الذاكرة السياسية

أوراق من تاريخ الحركة الإسلامية في تونس: أول انشقاق فعلي في الحركة

احميده النيفر لـ عربي21: تواجه حركة النهضة تحديا مصيريا يتطلب منها مراجعات فكرية وعقدية عميقة مع ضرورة تقييم لمسيرتها الممتدة خاصة منها ما خاضته في العشرية التي تلت ثورة 2011.
كان ظهور "الإسلاميون التقدميون" في المشهد العام في مطلع السبعينيات بتونس حدثًا لافتا، لا للإسلاميين فقط بل للساحة الثقافية والإعلامية. فالحركة الإسلامية التي سمّت نفسها ب" الجماعة" ساعتها، في أوج استقطابها ومدّها. فكان اعلان هذه "المجموعة" عن نفسها هو بمثابة أوّل انشقاق تشهده الحركة الإسلامية و "أوّل خروج عن الإجماع " وأوّل اختبار لها. ربّما لم يبلغ الأمر درجة "التكفير" ولكنّ الجماعة اعتبرته طعنة في الظهر. وقد عبّر عن هذا راشد الغنّوشي بمرارة في  كتابه "من تجربة الحركة الإسلامية " قائلا:" أدت هذه الحركة النقدية إلى تمزيق الجماعة، فخرجت عنها مجموعة اسمها "اليسار الإسلامي"(...) مجموعة قبلت التطوير دون تقيّد بضوابط صارمة وفي النهاية تهمّشت هذه المجموعة واستلم بعض أفرادها مناصب رسميّة عليا مع علمانيين عتاة " (ص45 ).

ما هي أسباب هذا الخروج؟ هل الاختلاف مع الجماعة كان حركيا تنظيميا أم عقائديا فكريا؟ هل طرحوا أنفسهم بديلا عن جماعة منغلقة تنظيميا ومتعصّبة عقائديا؟ هل هم حركة سياسيّة أم مجرّد فرقة ذات توجّه فكري مغاير؟ هل هم أفراد التقوا على نفس السّمت أم شكلوا تنظيما موازيا؟ ماهي مراجعهم الفكرية وما هي علاقتهم ب"اليسار الإسلامي" الذي ظهر في مصر؟ لماذا اختاروا هذه التسمية؟ هل أصلوا أطروحاتهم في " التراث الزيتوني"؟ كيف كانت علاقتهم بالسلطة السياسية: مهادنة ومسايرة أم اجتنابا وغضّ طرف؟

توجّهنا بكلّ هذه الأسئلة إلى "أب" هذه الجماعة الدكتور احميده النيفر في حوار صريح وشجاع. ولكن قبل هذا نحاول الإحاطة بظاهرة الإسلام التقدمي باعتبارها أحد التنويعات في التيار الإسلامي عموما.

أسباب الظهور ودواعيه

تعود الأسباب المباشرة لظهور ما يسمّى بـ"اليسار الإسلامي" ـ ولا يختلف عنه الاسلاميون التقدميون في شيء إلا في التسمية وسنرى ذلك في الحوارـ إلى الفشل الذريع في تحقيق أهداف الأمة من تقدّم وترقٍّ وتحديث نظرا لقصور المشاريع الوطنية والليبرالية والدينية والاشتراكية عن النّهضة الحقيقية. صار لزاما إذن تجاوز هذه الأطروحات إلى تركيب فكري آخر يجمع بين عناصر التراث والحداثة دون الوقوع في مثالب هذه أو تلك.

بدأت لبنات هذه الأطروحة تتجمّع في مجلّة "المسلم المعاصر" التي ظهر أوّل عدد لها في أبريل من سنة 1975 وشهدت حوارات ساخنة حول هذه المسألة. وممّن شارك في هذه المحاورات الفكرية رضا محرم وفتحي عثمان وسيف الإسلام محمود وخاصّة حسن حنفي. ويمكن ارجاع هذه "اليسارية" إلى ما سمّاه رضا محرّم ب" سيادة الفكر والتنظيم لليسار" وعليه "فإنّ جمع المسلم المعاصر بين صفتي "المسلم" و"اليساري" تصبح ظاهرة طبيعية بل وتصبح ظاهرة لا بدّ منها حتى لا تصيبه حالة فصام حضاري".

