مقالات مختارة

مسارات الإسلاميين السوريين الصعبة

1300x600
في 17 أيار الحالي أصدرت المجموعات الإسلامية المقاتلة الأكثر ظهوراً بياناً أسمته “ميثاق شرف ثوري للكتائب المقاتلة”، ليثير موجة عارمة من ردود الفعل داخل الفضاء الجهادي العام، ويعيد ترتيب الصفوف والتمايزات مرة أخرى، ما بين من يستخدم خطاب “التنازل والانبطاح” ومن يردّ عليه بخطاب “السياسة الشرعية”، ليظهر في محاولة للتوفيق خطاب “التناصح بين إخوة المنهج”، ليؤكد الميثاق كونه مرحلة مفصلية وعلامة فارقة في مسار الخطاب الإسلامي السوري، والتحالفات الفكرية والميدانية في الثورة المسلحة.

مراحل الخطاب الإسلامي السوري

لم تبدأ الثورة السورية من بخطاب ايديولوجي واضح، بقدر ما كانت انتفاضة شعبية للمجتمعات المحلية ضد السلطة، يحضر فيها الدين كعاضد هوياتي وروحاني، لا كمشروع سياسي واضح، وأسهم انكفاء المؤسسة الدينية المدنية عن المشاركة في الثورة أو تأييدها حتى وقت متأخر، إضافة لانحياز الإخوان المسلمين نحو تقديم خطاب سياسي أكثر ليبرالية من واقع المعركة، في عدم توفر خطاب إسلامي جهادي يوفر حاضناً رمزيا للمقاتلين، الفراغ الذي هيأ دخول القاعدة إلى خط القتال مع إعلان جبهة النصرة في 24 كانون الثاني 2012م، وبدء إعلان تحالفات بين المجموعات المحلية تحت مظلة خطاب جهادي ومشروع سياسي في صيف العام نفسه (جبهة تحرير سوريا الإسلامية والجبهة الإسلامية السورية)، وقامت الأخيرة في جزء كبير منها على مجاهدين سوريين سبق أن قاتلوا في العراق أو سُجنوا في صيدنايا، هذا في مقابل فشل مشاريع التنظيم العسكرية تحت اسم “الجيش الحر” أو المجالس العسكرية”، وانغلاق أفق الحل السياسي، وتعاظم الطابع الطائفي الواضح في حرب النظام وتحالفاته.

بينما كان خطاب جبهة النصرة واضحاً في انتمائه إلى القاعدة ،فإن التحالفات الأولى كانت تحاول إعلان خطاب جهادي محلّي ومعتدل في لغته ويحاول تقديم نفسه كخطاب جهادي وسياسي إسلامي دون المبالغة في استخدام اصطلاحات مثل “تطبيق الشريعة” و”الولاء والبراء” و”دار الإسلام ودار الكفر”، خاصة أن النصرة لم تكن فصيلاً مركزيّاً في الوضع الميداني بعد، فلم تشكّل “الآخر” الذي يًصاغ الخطاب وفق لغته أو اتهاماته.

هذا الآخر كان الحاضر في المرحلة الثانية من تطور خطاب هذه المجموعات نفسها، والذي ترافق مع تطور ميداني أعلنته عبر توحدها تحت مظلة “الجبهة الإسلامية” في 22 تشرين الثاني 2013م، كمشروع يطمح ليكون بديلاً سياسياً وحاضناً للإسلاميين تحت مظلة “سلفية”، بعد قرابة عام من مرحلة التوحد وإعلان الذات الأولى، شهد هذا العام تنامي حضور جبهة النصرة والمهاجرين ضمن الحالة المقاتلة للنظام، بالتوازي مع تنامي اعتماد النظام على الميليشيات الشيعية غير السورية، والأهم من الأمرين، هو “تمدد” تنظيم دولة العراق والشام، الآخر الذي شكل خطاب الجبهة الإسلامية في ميثاقها الإعلاني الذي ركّز على الرد على اتهامات التنظيم ومزايداته الشرعية، ما أدى إلى انحصار جمهور الخطاب إلى الجمهور السلفي الجهادي، وانحسار أفقه إلى اللغة الشبيهة بالخطاب القاعدي، بتركيزه على عناصر “تطبيق الشريعة” و”أخوة المنهج” وبعده عن عناصر “ممارسة السياسة” و”الرابطة الوطنية”، ما مثّل تراجعاً بالنسبة لخطاب أحرار الشام أنفسهم (باعتبارهم هم المسؤولين عن صياغة ميثاق الجبهة، والطرف الوحيد المحسوب على السلفية الجهادية فيها)، بالمقارنة مع البيانات التي أصدرتها الحركة مع “الجبهة الإسلامية السورية”.

