مقالات مختارة

نضالات وآمال هند نافع

1300x600
كتبت نادين مروشي: قصة هند نافع التي لم يتغن بها الشعراء، والتي هي قصة احتجاجات مستمرة ضد الشرطة وضد عائلتها وضد مجتمعها الريفي، قد تكون ومضة نور تضيء طريق مصر للخروج من أزمتها
 
ما فتئت الشابة المصرية الثائرة هند نافع تناضل منذ ثلاثة أعوام وتتمرد على الحكومات المختلفة في بلدها وعلى مجتمعها الريفي وعلى عائلتها. وقد نالها بسبب ذلك ضرب وتعذيب على أيدي ضباط الجيش، وحبست في منزلها من قبل أسرتها، وحكم عليها مجتمعها بأنها امرأة تجلب العار. وفي الأسبوع الماضي صدر بحقها حكم بالسجن مدى الحياة، أصدره قاض اشتهر بأحكامه القاسية. ومع ذلك كله، تظل هذه المرأة التي اشتهرت بخمارها الملون عازمة على الاستمرار في النضال.
 
وإثر سماعها في الرابع من فبراير الحكم الصادر في قضيتها، وهو الحكم الذي قوبل بالنقد والتنديد على نطاق واسع، كتبت هند في صفحة لها متاحة للجمهور على موقع فيسبوك ما يلي: "أود أن أخبركم شيئاً: مهما فعلنا، مازلنا لم نقدم شيئاً يذكر للثورة… فالعديد من الشهداء قدموا أرواحهم من أجل هذا البلد! ويحضرني هنا ما قالته زميلتي ماهينور {المصري} من أننا لا نحب السجون ولكننا لا نخشاها". وأنهت ما كتبته بوضع صورة لوجه مبتسم. هذا نموذج من التحدي الوقاد الذي ما لبثت تمارسه منذ أن بدأت محنتها قبل أكثر من ثلاثة أعوام بقليل.
 
وقصة هند ليست فريدة من نوعها، ففي القضية التي حوكمت فيها حوكم أيضاً 229 شخصاً آخر حكم عليهم جميعاً بالسجن مدى الحياة، بما في ذلك الناشط المعروف أحمد دوما، وذلك لمشاركتهم في تظاهرة احتجاجية أمام مبنى من مباني الحكومة في عام 2011 للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري. وقبل النطق بالحكم في هذه القضية بيومين كان قد صدر حكم قضائي بإعدام 183 شخصاً.
 
لقد تعرض الآلاف من المصريين للاعتقال والتعذيب في سجون مصر قبل وبعد ثورة 2011، كما قتل الآلاف منذ أن تظاهر الملايين في الشوارع والميادين يوم 25 يناير 2011 للمطالبة برحيل النظام الوحشي لحسني مبارك، الدكتاتور الذي حكم البلاد لما يقرب من ثلاثين عاماً. ومنذ أن أطاح انقلاب عسكري مدعوم بقطاعات شعبية بالرئيس المنتخب محمد مرسي في يوليو 2013 وجيء في مكانه بالرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، الرئيس السابق للجيش، ازدادت حدة القمع الوحشي.
 
ومع ذلك، أعتقد بأن من الضرورة بمكان الاستماع إلى قصص الناس التي يرويها كل منهم عن تجربته ومشاهداته، لأننا بذلك سنستمر في التعلم أكثر فأكثر عن النضالات التي خاضوها كأفراد كل داخل بيئته ومجتمعه. والأمر يصبح أكثر أهمية خصوصاً حينما يكون الشخص المعني امرأة، لأنها في العادة تحمل على كاهلها عبئاً إضافياً يتمثل فيما يراه الناس مما ينبغي أن يكون عليه موقعها الصحيح في المجتمع، وخاصة عندما تكون امرأة ريفية حيث تسود التقاليد المحافظة وحيث لها من النفوذ أكثر بكثير مما يشعر به الناس في المدينة. حينما نقترب أكثر من فهم طبيعة النضال فإننا نأمل بأن نقترب كذلك من إيجاد الطريق إلى الخروج من المأزق. ومن هنا تأتي أهمية قصة هند.
 
في وقت مبكر من صباح يوم الجمعة السادس عشر من ديسمبر 2011، توجهت هند إلى وسط البلد في القاهرة لتتفقد أحوال المتظاهرين الذين أقاموا لهم مخيماً اعتصموا فيه سلمياً أمام مبنى رئاسة الوزراء. وكانت هند تقوم بذلك كل يوم دون علم أهلها، وذلك منذ أن بدأ المتظاهرون اعتصامهم هناك قبل ذلك اليوم بثلاثة أسابيع للمطالبة بأن يسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير البلد السلطة إلى حكومة مدنية.
 
