قضايا وآراء

المقاومة الفلسطينيّة تنتصر للثورات العربيّة

1300x600
 1.    بات من الممكن، بعيدا عن المبالغة والتهويل وأحاديث الأماني، أن نقول إن المقاومة في غزّة قد حقّقت  نصرا استراتيجيا يتجاوز ما كان من بلائها على الساحة العسكريّة، رغم الخراب الذي حلّ بمختلف أحياء القطاع المحاصَر، إذ أنّها أفشلت خطّة العدوّ وحالت دون تحقيقِه أهدافَه التي شنّ حربه على غزّة لأجلها، فلم يتمكّن من شلّ قدرات المقاومة ولم يضع حدّا لصواريخها.. بل إنّ الصواريخ ظلّت تُطلق على مدنه وبلداته حتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان وقف إطلاق النار. ولم يقدر على تدمير الأنفاق التي باتت تقضّ مضجعه لمّا حوّلت المعركة إلى داخله ونشرت الرعب بين سكّان المدن والبلدات داخل فلسطين المحتلّة كلّها. ولم يتسنّ له إملاء شروطه وفرض خياراته...

2.    لم تختر المقاومة الحرب بل فُرضت عليها الحربُ فرضا، ولكنّها رغم ذلك أثبتت أنّها لم تفاجَأ بها نتيجة ما تتميّز به من صحو دائم مكّنها من افتكاك المبادرة والتحوّل سريعا من ردود الأفعال إلى المبادأة ومن الدفاع إلى الهجوم.. فالعدوّ هو الذي بدأ المعركة ولكنّ المقاومة ظلّت طيلة الحرب تملك وحدها أمر نهايتها، نتيجة إعدادها وبفضل حركتها الواقعية وتقديرها لموازين القوى ومعرفتها بأنها تواجه جيشا من أعتى جيوش العالم وأكثرها تسليحا...

3.    قطعت المقاومة الطريق على عهد جديد من التحالفات المكشوفة بين دولة الكيان الصهيونيّ وبين أنظمة عربية ونخب فكرية وإعلامية باتت تتبجّح بمساندة الحرب على غزّة وتُفحش في مهاجمة المقاومة وأنصارها والمدافعين عنها وتمعن في الاستهزاء بهم وفي التثبيط من عزائمهم.. لقد صار التحالف بين تلك الأطراف بيّنا ولم يعد تآمرا مخفيًّا.. والمقاومة بما أنجزته قد أوقفت نزيفَ الهرولة باتجاه دولة الكيان التي فقدت ما كان لها من سطوة تحت ظلال سيوف جيشها الذي لا يُقهَر.. ولقد قُهر الجيش الذي لا يُقهَر ولم يعد قادرا حتى على حماية منتسبيه وقياداته...

4.    حكمت المقاومة على نتنياهو بانتهاء خدمته السياسية.. إذ أخذ تأييدُه يتقلّص مع بداية الحرب على غزة.. فمرّت نسبة مؤيديه من 89  % في أيّام الحرب الأولى إلى ما دون 32 % في أيّامها الأواخر.. لينفد رصيده السياسي مع التوقيع على اتفاق الهدنة الأخير.. وبدل النصر الصهيونيّ المنتَظَر تأذن المقاومة الفلسطينية بإحالة بنيامين نتنياهو على "المعاش السياسي" الوجوبيّ مثلما أذنت كتائب القسّام لسكّان الدولة العبرية بالعودة إلى مساكنهم وقد كانت قالت لهم من قبل "فرّوا إلى مخابئكم لا تحطمنّكم المقاومة وصواريخها"...

5.    وضعت المقاومة نهاية لكلّ التسويات الفوقيّة وأعادت القضية لشعبها بعد أن أضاعتها الأنظمة السياسية الرسمية داخل الأروقة المظلمة وعلى موائد المزايدات والصفقات.. فلا مكان لتسويات مذلّة كتلك التي وُقّعت في أوسلو.. لقد دُفنت اتفاقية أوسلو بين أنقاض غزة، كما عبّر أمين عام حركة الجهاد الإسلامي رمضان عبد الله شلّح في ندوته الصحفية يوم 26 آب/أوت 2014.. ولقد انتهى محمود عبّاس مثلما انتهى شريكه نتنياهو.. وانتهت معه كامل منظومة أوسلو..  ونلحظ علامات تلك النهاية في مظهر عباس وهو يعلن ،معتكر الوجه، عن اتفاق الهدنة.. فبدل أن يكون الرئيس الفلسطينيّ مبتهجا وهو يعلن عن وقف إطلاق النار وفق شروط المقاومة ظهر في هيأة من جاء ينقل خبر نعي.. "عزّيه يقبل العزاء"...

