كتاب عربي 21

الأزمة في ليبيا من منظار تونسي

1300x600
كتب طارق كحلاوي: بمجرد الإطاحة بنظام القذافي في الشقيقة ليبيا كان من الواضح ان طريق بناء الدولة الجديدة سيكون اصعب بكثير من طريق الاطاحة بالمؤسسة الحاكمة باسم معمر القذافي لاكثر من اربعين سنة. ليس ذلك حالة ليبية خصوصية في سياق مسارات الانتقال الديمقراطي 
العربية.

إذ ان الميراث الصعب والسيء المتروك من طغم مستبدة وفاسدة لعقود طويلة لن يكون علاجه حتى لو توفرت رؤية تتوحد حولها النخب السياسية الوارثة سهلا، بما بالك لو كانت التجاذبات بين هذه النخب السياسية عميقة الى احد يصل الى مستوى عقلية "هدم المعبد فوق راس الجميع"، والانحراف بمسارات الانتقال الديمقراطي نحو الانقلاب عليها. 

لكن بلا شك فإن حجم التركة في ليبيا وتعقيداتها لا يمكن مقارنته باي حالة اخرى، وبالاحرى حجم اللاتركة والفراغ المؤسساتي والتصحر السياسي في نظام حكم بعقلية "من تحزب خان" وضعية فريدة من نوعها.  ليست الحالة التونسية بلا أخطاء او مطبات لكنها حتى الآن الاقل سوءا والتي وفقت بين حد أدنى من الاستقرار واستمرار الدولة من جهة وبناء دولة ديمقراطية من جهة أخرى. 
ولأسباب جيوسياسية قاهرة لا يمكن لتونس ان تتفرج وتراقب من بعيد ما يحدث من تطورات في ليبيا. 

 من منظور تونسي وموضوعي في نفس الوقت فإن الوضع الليبي ليس وضعا خارجيا لتونس بل له صلة عضوية بالوضع الداخلي. اكتفي هنا بعرض رقمين: اولا، عدد الليبيين بين مقيمين ووافدين على الاراضي التونسية يقارب المليون وثمانمائة الف ليبي، في دولة سكانها يقاربون الاحدى عشر مليون ساكن. 

ثانيا، النسبة الاكبر من التجارة الموازية في تونس تدخل عبر الحدود التونسية الليبية في اقتصاد تونسي يقارب فيه الاقتصاد الموازي نسبة تفوق الاربعين في المئة في التقديرات المنضبطة. التحركات الاحتجاجية منذ ايام قليلة في مدينة بن قردان الحدودية والتي يقتات جزء كبير من سكانها من التجارة الحدودية مع ليبيا مجرد اشارة صغيرة لاي مدى الشأن الليبي شأن تونسي داخلي وليس خارجيا. 

ثورة فبراير الليبية كانت بالتأكيد تعبيرا داخليا اصيلا ولكن بلا شك كانت شرارتها تونسية ولم يعد سرا الان ان الاراضي التونسية كانت مجالا رئيسيا من الناحية اللوجستية للجانب العملياتي نفسه من الثورة، خاصة بعد المؤشرات العيانية الواضحة لقرار 
القذافي افشال الثورة في تونس وارجاع بن علي للسلطة. 

كانت السيناريوهات المطروحة في ليبيا بعد الثورة متفاوتة ومرتبطة بخصوصيات الوضع الليبي. أول هذه الخصوصيات اتساع مجال هيمنة نظام القذافي، اذ لم تغب فحسب هياكل حزبية للمعارضة بل غابت حتى مؤسسات وسطى مدنية تمثل حدا ادنى مما يمكن ان نطلق عليه مجتمعا مدنيا. وهذا لا يعني غياب المعارضة ذاتها مثلا، ولكن كان عليها بالضرورة ان تعمل في سرية عالية وغلبت عليها الصدامية، فراديكالية النظام كانت احد اسباب راديكالية المعارضة. 

وقوبلت عموما بحزم ووحشية بالغة وكان هذا النزيف تحديدا، خاصة عبر معتقلات النظام وعلى راسها سجن ابو سليم احد الجذوات الاسياسية التي اطلقت جذوة  الثورة المسلحة. هيمنة النظام القائم على كل شيء تقريبا لم يترك مجالا كبيرا لمؤسسات اعتبارية فوق قبلية وسطى يمكن الالتجاء اليها في حالة انهيار الدولة. 

وبمعنى آخر فان نظام القذافي نجح في امر اساسي وهو انه عمل بكل قواه حتى لا يرثه اي طرف سياسيا، وان ما يمكن أن يأتي بعده الفراغ. 

ثاني هذه الخصوصيات التنافس الذي يصل حد الانقسام تاريخيا بين الشرق ("برقة") والغرب("طرابلس") والجنوب الغربي ("فزان")، والتي كانت بشكل متفاوت اقاليم وتعمقت هذه الوضعية مع اكتشاف التوزع الطبيعي للاحتياطي في الثروات الطبيعية خاصة النفط والغاز والتي تركزت بين الشرق والجنوب الغربي. تمركز الدولة في الجزء الذي لا توجد فيه هذه الثروات اوجد وضعية تفاوت بين منطقة تطورت فيها البنية التحتية ومستوى العيش بشكل افضل دون ان تكون فيها ثروات مقابل منطقة اقل تطورا توجد فيها الثورات. 

