قضايا وآراء

محاكمة الآخر للأنا المتمرد على النظرية والنص

1300x600
بداية ليس الهدف من هذا المقال إحداث شرخ في علاقة الأنا بالآخر وتعميق المسافة بينهما، بقدر ما هو محاولة لفتح نافذة منهجية، من أجل فهم طبيعتها ومن أجل إحداث قنوات للتواصل وتجسير الهوّة بناء على أن ّهذه العلاقة تقوم دائما على نوع من الازدواجية. فإما أن يكون هناك تطابق وانسجام أو يكون تضاد واختلاف. وفي كلتا الحالتين يقوم هذا البناء الوظيفي بخلق حالة من التوازن كقطبي المغناطيس السالب والموجب.
 
فالعلاقة بين الذّوات إذا ما قامت على جانب واحد تنتفي شروط التّطور، وتبقى الحالة في مربعها الأول دون تغيير يذكر وهو ما ينعكس سلبا على هذه العلاقة. 

التشابه والاختلاف هما عنصران أساسيان في كل علاقة بيذاتية، وهما بمثابة الضدّ الذي لا يستغني عن ضدّه فهما التكامل في أرقى تجلياته وأفضل مستوياته. 

الإشكال الوحيد الذي يمكن ان يصادر هذا التوازن ويحطّم منطقه الداخلي هو أن يتحول الاختلاف إلى خلاف يكون بمثابة القنبلة الموقوتة التي تحتاج أحدهم ليشعل فتيلها فتشوه كيمياء شخصية الآخر المختلف والمخالف. وأن أختلف معك هو أن أدلي بدلوي في أمر ما وأن تدلي بدلوك مع احترام قواعد النقد الذي يجب أن لا ينتهي إلى انتقاد وإلا جرفنا معه في سيل من اللغو المغلوط الذي لا فائدة ترجى من ورائه. 

الأنا والآخر: عقل مستقل وعقل مستقيل

الأنا والآخر عقلان يتصارعان في الـتّاريخ. عقل مستقل لانسقي يفكّر من خارج الظّاهرة متصالح مع ذاته مجدّد لنفسه وعقل مستقيل منبتّ داخل نسق معيّن لا يجيد سوى اعادة انتاج ذاته عاقد هدنة طويلة الأمد مع الكسل الفكري. وفي سياق التطابق والاختلاف نسوق ملاحظة رئيسية وهو أنّ العقل المستقيل ضروري من أجل أن يدرك العقل المستقلّ حدوده وقدراته ولسائل أن يسأل كيف يكون هذا؟؟

الآخر هو آخري أنا بمعنى انعكاس صورتي في المرآة بمختلف تموجاتها وانحناءاتها وانكساراتها، صورة مقلوبة متقلبة مشظّاة تعكس الوجه الآخر للأخر. 

وبناء على هذه الصورة تنكشف نواة الاختلاف وتتمظهر جدلية علاقة انطولوجية متشعبة .
بين العقلين المستقل والمستقيل

في إطار الحديث عن منظومة الافكار والمثل والمفاهيم والنظريات نتحدث عن جملة من العلاقات البيذاتية بين الانا والآخر علاقات يحكمها التنوع والاختلاف وحتى الخلاف.

نتحدث عن الفكر اي عن ما انتجته القريحة البشرية وعن تراكمات المعرفة في المخيلة الانسانية في معادلة علاقتها بالواقع ومحاولات هذا الفكر ان يكون متماهيا مع واقعه ينطلق منه واليه يعود او ما نعبر عنه بترجمة الافكار الى نظرية تتبنى منهجا معينا ثم تنتقل هذه النظرية الى بعد اخر وهو بعد الممارسة.

حسب هذا التمشي المفاهيمي السائد فان الممارسة هي وليدة النظرية وهو امر يتناقض مع نفسه اذا ما اعتبرنا ان الممارسة هي تلك التجربة القائمة على تبيئة المفهوم في الواقع.

ولا يمكن لآلة صناعة المفاهيم أن تشتغل إذا لم نخض غمار التجربة فلا يمكن لنا ان ندرك كنه ومفهوم الحرية اذا لم نعش تجربتها ولا يمكن لنا ادعاء اننا نتبنى الديمقراطية اذا لم يكن لنا حس قبول الاختلاف وإلا انتهى الامر الى نوع من الادعاء الزائف هذا المنهج يتبناه بعض المفكرين من طينة عبد الله العروي حيث يقوم بتسبيق التجربة على المفهوم والشعار بقوله :أليس الأنسب لنا ان نبدأ بالتجربة ثم نرتقي منها الى المفهوم وننهي التحليل بالشعار.

إن النظريات قائمة على توليد المناهج والمنهج هو وليد الواقع الذي نشأ فيه ويضم أدوات التحليل وهذه الأخيرة لن تثبت فعاليتها الا اذا انطلقت من واقعها اي ان الذات التي انتجت المنهج يجب ان تكون قد تبيأت في هذا الواقع لتكتمل عندها شروط فهمه وتحليله.

هذا الأمر يؤكد عليه هربرت ماركوز حين يرى ان الذات حين تفكر وتتكلم بالأصالة عن نفسها تتكلم وتفكر من وضع خاص في مجتمعها ولكنها اذ تسلك هذا المسلك تتكلم ايضا وتفكر داخل عالم من الوقائع والاحتمالات ومن خلال التفاعل المتبادل بين الذات المفكرة وبين هذا العالم وهذا المجتمع تتأكد القيمة الموضوعية للمفاهيم الشمولية.