6.    أخرجت المقاومة القضية الفلسطينية من لعبة المحاور وحرّرتها من سطوة أنظمة "ممانَعَةٍ" زائفة اتخذت القضية قاعدة للابتزاز.. فلقد ظلت المقاومة والقضية أمدا طويلا رهينتين لدى أنظمة سمسرة انتهى عمرها الافتراضي بنهاية الحرب الباردة.. وبقيت المقاومة، مكرَهةً، تتحرك تحت أسقف حكّام جاءت بهم بدعة التوريث، ينكّلون بشعوبهم ويستعملون القضية الفلسطينية ورقة ابتزاز لتأبيد تسلّطهم وإطالة أمد حكمهم.. واليوم انعتقت المقاومة الفلسطينية وعانقت شعوبها التي ظلت وفية لها لا تغادرها ولا تتلوّن بألوان حكّامها ولا تنزل عند سقطاتهم ولا ترضى بمساوماتهم.. عادت القضية إلى الشعب فحضنها وحضن مقاومته يفديها بكلّ شيء يقاسمها الوجع والفرح ولا يتخلّى عنها، فيسفّه بتحمّله الأسطوريّ تقديرات العدوّ والمراهنين على هزيمة المقاومة وانكسارها وتخلّي الشعب عنها...  
7.    لقد أريد للحرب على غزّة أن تكون استنساخا لانقلاب عسكر مصر على الثورة المصرية.. تفرّد السيسي قائد الانقلاب بجماعة الإخوان فأمعن في التنكيل بهم مسخّرا جميع مقدّرات الدولة المصرية وأراد نتن ياهو أن ينسج على منواله  ويتفرّد بحركة حماس الإخوانيّة، بعد أن فقدت كلّ سند وباتت وحدها في العراء وتُركت لقدرها تجابهه منفردة. ومثلما فعل السيسي بالمصريين وبشّار بالسوريين أمعن نتن ياهو في سحق غزة بعد حصار الثماني سنوات الذي كان إعداما بطيئا أريد له أن يتوَّج بالحرب الأخيرة.. ولكن المقاومة ببلائها والشعب بتحمّله قلبا المعادلة...

8.    لم تنتصر غزة لذاتها ولم تثأر المقاومة لفلسطين فحسب ولكنهما انتصرتا للثورات العربية التي يُطلب رأسها من جهات متعدّدة على رأسها أنظمة طاعنة في السن والإجرام رأت خطر شعوبها يتهدّدها فبادرت إلى شنّ حرب استباقية على شعوب الدول التي أرادت إسقاط أنظمتها الحاكمة.. انتصرت المقاومة للشعوب العربيّة ضدّ حكّامها لأنّها تعلم جيّدا أنّ تلك الشعوب قد وقفت، رغم حدود الأنظمة وحواجزها، جنبا إلى جنب مع قضيتها الأمّ، القضية الفلسطينية، ولم تتراخ يوما واحدا في تقديم دعمها إلى فلسطين المحتلة.. ولم تضع بوصلة الشعوب رغم كل ما فعلته الأنظمة المتغلّبة..

9.    لقد خذل النظام العربي الرسمي القضية الفلسطينية ومضى يسلمها إلى الأعداء دفعة وتقسيطا.. بدأ الخذلان مع تخلي الجيوش العربية عن نصرة الأرض المحتلة سنة 1948 ولم ينتصروا لها بغير عبارة "النكبة" يذرفون عند ذكراها دموع التماسيح.. ومن النكبة عبروا إلى الهزيمة في حرب 1967.. وللتخفيف من وطأة الهزيمة على الضمير العربي وجد عبد الناصر الحلّ في استعارة عبارة "نكسة".. وحتى حرب أكتوبر 1973 التي أبلى فيها الجيش المصري البلاء الحسن قلبها أنور السادات إلى اتفاقية لا تسمن ولا تغني من جوع.. وحتى يجهزوا على القضية دبّروا لها مشروع تسوية داخل أروقة أوسلو.. واغتالوا عرفات وأدخلوا محمود عباس عريسا على فلسطين ليشرف على آخر مفردات خرابها...

10.    إن في انتصار المقاومة، الذي لا يخجل بعض المثبّطين من التشكيك فيه، انتصارًا للثورات العربية التي يراد غدرها.. لقد تحاملت غزّة على نفسها ونهضت من بين أنقاضها لتردّ الجميل إلى شعوبها الوفية وهي تعلم أنّ الشعوب العربية سندها وشرط نصرها وتدرك أنّ في نجاح ثوراتها بداية لتحرير فلسطين من الماء إلى الماء.. انتصرت المقاومة في غزّة على جيش الاحتلال الصهيونيّ وذلك فاتحة لانتصار الثورات المترنّحة.. ثورة المصريين ضدّ مجرم الانقلاب العسكريّ وقد تركه حليفه نتن ياهو وحيدا نهبا للعجز والقهر والبقرات العجاف يأكلن ما قدمت لهنّ الإمارات العربية المتحدة ولفيف الثورة المضادّة.. وثورة الليبيين ضدّ بقايا النظام البائد.. بل سيكون فرح المقاومة بنصرها مقدّمة لثورات لم تر النور بعدُ على حكّام طاعنين في السنّ والجريمة.. والشعب غالب على أمره ولكنّ حكّام الخيبة لا يعلمون...