زد على هذا القوّة الذاتية والموضوعية لليسار التي " تضمن له النجاح في دنيا الواقع وترتّب له الامتداد في رحم المستقبل". ويضيف حسن حنفي " اليسار الإسلامي نتيجة حتمية لنجاح الثورة الإسلامية الكبرى في ايران" كما أنّه "تطوير للإصلاح الديني". (حسن حنفي :ما هو اليسار الإسلامي؟)

أمّا عن أهداف هذه الحركة الفكريّة فيمكن تلخيصها في: النقد الذاتي للحركة الإسلامية بروح الناقد المخلص لا روح العدوّ ووضع استراتيجية لحركة لا تملك بدائل وتكتفي بما هو أخلاقي فقط واحياء الجوانب الثورية والعناصر التنويرية في التراث واطلاق حوار مع سائر الاتجاهات من ماركسية وقومية وليبرالية لتجاوز التناقضات الظاهرة وأخيرا اقامة مجتمع اسلامي لا "المجتمع الإسلامي" لأنّه حسب رأيهم متعدد ولا يوجد نموذج له أو مثال للاحتذاء.

الخصائص الفكرية لليسار الإسلامي  

يمكن أن نقف على الخصائص الأهمّ لهذا الفهم الجديد للإسلام بشكل مختزل وتتمثّل في أربع مسائل أساسيّة:

ـ نظريّة المعرفة وتعني علاقة المثلّث: الوحي/العقل/الواقع وتفاعل عناصره فيما بينها. فالوحي له مهمّة انشاء مجتمع الانسان/الخليفة من خلال امتزاجه بالعقل والواقع لصياغة الشريعة التي هي المقاصد من وراء كلّ وحي يوحى. وهذا يقود حتما لمعاداة "منهج النّص" في الفهم السلفي باعتباره سابقا على الواقع والعقل. فيرون أنّ النّص برهان خارجي والواقع يقين داخلي. فلا يستقيم الأمر عندئذ إلاّ بإعادة ترتيب الأولويات. يقول حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد": "فلا سلطان إلا للعقل ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه"( ص 57)

ـ الموقف من التراث: هو موقف نقدي تاريخي وذلك بأخذ مسافة عنه: فلا هو بالمقدّس عندهم ولا أيضا بالمرفوض جملةً. حسبهم منه احياء الجوانب الثوريّة والتقدميّة والتنويريّة. ويجدون في تراث المعتزلة سببا ووتدا لرؤيتهم العقلانيّة. وهذا يجرّ بالضرورة إلى التجديد على مستوى اللغة التي تلبّست بالخطاب اللاّهوتي الديني وشحنها بالعبارات المعاصرة مثل الحداثة والتقدم والجماهير والتحرر...  وعلى مستوى الأفكار بالتخلّص من التمركز حول الله إلى التمركز حول الانسان.( ص140)

ـ الفهم المقاصدي للشريعة: ويعنون به أنّ الشرائع بمقاصدها العليا ذات الأولوية تمثّل مبادئ ثابتة. وهي خمسة: الانسانية، العدل الاجتماعي، الحرية، المبدئية، التقدّم. وعلى رأس هذه ما يسمونه "المصلحة " كأداة تشريعية أولى، قالبين بذلك ترتيب علماء أصول الفقه في التشريع.

ـ الانتماء السياسي للمسلم: يرى الإسلاميون التقدميون أنّ المسلمين لم يكونوا يوما فرقة واحدة ولا اتجاها فكريا واحدا فوجب إذن اختيار انتماء مهما كان دون نزع صفة "المسلم" عن صاحبها سواء كان يمينا أو يسارا. ولهذا يرفضون مقولة "الحاكمية لله" التي تصبغ السياسة الدنيوية بالصبغة الدينية المتعالية فلا حرج عندئذ من تبنّي "العلمانية" التي تمثّل "استرداد الانسان لحريته " ( التراث والتجديد ص 71)

إنّ الناظر لهذا الفهم وأهله وبقطع النّظر عن الموقف "الانفعالي" منهم لـ "شقّهم صفّ الجماعة" أو ممّن سمّاهم راشد الغنّوشي ب" المتساقطون على الطريق"، فإنّه هو نفسه يقرّ بفضلهم في تأسيس خطّ نقدي داخل الجماعة وإعادة النظر في الأدبيات الإخوانية وتطوير النّظر إلى المختلف والمغاير من بقية السرديات الكبرى.

