أفكَار

هل تعكس وثيقة "العدل والإحسان" المغربية تدشينها لمراجعات سياسية علنية؟ (2من2)

الغريب أنها لم تقدم أي نموذج للحكم، برلماني أو رئاسي، أو مختلط، واختارت أن تبقى بعيدة عن الاشتباك مع الواقع السياسي، في الوقت الذي كشفت في محور الوثيقة التمهيدي، أن قصدها التفاعل معه.
المرجعي والتنفيذي والواقعي والمثالي في وثيقة جماعة العدل والإحسان

في الواقع يصعب التعليق على وثيقة طويلة من 198 صفحة في هذا المقال، لكن يسمح تحليل المحورين التمهيدي والمحور السياسي، باستخلاص ثلاث ملاحظات أساسية:

الملاحظة الأولى: وتتعلق بالغموض الفكري والمرجعي، فالوثيقة الوثيقة تقر بأنها تنطلق من مرجعية "المنهاج النبوي"، لكنها في الجوهر لا تجيب عن الفوارق الكبيرة بين مرجعية "المنهاج النبوي"، وبين المشروع السياسي كما توضحه الوثيقة السياسية. فقد اختارت الوثيقة أن تمارس قدرا من الالتفاف على أدبيات الشيخ ياسين، وذلك حين جعلت من "المنهاج النبوي" مجرد آلة للتفكير ومرشد للعمل، وليس محددا لخطوط المشروع السياسي ورهاناته، وأيضا عندما تحدثت عن العدل باعتباره مطلبا آنيا في المشروع التغييري للجماعة،  بل ظهر بشكل واضح ممارستها لثنائية الانتقاء والاستبعاد في مفردات الشيخ ياسين، وذلك عند الحديث عن أفق المشروع التغييري، فبدل الحديث عن القومة تم الحديث عن  " تغيير سياسي تاريخي"  وبدل الحديث عن دولة الخلافة، تم الحديث عن "دولة المجتمع" أو بناء الإنسان، وتشييد العمران الأخوي وترسيخ القيم الإسلامية والقيم الإنسانية المثلى".

صحيح أن هذا المنهج متفهم في سياق التحولات البطيئة التي تعيشها الجماعة، فمن الصعب بمكان في جماعة محكومة تاريخيا بهيمنة الشيخ وأدبياته، أن يتم الحديث عن مراجعة لمرجعيته الفكرية، بل الأنسب في سياق تجسير فكرة المراجعة أن يتم مراجعة المرجعية باسم الانتظام فيها، بل وإحداث القطيعة معها باسم استعمالها آلة للنظر بدل عقيدة للعمل، وذلك على شاكلة الحالة الماركسية، فقد تمت كثير من المراجعات داخل هذه التيارات باسم الانتظام في الماركسية من بوابتها المنهجية.

الملاحظة الثانية: وتتعلق بالنموذج المعياري المنفصل عن الواقع تماما، فالوثيقة اجتهدت في رسم صورة نموذج الدولة السياسية التي تتطلع إليها: دولة المجتمع، ودولة العدل والكرامة والحرية، إنهاء حكم الفرد، دستور ديمقراطي يأتي من خلال هيئة تأسيسية منتخبة، فصل السلط وتوازنها، دولة الحقوق والحريات، دولة اللامركزية، ودولة تحارب الفساد، وتعكس مؤسساتها التمثيلية من الإرادة الشعبية،  ويتمتع رئيس الحكومة، الذي فاز حزبه في الانتخابات، بالصلاحيات الواسعة على كل السياسات العمومية، بما في ذلك المجالات الاستراتيجية المتعلقة بالدفاع والأمن والعلاقات الخارجية، ويقوم فيها البرلمان وبشكل حصري بالدور التشريعي والرقابي، وتتوسع المهمة الرقابية له لتشمل حتى قطاعي الأمن والدفاع.

إن مجرد الاعتكاف للاشتباك مع الواقع وتقديم تشخيصي لأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة اجتراح مقترحات لمعالجة كثير من المعضلات التي تسببت فيها السياسات الحكومية السائدة، يمثل بالنظر إلى ماضي الجماعة وممارساتها السابقة، تحولا مهما، يحتاج إلى أن يرصد ويقرأ
هذا النموذج المعياري الذي من السهل استقاء مفرداته من تنظيرات الفقه الدستوري، لم يجب عن سؤال الواقع، وفي أي بيئة سياسية يتم عرض المقترحات، وهل تستحضر واقعها ومكوناتها؟ أم أنها تقدم درسا أكاديميا في الفضاء؟

كان المفترض أن تتضمن الوثيقة رؤية الجماعة لنظام الحكم، موقفها من الملكية، أو على الأقل تنحو منحى اليسار الاشتراكي الموحد في تبني مفهوم الملكية البرلمانية، أو تطرح نموذجا لملكية دستورية، لكنها فضلت أن تطرح تصورها للنموذج السياسي، وكأنها تعيش في واقع آخر، لا ملكية فيه، بل الغريب أنها لم تقدم أي نموذج للحكم، برلماني أو رئاسي، أو مختلط، واختارت أن تبقى بعيدة عن الاشتباك مع الواقع السياسي، في الوقت الذي كشفت في محور الوثيقة التمهيدي، أن قصدها التفاعل معه.