ثالث الخصوصيات التوزع العشائري والقبلي. والحقيقة من الصعب اختزال الشعب الليبي في مربعات قبلية محددة على رغم اهمية دور القبيلة فيه، حيث ان بعض هذه القبائل كان متحركا وليس ثابتا (التحالف القبلي "ورفلة" الذي انتقل تاريخيا بين الشرق والغرب على سبيل المثال)، والاهم فان الحضور القبلي اندمج مع المراكز الحضرية (مثلا الانتماء الى "الزنتان" المدينة هو المشترك في مجموعة "الزنتان" اكثر منه الانتماء الى تحالف قبلي). 

غير ان نظام القذافي لعب بوضوح على المعطى القبلي ويمكن القول ان بداية انهياره كان انتهاء التحالف التاريخي الذي بناه بين ثلاثة مجموعات اساسا: 

القذاذفة (اساسا بين مدينتي "سرت" و"سبها" في امتداد بين الساحل والداخل الصحراوي)، والمقارحة (جنوب غرب ليبيا)، وورفلة (في المنطقة الغربية). عموما الوزن العشائري اخذ بعد اكثر اهمية بعد سقوط النظام من حيث تملكها بوضوح صفة ميليشياوية-عسكرية 
تستطيع المساومة على الامن والاستقرار بشكل جدي بدون بروز اي قوة بديلة قادرة على منافستها من قبل الدولة، اذ ان "درع ليبيا" لايزال جهازا غضا حتى الان. وهو ما يبرز على سبيل الذكر لا الحصر في الوضع الان على مستوى ميناء البريقة النفطي والتوازن 
المسلح القائم بين مجموعة ابراهيم الجرضان مقابل الجيش الرسمي. 

هذه الخصوصيات الثلاثة هي التي تؤطر الصراعات الرئيسية الحالية والتطورات منذ انتهاء نظام القذافي حتى الان. اذ برز بسرعة الشرخ بين المجموعات القريبة من السلطة السابقة والمجموعات المبعدة بمجرد مقتل القذافي اي الخصم المشترك خلال الثورة. وهذا 
سواؤ تعلق بالشخصيات الاعتبارية، او المناطق الكبرى، او المجموعات القبلية. 

بين شخصيات عملت مع النظام حتى وقت قريب مقابل شخصيات عارضته منذ بداياته، وكان العنوان الابرز لهذا الصراع "قانون العزل السياسي" الذي كان قاسيا اذ اقصى حتى معارضين قدماء للنظام (ابرزهم المقريف). بين "الشرق" المطالب بشكل حثيث وواضح الى حد التمرد بــ"الفيدرالية" مقابل المركز "الغربي". 

واخيرا استعادة التحالفات القبلية القديمة جذوتها حيث اصبح هناك اتصالات اقوى بين شخصيات قريبة من ورفلة وشخصيات قريبة من القذاذفة، مقابل تمترس تحالفات قبلية اخرى في الجهة المقابلة خاصة مصراتة التي لعبت دورا مسلحا رئيسيا في الثورة. 

هذه الصراعات الحادة تهدد وجود الدولة ذاتها. وكان من الواضح من البداية ان سيناريو "الدولة الفاشلة" وفق لهذه الخصوصيات احتمال جدي في السياق الليبي خاصة بسبب الخاصية الاولى المذكورة اعلاه اي الحالة الكارثية التي ادار بها القذافي نظامه خلال اربعين سنة. حل هذه التركة يستوجب الضرورة ايجاد حد ادنى من التوافق في الخاصيتين الاثنتين الاخريين. الصراع بين الشخصيات القديمة التي انبثقت عن دولة 
القذافي والشخصيات الجديدة التي انبثقت على هامش الدولة هو الصراع الرئيسي لانه يشق ويؤثر بشكل اقوى على بقية الصراعات. وهذا يعني ان تعميق القطيعة بين الدولة العميقة وبين "مجموعات الثوار" الجديدة سيجعل بقاء الدولة مستحيلا خاصة انه سيعني بالضرورة تعمق بقية الصراعات، المناطقية، والقبلية. في المقابل فإن التقليص الى اكبر حد من القطيعة القائمة موضوعيا بين شخصيات النظام القديم و"مجموعات الثوار"، يمكن ان يوفر فرصة جدية لتقليص حجم الصراع في البعدين الاخرين اي المناطقي والقبلي. 

 في غياب مجتمع مدني قوي، وفي ظل ضعف الاحزاب رغم اهميتها يبدو ان المسلمات الاولية لانطلاق الحل السياسي في ليبيا يكمن في ايجاد اطار محدد من الشخصيات الاعتبارية التي تشق الهوة بين القديم والجديد وتقلص في نفس الوقت في التباعد المناطق والقبلي. 

فقط حينها يمكن ايجاد توافقات جدية تتجاوز تضارب المصالح المناطقية والقبلية-المسلحة. فالمطروح في ليبيا ليس المسار الانتقالي الديمقراطي فحسب بل بناء الدولة نفسها. وهذا يعني مسار ولادة عسير جدا، لكن ايضا وضعا لا يحتمل الفشل حيث ان الفشل يعني ببساطة كارثة عامة.