أدى قيام الجبهة الإسلامية، ثم فشل وعدها بالاندماج التام، إلى موجة من التحالفات بين الإسلاميين (غير السلفيين)، مثل جيش المجاهدين والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، ما فرض ميدانياً قدراً من التعدد في تمثيل المشروع الإسلامي المحلي. 

أدت الحرب مع تنظيم الدولة، بدءاً من 3 كانون الثاني 2014م، وامتداد الصراع إلى القطيعة الجذرية ما بين التنظيم وقيادة القاعدة نفسها، بعد أن كانت قطيعة بين التنظيم والمجموعات المحلية المجموعات الإسلامية (غير القاعدية)، أدى إلغاء الشرعية هذا إلى التحرر الرمزي من خطاب التنظيم وأفقه بالنسبة للتيار الجهادي المحلي (أحرار الشام) أو الفصائل الإسلامية عامة.

ورغم انسحاب الجبهة الإسلامية من المجلس الإسلامي السوري الذي أعلن تأسيسه في 14 نيسان 2014م، بعد هيمنة التيار الدمشقي والإخواني عليه، إلا أن تعددية المرجعية الإسلامية والحوار المشترك حول الإشكاليات الشرعية والسياسية في الثورة، قد كان متعذّراً قبل ذلك بأشهر فقط.

يأتي الميثاق الثوري كمرحلة ثالثة في الخطاب الإسلامي السوري، ضمن محددات ذاتية وموضوعية: 

– ضمن واقع ذاتي يفرض تعددية القوى الإسلامية وعدم إمكانية استقلال أي منها بالمرجعية الشرعية دون غيره يرافق ذلك قدر من المراجعات الفكرية التي سببها (أو مكن من إعلانها) القتال مع تنظيم الدولة، إضافة لإدراك أهمية تأكيد البعد المحلي والمجتمعي للمشروع الإسلامي السوري بعد تبين خسارة المشاريع التي تلغي هذا البعد لحواضنها الشعبية.

– وضمن واقع موضوعي (وقد يكون أهمّ) يتمثل بتقلص مناطق سيطرة الثورة وتراجعها الميداني الواضح، بتمدد تنظيم الدولة في المنطقة الشرقية وامتلاكه لمعظم مناطق النفط والقمح والماء، وتمدد النظام في دمشق وحمص تزامناً مع تهديده لدرعا وحلب بالحصار، ومع الضغوط الدولية المستمرة على الثورة، وعدم وجود مشروع إقليمي يتبنّاها بقدر مساو لتبني المشروع الإقليمي الإيراني للنظام السوري، ولا يخفى أن هذا الضعف الداخلي مع الضغط الخارجي كانا عاملين مؤثرين (ومن الخطأ أن نقول إنهما وحيدان) في صدور البيان بهذه اللغة والتأكيدات على الهوية السورية ومحاربة التطرف ومحدودية القتال ضمن الأراضي السورية.

الصراط الدقيق

 رغم حاجة الفصائل الموقعة إلى تجديد خطابها وتعزيزه بقيم “وطنية”، سواء لإيمان بذلك أو لتأثيرات داخلية وخارجية، فإن ثمة مخاوف أخّرت ظهور هذا الخطاب، وتحققت فور إعلانه، وهي التخوف من تأثير الانحياز إلى شعارات الثورة الأولى على تحالفات الحرب الأخيرة، خاصة منها ما يتعلق بجبهة النصرة التي تمتلك بدورها رؤية ومشروعاً سياسياً، عدا عن انتمائها المعلن إلى القاعدة، وهنا لا ينصبّ لوم الجبهة على الفصائل الموقعة جميعاً ولا حتى على الجبهة الإسلامية بقدر ما هو على أحرار الشام التي رأت –وحدها- أنها وقعت في حرج مضطرة لتبريره بالسياسة الشرعية والأهداف المرحلية، حيث كانت معظم الفصائل الأخرى محسوبة على الخطاب الأقرب لما صدر في البيان دون أن يمنع ذلك جبهة النصرة من التعاون الوثيق معهم ومع فصائل قريبة من الإسلام المجتمعي (مثل جيش المجاهدين والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام) أكثر من فصائل أقرب للتيار السلفي الجهادي ولكنها أضعف عسكريا. 

