "نصرة أهل المخيم".

كشفت معركة اليرموك عن حلفاء محتملين لتنظيم الدولة الإسلامية، وفي مقدمتهم "جبهة النصرة"  و"أحرار الشام"، فعلى الرغم من دخول الدولة والنصرة في صراع مميت في جبهات عديدة، إلا أن بعض الجبهات تشهد تعاونا وتنسيقا ميدانيا، ومع أن جبهة النصرة أصدرت بيانا أعلنت فيه وقوفها على الحياد، ونفت مساندتها لتنظيم الدولة، إلا أن موقفها لم يقنع الفصائل المعارضة واتهمتها بالتواطؤ.

خلاصة القول أن دخول تنظيم الدولة إلى مخيم اليرموك هو تكتيك يسعى من خلاله إلى خلط الأوراق، كعملية اختبارية لمعرفة ردود الأفعال من طرف كافة القوى المعادية لنهجه، ومحاولة لكسب تأييد السكان المحاصرين، واستمالة مقاتلي فصائل المعارضة المسلحة الناقمين على نهج فصائلهم في التعامل مع نظام الأسد، واختبار مدى قوى الفصائل وتماسكها وصلابتها، وإرباك أطروحات أنصار نظرية المؤامرة وكشف ركاكة منطقهم، فضلا عن رمزية مخيم اليرموك وارتباطه بالقضية الفلسطينية، والأهم إذا نجح التكتيك تحوله لاستراتيجية وبدء الدخول في عملية استنزاف النظام في معقله الأساس دمشق وزعزعة الثقة بتماسكه وصلابته.