د. احميده النّيفر:

هو كاتب ومفكر تونسي وأستاذ جامعي متخصص في أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر.حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة السوربون بباريس، فرنسا، سنة 1970م، وعلى دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة 1990م، تخصص أصول الدين. له مجموعة من الأبحاث والدراسات المنشورة التي تعنى بسؤال التجديد من بينها: "مختصر تفسير المراغي" و"التفاسير القرآنية الحديثة: قراءة في المنهج" و"بين القصر والجامع: إضاءة على المؤسسة الدينية الأندلسية". وهو عضو بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" ورئيس رابطة تونس للثقافة والتعدد. ويُعتبر هو الأب المؤسّس ل"الإسلاميون التقدميون في تونس" من خلال رئاسة تحرير مجلّة "15 ـ 21".



في مكتبته المرتّبة الأنيقة، استقبلنا محتفيا ودار حوار حول أسئلة لا تزال حسب اعتقادي معلّقة. فقد بدأ الحديث من حيث لم نحدّده حول "الأستاذ راشد الغنوشي" الذي اعتبره حداثيا ولم يكن يوما سلفيا في رؤيته. وله قابلية فكرية لتبنّي المنجز الحداثي في المؤسسات والمفاهيم العقلانية. وعن الاختلاف الذي وقع معه ومع الجماعة الإسلامية وبداية ظهور الإسلاميين "الجدد" أجاب احميده أنّ الحركة الإسلامية في تونس قد وُلدت ب"ثلاثة رؤوس"  وهم: راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو واحميده النيفر. ولئن كان ثلاثتهم متديّنين التقوا في المساجد في سياق "الصّحوة الإسلامية" في السبعينات، فإنّهم كانوا في الحقيقة بتوجّهات مختلفة ووجهات نظر متباينة: كان عبد الفتاح مورو أميل للخطابة والدعوة يرى أنّ مناط الجماعة هو جعل الإسلام شاملا للحياة عامّا وأنّ أهمّ أدوارها هو اقناع الناس بالعودة إلى التديّن وريادة المساجد.

وأمّا راشد الغنّوشي فقد كان منشغلا أكثر ببناء تنظيم ذي مرجعيّة إسلاميّة والمشاركة السياسية القانونية المباشرة في معركة "التأصيل والتغريب" وأنّ الحركة منتدبة لتلك المهمّة، غير أنّ احميده النيفر كان معنيا أكثر بالتكوين الفكري والعقائدي. لهذا حين توجّه باسم التنظيم الجديد إلى مصر تقريبا سنة 1973 بدعوة من الإخوان المسلمين وجد أنّهم "متشنّجون" بعد خروجهم من سجون عبد النّاصر يحملون رؤية منغلقة لمجتمعهم ورافضين لفكرة الحزب السياسي "لأنّ الإسلام أوسع من الأحزاب" ولمّا دُعيَ للبيعة رفض ذلك في الوقت الذي قَبِلها محفوظ النّحناح مؤسّس حركة مجتمع السلم بالجزائر.

وبسؤاله "عمّا حدث" أشار محدّثنا إلى أنّ الاختلاف مع الجماعة قد بدأ يتفاقم خاصّة بعد عرض مجموعة من الأحاديث والمقتطفات من الكتب التي كانت تركّز على "فهم معاصر وحداثي للإسلام" لترويجها داخل الحركة فوجّهها رئيس التنظيم لعبد المجيد النّجار الذي رفضها دفعة واحدة. وبدا له أنّ التوجّه التّراثي قد غلب على الجماعة وضاق عليه تنظيم شمولي شبيه بالأحزاب الحديدية. فكان الخروج عنه هو الخيار الوحيد الممكن. سألناه عن محاولات رأب الصدع والتوسّط في الخلاف فأجاب :" حرص البعضُ على الوساطة ورأب الصدع لمدة أشهر عبر لقاءات حوارية متعثرة. ما تحقق من هذه المحاولات هو اتساع الخرق على الراقع لِما كشفته تلك اللقاءات من تعذر التوصل إلى قدر من التوافق يسمح بالعودة إلى عمل جامع."