في ذلك الصباح تحول الاعتصام إلى احتجاج عنيف وذلك بعد أن اعتقل الجنود أحد الشباب واسمه عبودي وأوسعوه ضرباً حتى تضرج بدنه بالدماء مما أغضب زملاءه المتظاهرين. اندلعت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الجيش، وتقاذف الطرفان بالحجارة. ويظهر مقطع فيديو سجل في صباح ذلك اليوم الجنود وهم يرجمون المتظاهرين بالحجارة من فوق سطح مبنى البرلمان. كما قاموا بقذف المتظاهرين بقطع الأثاث، وخلال الاشتباكات أضرمت النيران بمبنى معهد مصر التاريخي من الداخل، والذي كان يؤوي مخطوطات يزيد عمرها عن مائتي عام، فأتت النيران على محتوياته ولم تبق منها ولم تذر.
 
تقول هند إنها كانت الفتاة الأولى التي تعتقل في ذلك اليوم بعد أن انحشرت في زاوية بين المتظاهرين وعناصر الجيش. نزع الجنود الخمار عن رأسها وضربوها على رأسها وعلى أماكن متفرقة من بدنها بالعصي والهراوات، وجروها من شعرها في شوارع البلدة القديمة في القاهرة ومزقوا عليها ملابسها. ثم اقتيدت إلى إحدى الغرف في مبنى رئاسة الوزراء أطلقت عليها هي وزميلة متظاهرة معها اسم "غرفة التعذيب"، وهناك تعرضت الفتاتان مراراً وتكراراً للصعق بالكهرباء وللضرب المبرح.
 
في اليوم التالي، التقطت عدسات المصورين صوراً لهذه الفتاة، التي بات يشار إليها في وسائل الإعلام الغربية بـ"الفتاة ذات الصدرية الزرقاء" وفي وسائل الإعلام المصرية بـ"ست البنات"، وهي تسحل من قبل الجنود في أرجاء ميدان التحرير، وقد تمزقت ملابسها كاشفة عن صدريتها الزرقاء، بينما انهال عليها الجنود رفساً بأحذيتهم العسكرية. نشرت لها صورة على الصفحة الأولى لصحيفة نيويورك تايمز وكذلك في صحيفة التحرير المصرية. كان العنوان الرئيسي لصحيفة التحرير في ذلك اليوم عبارة عن كلمة واحدة هي "كاذبون"، وذلك بالإشارة إلى قوات الجيش التي ادعت أنها لا تهاجم المتظاهرين.
 
تعتقد هند بأن استراتيجية قوات الجيش في ذلك الوقت تمثلت في تفضيل اعتقال امرأة على اعتقال رجل إذا أتيحت لهم الفرصة، وتقول في مقابلة تلفزيونية أجرتها معها الصحفية ريم ماجد في أكتوبر 2012: "لقد أرادوا تحطيم المجتمع من خلال الوصول إلى الفتيات". وذلك أنهم أرادوا استثارة مشاعر المصريين بسبب التقاليد المحافظة للمجتمع والتي تعتبر أن مكان المرأة هو داخل البيت ومع العائلة وليس في الشوارع تظاهراً واحتجاجاً. علم ضباط الجيش أن الأعراف الاجتماعية ستجعل الناس يلومون النساء المشاركات في الاحتجاج بدلاً من التعاطف معهن والتعبير عن الدعم لهن. تقول هند: "لقد نجحوا، إذ كان رد المجتمع: طيب، ما الذي أخرجها إلى ميدان التحرير في المقام الأول؟".
 
حينما تمكنت أخيراً من العودة إلى البيت، تقول هند إنها تعرضت للضرب وللتقريع بكلمات نابية من أفراد عائلتها، فقد قالوا إنها مخزية وإنها أحرجتهم وجلبت لهم العار. وبدلاً من أن يعبروا عن اعتزازهم بهند التي تمكنت من تحدي رئيس الدولة في ذلك الوقت المشير حسين طنطاوي حينما رفضت تحيته حينما جاء يعودها في المستشفى الذي كانت تعالج فيه، قامت عائلتها بحبسها داخل البيت مانعة إياها من استخدام هاتفها النقال أو استخدام الإنترنت. ومع ذلك فهي لم تستسلم.
 
مع الاقتراب من الذكرى السنوية الأولى للثورة في الخامس والعشرين من يناير 2012 كانت هند تشعر بالإحباط ويخنقها حبسها في منزل أهلها، فأضربت عن تناول الطعام، وتقول عن ذلك: "لقد أقنعت نفسي بأن بإمكاني أن أفجر ثورة في داخل بيتي".
 