الأنا والآخر على محك الأصولية (الأصولية الستالينية نموذجا)

إن فهمنا لمنطق تقدم التاريخ يستوجب منا تحديد الخطوط الكبرى لاهم النظريات والأفكار والمعارف والتوجهات العقدية التي تطفو كل مرة لتهدد استقلالية الفكر وتعمق فينا رفض الآخر وصولا الى تجريمه وتنصيب محاكم تفتيش جديدة لاخضاع فكره للمحاكمة وفق منطق اصولي جديد يرتدي ثوب المعاصرة.

إن النظرية القائمة على العقيدة تقود بالضرورة الى الدغمائية وهو المنبع الذي تتشيع له قوى الردة والجذب الى الوراء وأنا سأعتمد على رأي الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في تحديده لمفهوم الأصولية حيث يقول ان تعريف الاصولية واضح فهي تقوم على معتقد ديني او سياسي مع الشكل الثقافي او المؤسسي الذي تمكنت من ارتدائه في عصر سابق من تاريخها وهكذا تعتقد انها تمتلك حقيقة مطلقة وأنها تفرضها.

حسب تعريف الاستاذ غارودي فان الاصولية هي نقيض التقدم حيث تمثل عقبة امام المسارات التي تأخذنا للمستقبل. الاصولية ليست مرتبطة اذا بالدين فقط انما مرتبطة بالسياسة كعقيدة والسياسة بهذا المفهوم تشمل التوجه الاقتصادي ونمذجة المجتمع وتنميطه وفق توجهات معينة كذلك فان الاصولي هو ذلك الذي يقوم باحياء القديم واعادة فرضه في الواقع دون اعتبار لمقتضيات هذا الواقع ومتطلباته.

غن غارودي يتحدث عن مجموعة من الاصوليات : إصولية ستالينية، وأصولية فاتيكانية، وأصولية إسلاموية، وأصولية اسرائيلية، محللا كلا منها على حدة مبينا الميكانيزمات والأسباب الخفية لظهورها. ان كل فكر اصولي يدفع الى منطقة التاريخ والسياسة والاقتصاد وفق توجهات معينة ومخاكمة الاخر ليس لانه مختلف عنه بل لان كيمياء الاخر العقلية واطلسه الثقافي يرفضان الخصوع للمنطق النصي الأصولي.

الأصولي يقابله التقدمي في موازنة تباين قيمي بينهما وكلاهما على كلتا نقيض فالأول متمسك بالأصول حتى ولو كانت التربة التي انتعشت فيها قد تقادمت وتعفنت والثاني تحدوه امكانية الانطلاق من الاصل ليطوعه في خدمة الحاضر ويأسس به للمستقبل وان كان فكر الاصولي ارتجاعيا فان فكر التقدمي يمأسس لفهم جديد يحايث الواقع يتخلى ضمنه عن عقدة الخضوع للنص فهو هنا بمثابة الذات التي تنتج النص ولا تكون نتاجا له محكومة به.

من خلال هذا الطرح سأركز على نموذج الاصولية الستالينية الذي يذكره غارودي: "انه قلما يشبه فكر ماركس ما يسمى عموما بالماركسية " هكذا تحدث غارودي عن ماركس والماركسية.

إن الملاحظة الرئيسية من خلال دراستنا لموقفه ان فكر ماركس هو الاصل النظري الذي تأسست عليه الفروع الاخرى التي يعبر عنها بالماركسية وللنزاهة فان ماركس قد أحدث تورة في الفبسفة السياسية في عصره فاسس ما يعرف لدينا بعلم الاقتصاد السياسي الذي يتبنى المادية الجدلية منهجا قالبا قوانين الجدل الذي ارتكزت عليه المثالية الهيجلية "لئن كانت الجدلية مع هيجل تمشي على راسها فاني جعلتها تمشي على قدميها "هكذا قال ماركس.

ماركس ثار على فكر اساتذته وهو شاب بدءا بهيجل وصولا إلى فيورباخ مربكا فكر الطوباويين من امثال سان سيمون وبرودون مؤسسا لفكر له قاعدته الخاصة فهو حين تحدث عن ثورة لبروليتاريا تحدث عنها وفق لمحايثته لظهور المجتمع الصناعي وتبلور فكرة صراع الطبقات المرتبطة تحديدا بهذا النوع من المجتمعات.

لقد أعلن ماركس عن كل الموضوعات الكبرى للاشتراكية حتى قبل ان يقوم باي تحليل علمي للاقتصاد. تبنيه للاشتراكية كان اخلاقيا قبل كل شيء وكما يقول فلاسفة عصره كان بفعل ايمان يدعوه اليه. 

إن فلسفة ماركس النقدية تعكس مذهبه القائم على الاشتراكية العلمية وبالتالي لا يمكن لنا ان نختزلها في المعنى المذهبي الوضعي بحيث يمكن ان تتحول الى اصولية علموية تدعي انها الانعكاس لشامل والثابت للواقع ولايمكن لنا ايضا ان نختزلها في المعنى المذهبي الاصولي العقلاني الذي يقر بشمولية بنية العالم وخلودها في هذه الحقبة او تلك من لحظات تاريخه. 

إن العقيدة الاشتراكية يجب ان تقوم على مبدأ النسبية التاريخية والا انقلبت الى اصولية تنفي فكر الاخر وتجرده من كل الاعتبارات الانسانية. 

الانا قد يرفض الاخر ويدخل معه في بوتقة صراع لا ينتهي لان خطوط فكرهما لا تلتقي بحيث تنكمش ارضية الحوار وتتلاشى والسبب حسب رأي يعود الى طبيعة التركيبة الذهنية المنبثقة عن الاعتقاد بصفة دغمائية في حقائق الاشياء.