كتاب عربي 21

طه حسين.. من الإسلام إلى الإسلام!

1300x600
طه حسين هو السؤال والجواب.. من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نتجاوز ونصل، نخترق فلا نحترق؟ بالإسلام.. بالغرب.. بهما معا.. بالإسلام الأول.. بالإسلام المجرد من الخرافة وحمولة التاريخ.. بماذا؟

الإجابات لا تجدها في كتاب واحد من كتبه التي تجاوزت الخمسين كتابا.. لا الشعر الجاهلي وحده ولا مرآة الإسلام وحده.. لا مستقبل الثقافة في مصر ولا الشيخان لا في مقالاته قبل البعثة الفرنسية ولا في مقالاته بعدها مباشرة، ولا في مقالاته ومراجعاته قبل ثورة يوليو (1952) بقليل وبعدها، بل بمشروعه كاملا.. فهو الرجل يساوي فكرته، وهو المشروع الذي لا يقرأ إلا بترتيبه الزمني كما كتبه صاحبه، واستدعاء سياقات الممارسات الدينية والسياسية والثقافية التي أنتجت الأفكار. هنا يصبح لطه حسين ولمشروعه دلالة ثقافية وحضارية أعمق بكثير من الدلالات الأحادية التي تشبث بها مريدوه وخصومه على حد سواء.

بدأ الشيخ طه بالإسلام. التعليم الشرعي، والكتاب..، حفظ القرآن طفلا، ووعاه - على قدر ما يحتمل شبابه - شابا، وآمن به، متحمسا، بلا أسئلة كبرى، ولا قلق، سوى الرغبة في تجاوز الكبوة الحضارية. كتابات طه حسين الأولى سلفية تقليدية، بامتياز، لكنها لا تخلو من بذور القلق والحيرة والتقلب والسؤال الذي ستثمر فيما بعد. يكفيك أن تعرف أن حبيب سوزان الفرنسية المسيحية، فيما بعد، كتب في بدايات حياته الفكرية يحرّم (من موقع الشيخ الأزهري) زواج المسلم بالمسيحية، ويقول إن الظرف التاريخي والحضاري اختلف، وأن الزواج من المسيحية، رغم كونه حلالا، إلا أنه في هذا الزمن (زمانه) خطر على دين الأسرة المسلمة وهويتها... نعم نحن نتحدث عن طه حسين، وليس عبد العزيز بن باز...!

سافر حسين إلى فرنسا، بيقينه الأزهري، التراثي، التقليدي، وعاد بيقين جديد، أوروبي، حداثي، لا يختلف عن سابقه إلا في اتجاه بوصلته، ودون ذلك فهو اليقين التسليمي التبشيري، أما المقصد فقد كان هو المقصد: تجاوز نكبة الأمة الحضارية، وارتقائها.. سؤال طه وجيله، الذي لم يزل سؤالنا: كتب طه حسين كتابه الأزمة في الشعر الجاهلي ووضع كل ما تربى عليه على طاولة السؤال. رفض طه حسين أن يكون القرآن مصدرا تاريخيا معتمدا، وألمح إلى حاجة الكتاب إلى التصحيح في بعض سطوره وعباراته. صدم طه حسين الرأي العام، لكنه رفض بوضوح أن يرميه أحد بالكفر، أو بالانسلاخ عن الإسلام، رغم أن السياق وقتها كان يحتمل ذلك، ربما أكثر من سياقنا الأقل تسامحا الآن، إلا أن طه رفض لأنه بالفعل لم يفقد إيمانه بالكلية، إنما تمرد على أفكاره القديمة حول هذا الإيمان.. لم ينكر الطريق إنما أنكر الطريقة، ولا فارق هنا بين العميد وبين الكثير من أبناء جيله، سوى أنه جهر بما يعتمل في عقله ونفسه ووجدانه. فكر بصوت عال، ورفض أن يعيش بين الناس بالتقية، فكانت أفكاره سببا لإنتاج المزيد من الأفكار من حوله، وساهم في صقل نقاده بقدر ما أسهموا جميعا في إنضاجه وصقله من بعد. ولعل أقرب وصف لهذه المرحلة من حياة الشيخ طه هو ما قاله المحقق، الذي استجوبه بشأن كتابه في الشعر الجاهلي، بعد أن أخذوه بكلامه إلى المحكمة، كما هي عادتنا الذميمة، حيث ذهب الرجل القانوني الذي كان أنضج كثيرا في صياغاته وأكثر انضباطا من مشايخ هذا الزمان؛ إلى أن طه "يتخبط"، ولم يقاضه، لأنه لم ير في ما حدث جريمة، إنما رأى أن الباحث طرح السؤال ولم يصل ببحثه إلى الجواب... صدق.