ومع ما يبدو أن البيان كان مقبولاً من الأجيال الأقدم من التيار الجهادي أكثر من الأجيال الأحدث، باعتبار البيان لا يختلف في تأكيد محلية المشروع القتالي السوري ومحلية تقرير المصير السياسي عما كان الرأي السائد بخصوص علاقة المجاهدين العرب بالشأن الأفغاني أو الشيشاني أو البوسني، ولكن منظري وأنصار جبهة النصرة وقياداتها رأوا في البيان ابتعاداً عن المشروع السلفي الجهادي، مع ملاحظة اختلاف نسبة الحدة في الخطابات داخل جبهة النصرة نفسها (ما بين سامي العريدي والغريب المهاجر القحطاني خاصة)، لا بسبب لغة البيان المصرح بها فقط (من الواضح في بيان جبهة النصرة  المكتوب على عجل دون أن يقوم على حجج نقدية صلبة أن الموقف من البيان ليس فكرياً تماماً)، وإنما –وهو الأهم- بسبب ضغوطه المضمرة; المسكوت عنه في الخطاب يعني قابلية للتعامل مع المجتمع الدولي الذي يعتبر جبهة النصرة إرهابية ويدفع باتجاه الصدام معها.

ومع ضآلة احتمالية حصول أي صدام مع جبهة النصرة في الفترة القادمة وحرص الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة (والجميع) على استمرارية التحالف الميداني رغم التفارق الايديولوجي الذي تتسع فجوته، فإن النصرة التي توسعت بشكل ملحوظ الفترة الأخيرة، ترى أنها خسرت حليفها المحتمل لا لصالح “تنازلات” قام بها نحو مشروع أقلّ قاعدية وصدامية مع الغرب فقط، وإنما لصالح مشروع “إسلامي سوري” منافس يستثنيها من المرجعية ويضعها في الهامش الذي لا يمثل دورها المحوري في المعارك.
إن موقف 

ولا تشكل خسارة ثقة جبهة النصرة الخوف الوحيد فقط، وإنما خسارة عناصر من هذه المجموعات نفسها، مع ضعف الثقة بالخطابات الأقلّ تصلّباً نتيجة حداثة الخبرة الإسلامية والجهادية في هذه التجربة الشبابية الغارقة في الحرب الطاحنة.

أفق من ضباب

في المرحلة الأولى لظهور خطاب إسلامي في الثورة السورية، يقدم الإسلام كمشروع سياسي وايديولوجيا جهادية لا كمحض عاضد روحي وهوياتي للمجموعات المحلية المقاومة للسلطة، ركزت مواثيق التحالفات الأولى على كونها مشاريع اجتماعية سياسية جهادية، بلغة غلب عليها الاعتدال والبعد الثوري المتضمّن في الجهادي نفسه، كخطاب جهادي سياسي.

في المرحلة الثانية التي شهدت تنامي خطاب السلفية الجهادية، سواء بالقاعدة التي مثلها جبهة النصرة، أو ما بعد القاعدة التي مثلها تنظيم دولة العراق والشام الذي هدد الإسلاميين السوريين في شرعيتهم الرمزية ووجودهم الميداني، انتقلت التحالفات إلى مشاريع أضخم مع “الجبهة الإسلامية”، وأجبرت لغة المواثيق على أن تكون حبيسة الخطاب السلفي الجهادي ومخفية للبعد الوطني والتعددي حتى لا تكون أقلّ شرعية في “سوق الخطابات”، ما شجّع على قيام تحالفات أقرب للإسلام المجتمعي ولا تنتمي للاتجاه السلفي وإن لم تكن تحتوي على بنية ايديولوجية صلبة.

في المرحلة الثالثة، مع دخول الثورة في مرحلة تهديد حقيقي بتمدد تنظيم دولة البغدادي ونظام دولة الأسد في المنطقة الشرقية والوسطى وتهديدهم بحصار المنطقة الشمالية والجنوبية، أصبح الإدراك أعمق بضرورة توسعة إطار التحالفات ضمن تعددية التيارات الإسلامية (و غيرها)، وبسقف لغة أقلّ “قاعدية” وأكثر تركيزاً على البعد المحلي والإقرار بالتعددية، والاعتماد على الخطاب السياسي، كمرحلة متقدمة في بناء مشروع سياسي إسلامي بديل، يطمح لكسب شرعية خارجية وداخلية، فيما يبدو كتمهيد لتحالف آخر قادم قد يكون توسعة للجبهة الإسلامية نفسها، ليبدو في مفارقة مخيفة أن التقدم في الخطاب والتحالفات ارتبط بالتراجع في الميدان.

وما بين محدّدين موضوعيين متناقضين، ما بين تقديم خطاب إسلامي منتمّ للثورة والمجتمع ويحقق الحد الأدنى من شرعية الوجود الرسمي في العالم، وما بين الحرص على استمرارية التحالف مع جبهة النصرة وعدم استعداء الجمهور السلفي الجهادي العام، يسير هذا الخطاب في طريق ضروري محفوف بالمكاره ولكن دون أن يضمن أن نهايته الجنة، في حرب يبدو أنها كلّما تقدمت في الزمن تتقهقهر في الأمل بوجود نهاية لطريقها الدامي الطويل.

(منتدى العلاقات العربية الدولية 26/5/2014)