مقالات مختارة

تركيا في المعادلة الروسية - الأوروبية

1300x600
لازالت تداعيات تأثير الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا مستمرة، حيث إن مساحة تأثير هذه الزيارة تزداد يوماً بعد يوم؛ والسبب الرئيس في ذلك هو أن الرئيس الروسي يواصل لعبه في ملف الطاقة من خلال التغيير الذي أجراه على ورقة مشروع "السيل الجنوبي"، ومن المنتظر أن تأتي ورقة هذا المشروع، الذي بدأ المسؤولون والمعنيون الروس الحديث عنه كمشروع تركي، بالكثير من الحملات وردود الأفعال الغاضبة، لا سيما تلك التي تعبر عنها أوروبا بين الحين والآخر.

ولا يخفى على المتابع للشأن الدولي أن الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط إلى دون الـ60 دولاراً للبرميل الواحد، من شأنه أن يسبب أزمة اقتصادية لروسيا، خاصة أن النفط يشكل مصدر دخل مُهمّا من مصادر دخل موسكو. 

فمنذ شهر حزيران/ يونيو الماضي انخفضت أسعار النفط بنسبة 50% تقريباً؛ الأمر الذي بات يشكل ضغطاً اقتصادياً على موسكو، لا سيما أن سياسة العرض لم تشهد تراجعاً على الرغم من تلك الأسعار المتدنية للنفط.

وعلى الجانب الآخر فإن الاتفاقيات العملاقة في مجالي النفط والغاز الطبيعي، التي أبرمتها الإدارة الروسية مع العديد من الدول، مثل الصين والهند، توضح لنا أن الهدف من ورائها هو إثبات أن الدول الأوروبية لم تعد السوق الوحيد لروسيا. أما تركيا فتعتبر بمثابة اللاعب الثابت الذي لا يتغير في لعبة الطاقة هذه، إذ إنها تراقب تلك التوازنات المحفوفة بالمخاطر، وبناءً عليها تتخذ مواقفها.

رد الفعل الأوروبي، وما اعتادته من توقعات من تركيا القديمة

من الجدير بالذكر أن تغيير روسيا لمسار خط "السيل الجنوبي" - الخاص بنقل غازها إلى جنوب ووسط أوروبا، واستبعادها بلغاريا خارج اللعبة - قد قوبل بردة فعل غاضبة للغاية من قبل العديد من الدول الأوروبية، ولا سيما ألمانيا. والغريب في هذا الغضب هو أن أوروبا تريد جعل تركيا طرفاً في غضبها تجاه روسيا، بل والأغرب أنهم أخذوا يتوقعون ويأملون أن تدعمهم تركيا في أي قرار يتخذونه لمجرد أنها - أي تركيا - دولة مرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي.

ولقد كان رد فعل تركيا القديمة حيال مثل هذه الأمور أنها كانت تقبل بالقرارات التي تتخذها أوروبا من أجل مصالحها هي - أي أوروبا -، كانت تقبل بمثل هذه القرارات بشكل مطلق ودون أي تردد، بل كانت تدافع عن تلك القرارات دون كلل أو ملل، ولم يكن يعني القائمين على إدارة تركيا - في تلك الآونة - كون هذه القرارات لها أضرار على مصالح تركيا أم لا، كانوا يوافقون ويصادقون على تلك القرارات دون أن ينظروا إلى مصلحة بلدهم وشعبهم. 

وعند الحديث عن مشروع خط "السيل الجنوبي"، وزيادة حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا، يمكننا القول إنهما أمران يحملان أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد التركي، ولا تختلف هذه الأهمية عن الأهمية الكبيرة التي تحملها أيضاً لتركيا العلاقات التجارية والاقتصادية القائمة منذ سنوات مع البلدان الأوروبية، وذلك لأن الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة لتركيا الجديدة لن تقوم على كون أحدهما بديلاً عن الآخر، أو ترك هذا من أجل ذاك.

ولا شك أن الدول الأوروبية - التي حققت تركيا معها ما يقرب من 44% من حجم تبادلها التجاري اعتباراً من عام 2014- لازالت تعتبر أكبر حليف تجاري لتركيا في الوقت الراهن. والحرص على عدم تضرر هذه الشراكة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للطرفين. لكن إذا كان هناك ارتباط سياسي واقتصادي بين الجانبين، فهو بمفهوم الوقت الراهن، وليس كما كانت عليه الأمور في تسعينات العام الماضي. وتركيا كما تعلمون مرشحة لأن تكون عضوة بالاتحاد الأوروبي، وهي ترغب في ذلك، لكن هذا الأمر ليس مسوغاً لأن تقبل كافة المطالب الأوروبية دون أن تفكر في مصالحها هي، لقد كان هذا المفهوم سائداً في الماضي، ولم يعد له وجود الآن. 

والشيء الوحيد الذي لم يتغير في ظل كل هذه الأمور هو أن تركيا دائماً ما تتعرض من الدول الأوروبية لتقييمات غير عادلة، على الرغم من أنها تنتظر عضوية الاتحاد منذ نحو 50 عاماً، وباتت تحظى بمكانة اقتصادية أفضل من كثير من الدول الأوروبية، واتخذت العديد من الخطوات الناجحة في مجالي الحقوق السياسية والاجتماعية في مطلع الألفية الثانية. وقد كان هذا الأمر سبباً في غضب تركيا حيال ذلك التجاهل، لكن السبب الأقوى الذي جعل تركيا ترفع من صوتها لرفض السياسيات الأوروبية تجاهها، لا سيما فيما يتعلق بمسألة تفاوضها لدخول النادي الأوروبي، هو أن الدول الأوروبية لا تتنازل قيد أنملة عن مصالحها من أجل انضمام تركيا إليها، في حين أن أنقرة ترى أن انضمامها لأوروبا هدف استراتيجي بالنسبة لها.
 
تركيا في مكانها، وليست مشتتة بين روسيا وأوروبا

من الجدير بالذكر أنه مهما كانت العلاقات السياسية والاقتصادية مع أوروبا مهمة بالنسبة لتركيا، فإن روسيا أيضا تعتبر جارا لا يمكن الاستغناء عنه، ومع هذا فإن الاتحاد الأوروبي يريد أخذ تركيا في صفه بخصوص العقوبات التي يفرضها على روسيا. وبتغيير مسار خط "السيل الجنوبي" ليمر عبر تركيا، فهذا يعني أن تركيا ستكون الجسر الذي سيتم من خلاله عبور الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وبالتالي فبات من الضروري حل المعادلة الروسية – الأوروبية بأي شكل من الأشكال، لا سيما إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن حاجتنا إلى الطاقة ستزداد على المدى القريب أو المتوسط، وأن الجزء الأعظم من هذا الاحتياج سنؤمنه عن طريق روسيا.

لكن الاتجاه في هذه المعادلة إلى إجبار تركيا على خيار معين بين الطرفين، لا يعتبر نهجاً واقعياً بالنسبة لتركيا التي باتت دولة تحدد بنفسها أجندتها السياسية والاقتصادية. وليعلم الجميع أن المصالح القومية لتركيا ستكون المحور الذي سيحدد علاقاتها مع كل من أوروبا وروسيا. لذلك لا بد من الابتعاد عن مسألة وضع تركيا ضمن فريق أو تيار معين، إذ إن تركيا ليست دولة مشتتة بين أوروبا وروسيا، وإنما دولة راسخة وثابتة في مكانها بثقلها وحجمها.

أردل طناس قاراجول – يني شفق
22-12-2014