كانت مرحلة الأسئلة الصادمة العنيفة التي أتعبت صاحبها لأنه لم يجد لها جوابا، فقرر أن يتعب معه أبناء هذه الثقافة التي أنجبته وأحبها فآلمته، ولم تزل. هذه هي المرحلة التي يتوقف عندها أغلب الإسلاميين في زماننا، ليقيموا طه حسين بوصفه كافرا ملحدا، فيما يتوقف عندها أيضا، خصوم الإسلاميين، نكاية، ليقيموا بوصفه حامل مشاعل التنوير الذي هو بالضرورة غير إسلامي. والحق، أن القارئ المتمهل لهذه المرحلة من حياة صاحب الوعد الحق؛ يدرك أن صاحبها مسلم قلق الإيمان؛ لا هو كافر ولا هو لا ديني، ولا هو متغرب بالمعنى الحقيقي، إنما هو المسلم الغاضب من تخلف حضارته، المعبر عن هذا الغضب بطرق ومسالك شتى تتناقض في صياغاتها وتتفق في مقاصده: النقد من أجل النهضة.

بعدها، بدأ طه مرحلة جديدة، على مهل - كما القهوة - يرتشف رشفة رشفة، فيكمل في طريق النقد، والخصومة مع الخرافات التي لحقت بالفكر الديني، لكنه يتجاوز القرآن الكريم، الذي يسلم بإلهية مصدره، ويراه نصا وحيدا متفردا في بابه؛ لا شيء يشبهه مما يسبقه ولا شيء يجاريه مما يليه، فلا هو شعر ولا هو نثر، بل هو المعجزة التي لا يملك "العقل" جحودها وإنكارها، والتي لا يصلح للعقل الحديث إلها، بعد أن مل هذا العقل المعجزات الحسية، ولم يعد في حاجة إليها. يتجاوز النقد الطهوي كتاب الله إلى التاريخ، ويكتب في الإسلاميات، رافضا الكثير من مثاليات الرواية التاريخية التقليدية لصدر الإسلام، متقدما ببطء من إسلام آخر غير الذي بدأ به، وقناعات أخرى غير التي مر بها. ولم يستقر، فمثله في حركة دائبة، كالكون، لا يتوقف، ولا يستقر، وينشغل طه بالإسلاميات كتابة ونقدا، فيتناول مؤلفات العقاد وهيكل وتوفيق الحكيم، الإسلامية، بالنقد والتحليل، كما يكتب عن التجارب والدعوات الإسلامية، في العصر الحديث، فتراه يحتفي بالوهابية في سياقها التاريخي، ويقول إنه لولا تكالب المصريين والأتراك على هذه الدعوة، لكان لها أثر فعال في توحيد كلمة العرب.

مرة أخرى نحن نتحدث عن طه حسين، من كتبه ومقالاته، لا من كتب نقاده من الإسلاميين، الانفعالية المتسرعة، أو مجاذيبه من أصحاب دكاكين التنوير العصابي. نعم، امتدح طه حسين الحركة الوهابية وصاحبها، وسواء اتفقنا معه في نظرته التاريخية أو اختلفنا، لأننا رأينا من مآلات هذه الدعوة ما لم يره طه، فهذا ما حدث. ليس ذلك فحسب، إنما تجاوز طه ولعه بقادة الفكر الغربي ليحدثنا عن ابن تيمية المناضل الذي أنكر عليه علماء عصره وتعقبه الساسة والحكام، ولم يثنه ذلك عن مسيره، وكأن العميد حين يرى نفسه هذه المرة لا يراها في في قادة الفكر اليوناني، إنما في ابن تيمية!

وفي صوت أبي العلاء، يتحدث العميد إلى طلابه لافتا نظرهم إلى عدم حاجتهم لالتماس الفكر النقدي من نيتشة أو شوبنهاور، وعندهم صوت أبي العلاء يدوي قبل ميلاد الحضارة الغربية، ناقدا، صارما، وشاعرا عظيما، لاحظ: أبو العلاء في سياقه التاريخي كان طه حسين آخر، الأعمى، رهين المحبسين، الناقد، المتشائم، القلق، الغاضب، الذي تفنن فقهاء زمانه في إساءة الظن به ورميه بالكفر، فيما اعتبره من قرأوه بعين التاريخ البعيد وليا من أولياء، ووضعه بعض المعاصرين، ومنهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي من المجددين في الإسلام..!

في المحطة الأخيرة، وقبل موته في غمرة انشغالنا بحرب أكتوبر، عبر طه حسين خط السؤال المنيع، وكتب مرآة الإسلام، والشيخان.. قناعاته الأخيرة قبل أن يسلم الروح، وفيهما رؤيته الإسلامية الهادئة، وثمرة مخاضاته الطويلة مع الفكر والأدب والحياة، وبذلك يكون طه حسين قد بدأ بالإسلام وانتهى بالإسلام. وما كانت رحلته بينهما إلا انتقالا من اليقين المغلق إلى الإيمان المنفتح على السؤال.. اقرأوه.