قضايا وآراء

البرمجة الرمضانية أو انتصار المقاول على المقاوم

من يشرف على المشهد الإعلامي في تونس؟- جيتي
مثلما هو الشأن في كل رمضان، يتجه السجال العام في تونس إلى محتوى المنابر الإعلامية العمومية والخاصة. ورغم أن الجدل حول "المجاهرة بالإفطار" وفتح المقاهي والمطاعم -وما يرتبط بذلك من قضايا فكرية "مؤدلجة" و"مسيّسة"، مثل حرية الاعتقاد والتعبير وعلمانية الدولة وحقوق الأقليات-، قد أصبح كله جزءا من التاريخ السياسي والأيديولوجي، بعد ذهاب أسبابه المباشرة (أي بعد خروج النهضة من الحكم وعودة المنظومة القديمة للحكم "القهري" عبر بوابة "تصحيح المسار")، فإننا نلاحظ استمرار الجدل حول الرسائل المباشرة والضمنية لوسائل الإعلام، ودورها في تشكيل النماذج الفكرية والسلوكية لعموم التونسيين -خاصة المراهقين والشبان-، كما نلاحظ استمرار الجدل حول دور بعض بارونات الإعلام الخاص في تجفيف منابع القيم وفي رسم صورة مشوّهة واختزالية للتونسيين؛ بدعوى الواقعية حينا، أو بدعوى عدم خضوع الفن لأي مرجعية أخلاقية متعالية أحيانا أخرى. وهو جدل يتراوح بين العفوية والانطباعية (خاصة لدى عموم المواطنين)، وبين وجود بعض المقاربات النقدية العميقة، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو خارجها.

منذ حصول تونس على الاستقلال الصوري عن فرنسا، كان ما يسمى بـ"الإبداع" حكرا على نخبة وظيفية مثلت الذراع الأيديولوجي للنظام، رغم سعيها الكاذب أحيانا إلى عدم التماهي معه، وسعي النظام أيضا إلى عدم تدجينها بصورة مطلقة، لما في ذلك من ضرب لهامش الحريات المطلوب دوليا من الأنظمة التابعة للغرب.
لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة، وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشر.
وكان ذلك "الإبداع" المكتوب أو السمعي أو المرئي يتحرك في أفق "حداثي" أو "تنويري"، هو في جوهره مجرد تَونسة مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية وثورتها، حتى تحولت أغلب الأشكال الإبداعية إلى مجرد أدوات دعائية لخيارات النظام "التحديثية" على النمط اللاّئكي الفرنسي، خاصة فيما يتعلق بالمسألتين الثقافية والدينية.

منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية أو الدولة-الأمة، كان "الإبداع" الذي تهيمن عليه القوى اليسارية -أو حتى بعض القوى الليبرالية ذات الخلفية اللائكية المتطرفة-، تجربةً معادية للدين وليس فقط للتدين، كما كان" الإبداع" في أغلبه مجرد إسقاط لمنظورات وقيم جمالية وأشكال إبداعية غربية على واقع تونس أو العرب والمسلمين بصفة عامة، سواء أكان مرجع المعنى الغربي في ذلك، أو معيار الحكم والتصنيف، هو باريس أم موسكو أم حتى تيرانا عاصمة ألبانيا "الخوجية".

لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة، وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشر. فرغم كل التغييرات التي مسّت سطح المشهد (ظهور بعض المنابر الإعلامية الجديدة، بل الحديث المتواتر بين النخب عن "إعلام بديل")، استطاعت النواة الصلبة للمنظومة القديمة التحكم في المشهد عبر آليتي التمويل (تقوية بعض الواجهات الإعلامية القديمة ودعمها بواجهات جديدة)، والتقنين من خلال "كلاب الحراسة الأيديولوجية" المشرفين على تعديل المشهد الإعلامي، بصورة تمنع المس من "الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي").

ونحن هنا نتحدث عن قدرة الذراع الأيديولوجية للدولة العميقة على التمرد على سلطة الأطراف المنتخبة، وكذلك قدرتها على تسفيه الرأي العام إذا ما استدعت مصلحة الدولة العميقة ذلك، وهو أمر لم يسلم منه "تصحيح المسار" ذاته، رغم القوة المفترضة للرئيس ولمشروعه السياسي "المحافظ".

يستطيع أي متابع للشأن الإعلامي في تونس أن يلاحظ هيمنة المنظومة القديمة على خطوطه التحريرية أو توجهاته العامة منذ هروب المخلوع. فرغم تغير الأطراف المشاركة في إدارة الدولة بفضل صناديق الاقتراع، فإن القطاعات التي تشكل الأذرع الأيديولوجية لأي نظام (الإعلام، الثقافة، التربية والتعليم) قد ظلت منفصلة عن السرديات الإصلاحية التي حكمت حينا من الديمقراطية، بل ظلت تتحرك ضد تلك السرديات بصورة نسقية. فلا "الانتقال الديمقراطي" في المستوى السياسي استطاع تغيير المعادلة الثقافية،
مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي، التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى، تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي، بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونية.
ولا النهضة استطاعت تغيير شيء في مستوى سوق الخيرات الروحية أو إنتاج الرموز، رغم جعجعة "الإعلام البديل"، ولا "تصحيح المسار" يبدو قادرا على تغيير "الخطوط التحريرية" لإعلام التفاهة، رغم قوة المراسيم وقابلية "التدجين"، عند أصحاب "القضايا الصغرى" و"القضايا الكبرى" على حد سواء.

مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي، التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى، تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي، بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونية، وما يتفرع عنها من قضايا مشتقة كالتطبيع والإبراهيمية وشيطنة الحركات الإخوانية، ومنع أي تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين وتخريب المشاريع الديمقراطية.

إن عمليات تسطيح الوعي وتثمين التفاهة وافتعال القضايا الهوياتية، وضرب المقدسات وتسفيه المرجعيات الأخلاقية، وتعميم ثقافة عبادة الذات وترذيل كل مقولات التعالي ومعاني التضحية، كل ذلك ليس مجرد سياسات عفوية أو من تصميم محلي، إنها عمليات تعكس مقدار اختراق الصهيونية عبر وكلائها المحليين لنسيج الثقافة والتعليم والتربية في تونس، وهو اختراق ضروري لتبرير عمليات النهب الاقتصادي، ومظاهر التفاوت الطبقي والجهوي وحماية المستفيدين منها، بدعوى الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي"، ومقاومة الرجعية والظلامية ونشر الحداثة والأنوار، وغير ذلك من الدعاوى التي لا محصول تحتها، إلا تكريس التخلف والتبعية وما يصحبهما بالضرورة من فساد واستبداد.

twitter.com/adel_arabi21