كتاب عربي 21

الدولة العميقة تأكل أطرافها

1300x600
"عصابة السرّاق " تسمية أبدعتها حناجر المعذبين في أرض تونس الفقيرة عندما طالهم رصاص قناصة بن علي بعد سنوات التهميش والتفقير الممنهج واستئصال الكرامة والهوية خلال ثورة 17 ديسمبر 2010 الخالدة. لقد كان شعار الثورة الأبرز الذي غناه أحرار الشمال الغربي التونسي مطالبين بالكرامة   " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق ". هكذا يحتفظ اللاوعي الشعبي بتصنيفه الواعي لطبيعة المتحكمين في رقاب الأمة والوطن باعتبارهم أقرب إلى بنية العصابة منهم لأي تجمع بشري آخر خاصة عبر شبكة المصالح والنهب المنظم التي تشرف على مدّ العصابات بكل أسباب الوجود. العصابة تتقاتل اليوم في تونس بسبب صراع الغنائم وانحسار منسوب العناصر الموحدة التي خرجت عن السلطة بعد انتخابات يعرف الجميع أنها مزورة حتى قاع صناديقها.

غير بعيد من هناك وفي مزرعة أخرى من مزارع الموت العربية يقيم الجنرال الانقلابي مؤتمرا للتسول من أجل ضخ مزيد من الحقن التنشيطية في جثة نظام مات وتحلّل وفقد كل مبررات وجوده إلا من دور الحراسة لأنظمة الاستكبار العالمي.  هو مؤتمر سماه آخرون " مؤتمر بيع مصر" يجمع من موائده نظام العسكر بعض فتات موازين الضبط العالمي لتغيّر الأنظمة وغيرها من أنظمة الموت الممتدة على طول المزارع العربية وعرضها. 

المشهد في سطح المنطقة إذن  يبلغ حد الانفجار بسبب سرعة النسق الذي تتابع من خلاله الأحداث في أكثر من دولة بل لعل مجموع الانفجارات المتعاقبة على خارطة الوطن هي التعبير الأسلم عن تسارع انجازات الفوضى التي ستغير بعمق مستقبل الجغرافيا السياسية لأرض العرب ومحيطها المباشر فتحدد مصير أجيال بكاملها من أبناء المنطقة ومواطنيها في المستقبل المتوسط والبعيد. فعبر التناقضات التي فجّرها ربيع الثورات وحجم الوحشية التي قابلت بها الأنظمةُ الاستبدادية توقَ الجماهير للكرامة والعدالة الاجتماعية يتكون وعي جديد عليه ستتأسس حركات وظيفية وهندسية قادمة وحاسمة في تشكيل مستقبل المنطقة.   

لكن المشهد في العمق يخفي تآكلا متسارعا لمقومات دولة العمق في المناطق التي اكتسحتها الثورة المضادة خاصة في مصر وتونس باعتبارهما الموجة الأولى للثورات لعربية انتهى فيها الأول إلى انقلاب عسكري دام وخلص الثاني إلى انقلاب ناعم عبر صناديق الاقتراع. اليوم يشهد حائط النظام القديم تصدعا كبيرا عبر الحرب الإعلامية المفتوحة بين من يسميهم الشعب التونسي "بعصابة السراق " . الحرب المفتوحة في تونس بين من تحالفوا بالأمس ضد ثورة 17 ديسمبر الخالدة بعد أن اختلف اللصوص في تقاسم الغنائم نقول تحالفوا ضد الثورة لا ضد الثلاثي الحاكم لأنه كان ضعيفا وكان آيلا للسقوط بطبعه بسبب حرب الزعامات داخله وغلبة الفردية والأنانية على تحقيق شعارات الثورة وأهدافها.  

"نداء تونس" أو "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي"  في ثوبه الجديد يشهد حربا طاحنة تنشر فيها أسرار الدولة على الهواء مباشرة وهي حرب يلعب فيها "إعلام العار الوطني" والنقابات الأمنية المسلحة دورا خطيرا على أمن الوطن وعلى حرب شعب التونسي مع الجماعات الإرهابية ذلت الجذور الاستخباراتية. صراع الأجنحة داخل "عصابة السرّاق" كما يسميها الشباب التونسي وتصاعد حمى الانقلاب المصري تكشف معطى أساسيا في فهم طبيعة الصراع الدائر في المنطقة العربية.  يتمثل هذا المعطى في تآكل الدولة العميقة بسبب غياب رأس الدولة القمعية وهو في الحالة التونسية عجوز تسعيني لا يفيق حسب التقارير الطبية أكثر من ثلاث ساعات في اليوم مما يجعله عضويا غير قادر على تحمل مسؤولية الحكم ويسمح لبقية الحاشية بالتنازع على المصالح والامتيازات وهو في الحالة المصرية شخصية مهتزة تفتقر لعنصر الكاريزما والهيبة التي ميزت رؤساء مصر منذ عبد الناصر. هذه الحالة من يُتم الزعامة هي من أعظم مكاسب الربيع العربي لأنها بإسقاطها رأس الاستبداد حققت نقلة نوعية هامة في الممكن السياسي عربيا خاصة في أعلى هرم السلطة. فالزعيم والقائد والريّس والمعلّم كان القطعة الأساسية في آلة الاستبداد لأنها تسمح بتوحيد مفاصل دولة العمق وتمنع صراع الأنداد بما هو ميزة ما قبل السقوط كما هو الحال في الفترة التي سبقت سقوط بورقيبة سنة 1987 ليحل محل العجوز الجنرال الشاب "بن علي" بعطشه للسلطة وقوة شخصيته ومستواه الثقافي والتعليمي البائس مكوّنا صورة مثالية لنموذج الطاغية العربي.

لن تستطيع الدولة العميقة التي استعادت زمام المبادرة بعد انحسار الحركة الثورية التي أعقبت ثورتي تونس ومصر تحقيق الاستمرارية المنشودة والتمكين لعودة الاستبداد ولرجوع الدولة القمعية من جديد مهما فعلت لأنها تفتقر آنيا لكل الشروط التاريخية التي تسمح بالقفز على المنجز الثوري العربي الأخير. ثم هي تحمل في داخلها بذور نهايتها لا  بسبب قيامها على انعدام الشرعية فقط  وإنما بسبب وصول صلاحية النظام الرسمي العربي في شكله الحالي إلى نقطة النهاية مما لا يسمح له بإعادة إنتاج نفسه بالشكل القديم كما تحاول قوى الثورة المضادة اليوم وهو ما يعني أن الدولة العميقة لن تكتفي بأكل أطرافها بل ستنتهي بأكل نفسها قريبا وقريبا جدا.