فيما يتعلّق بمرجعيّات هذا الفهم الجديد، أكّد  احميده أنّ متابعته لحوارات مجلّة "المسلم المعاصر" وبعد هذا، ظهور كتب توسّع من هذا الفهم الحداثي للإسلام خصوصا كتب حسن حنفي : من العقيدة إلى الثورة والتراث والتجديد وغيرهما، رأينا أنّنا على طريقة واحدة. وكان علينا بعد ذلك أن نلتفت إلى "مراجعنا الزيتونيّة" فوجدنا في كتب محمد الطاهر بن عاشور مثل مقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام ما يؤكّد توجّهنا وفهمنا. "ولكنّكم آثرتم تسميّة (الإسلاميون التقدميون) على اليسار الإسلامي" فأجاب أنّ هذا ما يميّزهم عن المشارقة: فلئن كانوا يتبنّون مقولات اليسار الإسلامي إلاّ أنهم جعلوا صفة الإسلام أسبق على التقدّم واليساريّة لأنّهم يرون أنّ الأصل هو الإسلام بدلالته الدينيّة والحضاريّة وما سواه مُستمدٌ من مبدإ الاستخلاف المستحضِر لمداه التاريخي الانساني.

وعن امكانيّة تكوين حزب سياسي قال: "موضوع تكوين حزب سياسي كان غير مطروح بالمرّة لأن اهتمامنا كان بالأساس هو إنشاء تيار فكري كان يعمل على تقديم إجابات عن قضايا عقدية وتاريخية وفقهية موقوفة أو مسكوت عنها.  عندما وقع الانفصال عن الجماعة كان الهدف تخطّي عناصر السردية السائدة التي صرنا نراها سببا لعجز الحركة عن المعاصرة والتقدم."

سألناه عمّا أضافت مجلّة 15 ـ 21 أجاب: "بمجلة 15 ـ 21 أمكننا القيام بجملة اختبارات لفرضية الرهان على انخراط فكري حضاري واع للمسلم في قضايا العصر الحديث ومعارفه. السؤال المطروح الذي سيصاحب المجلة ويدفع القُرّاء لحمل قلقنا الحضاري والوجودي والمتعلق بالآخر وبالذات: الآخر المختلف، كيف يمكن عدُّه، من الداخل الثقافي، مدخلا نموذجيا للوعي الذّاتيّ؟ وللذات بتفاعلها مع الآخر المختلف كيف تصبح أقدر على الإضافة الفكرية والثقافية والاجتماعية والقيمية محليا وإنسانيا؟ في كلمة، المجلة عملت على بناء سمتٍ ثقافي جديد للإسلام في تونس وفي المجال العربي شعاره: أنت لن تكون أنت حتى تكون الآخر".

وفي الأخير كان لابدّ من سؤال يقيّم من خلاله حركته الأمّ فكان جوابه :"تواجه حركة النهضة تحديا مصيريا يتطلب منها مراجعات فكرية وعقدية عميقة مع ضرورة تقييم لمسيرتها الممتدة خاصة منها ما خاضته في العشرية التي تلت ثورة 2011. أعقد ما في هذه المراجعات وأوكدها هو بناء وعي جديد مدرك أن عموم الحراك الإسلامي الاحتجاجي والسياسي مُنتَج غربي لم يَسْتَبْقِ من إسلام الثقافة والحضارة ومكوناته الرمزية والاعتقادية والأخلاقية والإنسانية والتي تتشكّل باختلاف الأزمنة والنظم الإنتاجية والسياسية إلا العنوان واللبوس والطقوس".