كتاب عربي 21

الائتلاف الوطني: مشكلة التأسيس لا الرئيس

1300x600
على عادة تسمية الجمعة التي فقدت بريقها منذ أمد في الثورة السورية التي أضحى الطابع المسلح وجهها الرئيس منذ سنتها الثانية، شهدت الجمعة السابقة حملة مكثفة لتسميتها بـ "جمعة إسقاط رئيس الائتلاف" أحمد الجربا، والتي نالت أصوات الأغلبية في التصويت الافتراضي على "صفحة الثورة السورية"، بعد ستة أشهر من "البيان رقم 1" أو بيان الـ13 الذي أعلنت فيه غالبية الفصائل الإسلامية سحب الشرعية من الائتلاف. 

ولئن كان ثمة شعور عام بالاستياء من رئيس الائتلاف الحالي، فإن الإشكال يتجاوز شخص الرئيس إلى بنية الائتلاف نفسه المنتجة في ذاتها للصراعات والتخوين ودعوات الإسقاط والشعور بلا جدوى الحل السياسي.

سيرة موجزة

أعلن عن تأسيس الائتلاف في بدايات تشرين الثاني 2012م، بعد فشل المجلس الوطني في تحقيق رهاناته وتحوله إلى جسد سياسي ضخم ومترهل، حاول مشروع الائتلاف تجنب مصير المجلس من خلال الاقتصار على ثلاثين عضواً يحققون رمزية كافية للتمثيل الثوري، ولكن هذا المشروع ما لبث أن توسع ليشمل عدداً أكبر وليستدخل – منذ البداية - في لعبة التوازنات السياسية والإقليمية، ومر الائتلاف بعدد من ممارسات "التوسيع" لتحقيق رضا فئة أكبر من الوجوه السياسية المقربة من دول عربية أو أوروبية، واستمر استبعاد التمثيل العسكري إلا بمقاعد محدودة عُطّلت ضمنياً بإسنادها لغير الفاعلين ميدانيا.

وكانت رئاسة "معاذ الخطيب" للائتلاف قد منحته شرعية شعبية في البداية، لم تلبث أن أصيبت بخيبة أمل بعد مبادرات بدت كتنازلات عن سقف الخطاب الثوري، فيما بدا أن الخطيب لم ينتم إلى الحراك المسلح وأبدى تقبّلاً دبلوماسياً له، رغم كونه أضحى الوجه الرئيس ويكاد يكون الوحيد للحراك الثوري وشرعيته الميدانية.

استقال الخطيب أواخر آذار 2013م، بعد خلافات عنيفة مع المعارضة السياسية في مجملها، والتي لم يدخر الخطيب جهداً في التلميح والتصريح بتخوينها وتبعيتها للخارج.

فيما بعد الخطيب كوجه ديني/مدني تولى أحمد الجربا الوجه العلماني/العشائري (في بدايات تموز 2013م)، وكإعادة إنتاج سعودية للائتلاف، بعد ولادته القطرية التي لم تخف السعودية منذ البداية امتعاضها منها، فيما كرّس مرة أخرى صورة الائتلاف كمشروع  تشكله التحالفات الإقليمية، ويقوم على توازنات الكتل السياسية للمعارضة.

وضع الجربا والسعودية سلّة من الوعود لتحقيق قدر من الرضا الشعبي، سياسيا في جنيف2 وعسكريا في درعا، لم تنجح في تحقيقها، وشهد الائتلاف في عهد الجربا -كما في عهد كل من سبقه- صراعات داخلية بين تيارات المعارضة السياسية أطلقت دعوات إسقاطه التي لاقت شيئاً من الصدى الشعبي الذي ستلاقيه أي دعوة لإسقاط أي رئيس للائتلاف في الواقع السوري المضطرب الباحث عن دوماً عن الخائن والزعيم.

لم يستطع الخطيب التصالح مع الطابع الميداني المسلح في الثورة، ولم يستطع الجربا التصالح مع الطابع الأيديولوجي الإسلامي فيها، ولا استطاع النظام ولا المجتمع الدولي التصالح مع إنجاح التمثيل السياسي أو الحراك العسكري فيها.

سؤال الشرعية

يعود الإشكال الأساس في الائتلاف الوطني إلى تأسيسه على توازنات الكتل السياسية للمعارضة والتحالفات الإقليمية، لا على تمثيله لقوى الثورة الميدانية، ما أسس لعزلة ما بين الائتلاف كجسد سياسي وما بين الثورة التي يريد تمثيلها والنطق باسمها، ومع طغيان الطابع المسلح على الثورة، وتمدد الأيديولوجيات الإسلامية فيها، يكرس الائتلاف قطيعة مزدوجة: ميدانيّاً بتهميشه للقادة الميدانيين، وأيديولوجيا بتبنيه خطاباً أكثر علمانية مما يسمح الواقع الجهادي. وأدى ذلك إلى تمثيل الائتلاف لصراعات وتوازنات مجتمع سياسي مصغر، ليس هو الفاعل المؤثر في الحراك الثوري الميداني، ولا يمثل زعامة رمزية قادرة على تحقيق قاعدة شعبية، ما لا يفقده تأثيره الشعبي وحسب وإنما حتى قدرته على التأثير الدبلوماسي أو التمثيل التفاوضي حيث لا يمكن لمن لا يملك الحرب أن يفاوض على السلم فيها.

بينما لم تنج المجموعات المسلحة من الاستقطابات الإقليمية، ولم تتوحد على قاعدة رأي أو أيديولوجيا موجّهة، ولم تفرز زعامات سياسية أو كيانات سياسية أو حتى مشاريع سياسية بديلة، مع التوجه الحثيث نحو ذلك منذ تأسيس الجبهة الإسلامية في تشرين الثاني 2013م، وما أدت إليه من موجة تأسيس حركات عسكرية-سياسية (الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، جيش المجاهدين، حركة حزم...الخ).

وفي الجدلية غير المحسومة بين الزعامة والمأسسة، وفشل الرهانين سياسيا وعسكريا، ودون إعادة ترسيم العلاقة بين العسكر والسياسة، لتوليد جسد تمثيلي للثورة من داخلها، وقادر على النطق والتفاوض باسمها من خارجها، تغرق الثورة السورية في الفوضى التي تزداد سلبياتها غير الخلّاقة باستمرار.

وهم التمثيل

للفيلسوف الفرنسي جان بودريار نظرية حول "موت الواقع" فيما بعد الحداثة، حيث تمارس السلطات السياسية والاقتصادية والإعلامية تغطية للواقع بتمثيله عبر مجموعة من الصور والدلالات التي تحيل كل منها إلى صور ودلالات أخرى، في حلقة مفرغة لا تمر من الواقع بينما تصنع واقعاً جديداً يغطي الواقع عبر ادعاء تمثيله.

ومع ما قوبلت به هذه النظرية من رد فعل عنيف في الوسط الفلسفي، وما وصلت إليه من مآلات مبالغ بها حين أعلن بودريار نفسه أن حرب الخليج لم تقع، فإنها تحمل قدرة تفسيرية عالية لما يجري على الواقع السوري خارجيّاً من إماتته بمجموعة من الأجسام السياسية والإعلامية التي تدعي تمثيله بينما تحيلُ إلى نفسها لا إليه، ليغطى الواقع تحت مجموعة من الصراعات والاستقطابات الوهمية بينما يكرس الواقع السوري كمحرقة مستدامة بصمت.