كتاب عربي 21

التسريبات الجنسية.. لماذا رضينا؟

1300x600
السؤال أطرحه على عشرة من رفاق الثورة، التوجهات مختلفة، المبررات مختلفة، الإجابة واحدة، نعم نوافق على إذاعة تسريبات جنسية لخصوم الثورة، هم أنفسهم من كانوا لا يرومون يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011 سوى الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، هم أنفسهم من كانوا يدافعون عن حقوق خصومهم قبل أن يطلبوا لأنفسهم شيئا، بل دون ذلك، هم أنفسهم من رفضوا في كل مراحل الثورة انتهاج العنف، أو المحاكمات الثورية التي تفضي إلى إراقات مجانية لأبحر من الدماء، وآثروا السلمية فلسفة وقيمة ومنهجا سياسيا وثوريا يتسق مع انحيازاتهم، صدقوا أنفسهم، ربما أكثر من اللازم، وها هم يكذبونها، ربما أكثر من اللازم.

هم أنفسهم، من رفضوا التشهير بالدكتور عبد الحليم قنديل ووصفوا ما فعلته أجهزة الأمن معه في الفيديو الشهير بالسفالة والوضاعة، وانحازوا إلى حرية الناس الشخصية، وعدم الخلط بينها وبين الموقف السياسي، هم أنفسهم الذين اشمئزت قلوبهم من المزايدات الرخيصة على صورة ابنة الدكتور البرادعي على الشاطئ، وكان فيهم من يرى فيه خصما سياسيا ويرى في نشر الصور الشخصية لابنته، سلوكا منحطا في آن.

هم أنفسهم، من استهجنوا التسجيل لأحد السلفيين في سيارته مع امرأة يطارحها الغرام، وقالوا بأن ما حدث سلوك فضائحي من الداخلية وكان أولى أن تسير القضية في مسارها القانوني الطبيعي، دون تشهير وتعميم على فصيل بأكمله، مثله مثل كل الفصائل، فيه الصالح وفيه الطالح، الشيء نفسه فعلوه مع قضية أنف البكيمي وما شابها من شماتة وازدراء وتربص، وانعدام في شرف الخصومة.

هم أنفسهم من سخروا من تسريبات المخبر "عبرحيم" وكتبوا في الدفاع عن أصحابها، وإن صحت ادعاءات التسريبات، بعد تدخلات المونتاج، والتعليق الصوتي من خارج السياق، ورفضوا كل ذلك لا من حيث التسليم بملائكية متيلة لرفاقهم، بل من حيث المبدأ.

السؤال وجهته لمن أعرف عنهم انحيازات ثورية ووطنية متباينة، ومتنوعة، ومشرفة، والإجابة كما أسلفت، توافق ربما لا يجمع بينهم في سياقات أكثر حساسية وخطورة.

ما الذي حدث؟ لماذا رضيتم على ما رفضتموه بشدة في سابق الأمر؟

أغلب الإجابات عصبية، تحمل مرارة اللحظة، وهزائمها، واحباطاتها، إلا أن إجابة أكثر عقلا، وانحيازا لكل ما أسلفت من قيم خلقية وثورية، قال صاحبها بالحرف الواحد، "إجابتي المجردة من العوالق بكل تأكيد هي رفض نشر التسريبات الجنسية"، هذه إجابة فلان الإنسان، والثوري، إلا أن موافقتي غير المشروطة، هي إجابة الناشط الذي اشتغل على ملف المعتقلين والمعتقلات، وقرأ، وسمع من أصحاب الشأن، شهاداتهم عن حجم الاغتصاب داخل المعتقلات، للشباب والبنات، والتهديد باغتصاب الزوجة في حالة الامتناع عن الإبلاغ على الزملاء في "السيكشن" الواحد لمجرد الاشتراك في مظاهرة بالجامعة، وتنفيذ التهديد بالفعل، في حالة بعينها، ووضع الشباب في "أطشات" مياة مع تذنيبهم برفع أيديهم إلى أعلى وفي حالة إنزال اليد يجري توصيل الكهرباء، فتتكهرب المياه ويصرخ الواقف، ويضطر أن يحافظ على يده مرفوعة لأطول وقت ممكن، ومع الوقت ينهار جهازه العصبي، فأي إجابة تنتظر مني شخصا متورطا في هذه الملفات بشكل يومي؟