ثم ذهبت هند تخط مطالبها على جدران غرفتها المكسوة بورق الجدران الأبيض:
"هند تريد إنهاء الحصار".
"لا أشعر بالخزي ولا بالعار، أنا واحدة من الثوار".
"لن أتراجع عن أهدافي ولا عن أفكاري ولا عن مواقفي".
"سوف نستمر حتى لو كنا داخل الزنزانات".
وهكذا …

وبعد أن أغمي عليها اضطرت عائلتها أخيراً إلى التراجع.
 
مضت ثلاثة أعوام ولم تتحسن الأوضاع بالنسبة لهند. وعندما صدر الحكم عليها هذا الأسبوع كتبت على صفحتها في موقع الفيسبوك: "لا أعرف كيف أرد على عائلتي، لا أعرف ماذا عساي أن أخبرهم بعد هذا الحكم بالمؤبد. سوف أخوض الآن معركة جديدة معهم، ولا يمكنني أن أصدق بأن الأمور باتت أكثر هدوءاً". وأعقبت ذلك بصورة وجه مبتسم.
 
هند تستهدف ولكنها ليست الوحيدة المستهدفة، فكما ذكر آنفاً، لقد اعتقل الآلاف، وضرب الآلاف، وعذب الآلاف، وقتل الآلاف على مدى هذه الثورة، وما هي إلا واحدة منهم. ومع ذلك، يوجد لدى السلطات ما يجعلها تخشى حلم هند وتطلعها إلى العدالة. في عام 2012، قالت في حديثها التلفزيوني مع ريم ماجد إنها جزء من حملة اسمها "وطن من غير تعذيب" تنظمها مجموعة من الناس الذين تعرضوا للتعذيب منذ بداية الثورة.
 
تقول هند بكل شجاعة: "نحاول جمع صور لكافة الأشخاص الذين تورطوا في تعذيب الثوار منذ بداية الثورة حتى الآن، ونجمع أسماء الضباط داخل السجون وخارجها. سوف نحيط منازلهم بالسلاسل البشرية وسوف نتقدم بشكاوى قضائية جماعية ضدهم".
 
أحد أحلام هند هو محاسبة ومقاضاة الأشخاص الذين مارسوا التعذيب وشاركوا في القتل. لم يتحقق هذا الحلم في مصر حتى الآن. بل هذا هو حسني مبارك الذي حكم البلاد لما يقرب من ثلاثين عاماً والذي كان القائد العام للقوات المسلحة خلال الثمانية عشر يوماً التي شهدت الانتفاضة التي قتل فيها ما يزيد عن 800 شخص، ها هو قد أسقطت عنه في عام 2013 عقوبة السجن بالمؤبد بعد أن أدين بإصدار الأمر بقتل المتظاهرين. أما الطنطاوي الذي أدار البلاد وكان قائد الجيش خلال المحنة التي تعرضت لها هند، ها هو قد وفر له المخرج الآمن بل وكرم بمنحه أعلى وسام شرف في البلاد. وحسب ما ذكرته منظمة العفو الدولية "لم يحدث حتى تاريخ اليوم أن تعرض ضابط أمن واحد للمساءلة والمحاسبة عن قتل ما يزيد عن ألف متظاهر في أغسطس من عام 2013". مثل هذه العدالة الانتقائية ليس ما تطمح إلى رؤيته هند يحدث في مصر.
 
لا غرابة إذن أن تصدر أقسى العقوبات عن ناجي شحاتة، القاضي الذي أصدر الحكم في قضية هند وفي قضايا أخرى مشهورة بما في ذلك قضية صحفيي الجزيرة. فنظراً لكونه من أشد أنصار السيسي، لابد أن لديه ما يخشاه نظراً لدوره في النظام الذي لا يخضع لأي رقابة أو مساءلة. كثيرون من الذين خرجوا إلى الشوارع في مصر في عام 2011 وهم يهتفون "خبز، حرية، عدالة اجتماعية" وما يزالون يناضلون في سبيل إرساء هذه المبادئ، يجدون أنفسهم اليوم وراء القضبان. هذا في الوقت الذي ينعم فيه بقايا النظام القديم بالحرية أو عادوا ليسيطروا من جديد ويستلموا السلطة. الطريق أمام الثوار، وبشكل خاص النساء منهم، طويل وشائك. لكن يبقى الأمل حياً في نفوسهم طالما أن فيهم مثل هند بما جبلت عليه من تصميم واستعداد للتحدي.
 
* نادين مروشي: صحفية بريطانية من أصول فلسطينية، عملت في بلومبيرغ وفي النسخة الإنجليزية من صحيفة المصري اليوم، كما أنها تكتب في صحيفة ذي ناشونال الإماراتية وفي المجلة البريطانية ذي لندن ريفيو أوف بوكس. ونشرت لها كتابات في الفاينانشال تايمز وفي غيرها من الصحف الدولية.

(ميدل إيست آي)