الإجابات الأخرى جاءت محملة بغضب واضح من مجرد طرح السؤال، لماذا نسترهم، أو نحترم خصوصياتهم، وقد انتهكوا كل خطوطنا الحمراء، اختلقوا فضائح لا وجود لها، سجلوا مكالمات، فبركوا أخرى، لم يراعوا كبيرا أو صغيرا، وأحبطوا أحلام جيل بأكمله، خدعونا، لم يقطعوا عهدا إلا وخانوه، لم يعدوا بشيء إلا ولم يفوا، لم ينطقوا إلا كذبا، ولم يحكموا إلا ظلما وطغيانا، لا أخلاق مع هؤلاء، فليفضحهم معتز مطر على رؤوس الأشهاد، زملاؤنا في السجن، نحن مهددون، الثورة تلفظ أنفاسها ما بعد الأخيرة، ما الذي تبقى؟

تتباين الإجابات في صياغاتها لكنها لا تغادر هاتين الرؤيتين، لا طائل من وراء التستر عليهم، لا يستحقون، لو كانوا مكاننا لفعلوا ذلك وألعن.

إن الفضائح الجنسية لمسئولي دولة مبارك، القضاة وغيرهم، ما هي إلا غيض من فيض مما نعرفه، ويراه بعضنا رأي العين، لكن لا وجه لإثباته، وبناء عليه فإن توفر الأدلة عليها جانب هام من جوانب الصراع مع هذه الدولة، ولا يجوز تضييعه بالرومانسية الفارغة، تأتيني الإجابة من جناح أكثر يسارية، مجرد المحاولة للعودة إلى وجهة النظر الأصلية، ورفض التسريبات الجنسية، والتفرقة بين ما هو سياسي وما هو شخصي يسمم أجواء اللقاء، ويضع صاحبه في مرمى الاتهام من أقرب الناس إليه.

إن الماضي هو المسئول الأول عن كل مرارات الحاضر، وها نحن بدورنا نصنع حاضرا يضمن امتداد هذا المرار الطافح وسريانه في أوصال المستقبل، فما أفسد العلاقة بين الثوار سوى قوى الماضي، وما أفسد قوى الماضي سوى ما يحملونه على ظهورهم من "عقد"، و"كلاكيع"، الاضطهاد والمظلومية، وما أجج الخلاف وجعل الاستقواء بالعساكر أرحم من النزاع السياسي وفق آليات اللعبة واشتراطاتها سوى الماضي، وما أوردنا موارد التهلكة الثورية والسياسية (والأخطر: الاجتماعية) سوى مزيد من قياس الحاضر على الماضي، ولا يعني عدم التجاوز سوى مزيد من التجاوز في حق أنفسنا و قابل الأيام.

وأقول لكم، إذا كانوا قد أرادونا عبيدا، فنحن نكرس بانتقامنا غير الأخلاقي منهم ومشابهتنا لهم لمزيد من العبودية .. نحن نستعبد أنفسنا ونحن نتصور أننا نرد الصفعة لخصومنا، إن الأحرار لا يناسبهم بحال سلوكيات العبيد، فإن اختلطا طغى الغث على السمين، وأفسدت نقطة الحبر الأسود جالون الماء الرائق وغيرت طعمه ولونه ورائحته.

إن الموقف من التسريبات الجنسية لا ينبغي له بحال أن يكون مجرد رد فعل على ما يمارسونه بحقنا وبحق البلاد من جرائم تصل إلى حد الاغتصاب، والتهديد بأعراض النساء، والتشويه، والكذب، والفبركة، وإصدار الأوامر العسكرية للقضاة، إلى غير ذلك من الموبقات، إنما علينا أن نتبنى مواقف تتسق مع رؤيتنا وأهدافنا، ووسائل تتناسب مع غاياتنا، وسبلا لا تتعارض مع أخلاقنا التي آمن بها الناس وصدقوها فشاركونا أكثر من 15 يوما من 18 يوما هي عمر الموجة الأولى من ثورة مصر "الوحيدة" في كانون الثاني/ يناير 2011، ولولا ابتعادنا الجزئي عن هذه القيم وتفرغ كل منا للآخر منذ مذبحة ماسبيرو وحتى الغد، لظل الناس معنا ولما استطاعت قوى الثورة المضادة أن تنفذ من ثغورنا، فليكن الرفض من أجلنا لا من أجلهم، وليكن الصراع أخلاقيا وإن أرادوه غير ذلك، هذا ما يليق بنا وبما نصبو إليه، والله غالب.