والمثير أكثر للمفارقة، أن الجماعة، وهي تغض الطرف عن نظام الملكية القائم في المغرب، كانت بطرف خفي تستحضره، ولو دون إشارة إليه، وذلك حين الحديث عن الهيكلة المؤسساتية والمجال التشريعي والرقابي فيما يخص الأمن والدفاع.

وتفسير ذلك أن الموقف من الملكية، سواء باستحضار مرجعية ياسين، أو بالتجديد النظري إليها، أضحت قضية غير محسومة داخل الجماعة، فتم اللجوء إلى خيار المعيارية، والحديث عن دولة ومؤسسات وسلط وسياسات عمومية، دون استحضار النسق السياسي القائم ومركزية الملكية فيه.

الملاحظة الثالثة، وتتعلق، بالمستهدف من الوثيقة، وهل تقدم الجماعة عرضها السياسي للجمهور أم للنخب أم للحكم؟

لا تكشف الوثيقة الجهة التي يتوجه إليها الخطاب، لكن، الظاهر من خلال سياق طرح الوثيقة باعتبارها حلقة من حلقات المبادرة السياسية منذ 2006، يتبين أنها تخاطب النخب التي تسعى إلى بلورة بناء جبهة الخلاص معها، أو ميثاق للفضلاء الديمقراطيين كما هو اصطلاح الشيخ ياسين، فالجماعة، في هذه الظرفية السياسية، تريد ربما أن تزيل التوجسات التي أثارتها الوثائق السابقة، والتي صدرت أولا في حياة الشيخ، ومنطلقة من كتاباته، ومؤطرة بشروط مرجعية ودينية، والتي نظر إليها من قبل النخب العلمانية،  على أساس أنها دعوة إلى الدخول في معطف العدل والإحسان، لا  تكوين جبهة موحدة لمواجهة الاستبداد. الوثيقة الحالية، في هذا الشق بالذات، تجاوزت المفردات الدينية، وتبنت لغة علمانية، دستورية حقوقية، جاعلة من الهدف المرحلي الآني (العدل، الحرية، الكرامة) منطلق التجميع، ومؤجلة الأهداف الاستراتيجية (الدينية) لأدوار ووظائف الحركة فيما أسمته الوثيقة ببناء الإنسان وبناء العمران الأخوين. لكن تبقى المشكلة القائمة، إن كانت نخب الجبهة هي المستهدفة، هل يمكن الرهان على نموذج معياري لنظام حكم في الحوار السياسي، أم المطلوب ابتداء، تجديد النظر في الواقع القائم بفاعليه، وقواعد نسقه، ومؤسساته وسياساته؟

المشروع الاقتصادي والاجتماعي

خلافا للمحور السياسي الذي ظهرت فيه بصمة الجماعة ورؤيتها السياسية التي تقترب من أطروحة الجماعة النظرية، فإن الشق الاقتصادي والاجتماعي، بدأ خليطا من أفكار متداولة، سواء تلك التي تبنتها الدولة في شكل مشاريع استراتيجية حيوية أو تلك التي تبنتها قوى سياسية يسارية ردايكالية،  أو تلك التي تبناها حزب العدالة والتنمية في برامجه الانتخابية السابقة أو في برنامج حكومتيه السابقتين، فباستثناء التأكيد في مدخل كل فقرة أو قطاع على فكرة تفكيك الريع ومواجهة الفساد أو فكرة التأطير القيمي، لا توجد أي جدة في المقترحات التي قدمتها الجماعة، بل وحتى في التشخيص  المقدم والمطبوع بالجملة بالاقتضاب الشديد وأحيانا المخل، فقد كان اشبه ما يكون بتلخيص لعدد من التشخيصات السابقة مؤطر بعناوين كبرى تطبعها الجماعة ببصمتها السياسية الخاصة.

المثير أكثر للمفارقة، أن الجماعة، وهي تغض الطرف عن نظام الملكية القائم في المغرب، كانت بطرف خفي تستحضره، ولو دون إشارة إليه، وذلك حين الحديث عن الهيكلة المؤسساتية والمجال التشريعي والرقابي فيما يخص الأمن والدفاع.
والمفارقة أن القطاعات التي كان ينتظر من الجماعة أن تقدم مقترحات مجددة فيها مثل التعليم، وقضايا الهوية والقيم، جاءت مقترحاته  فيها غير ذات إضافة، بل جاءت أقل من سقف الوثائق المرجعية التي تبنتها الدولة المغربية كما هو الشأن في وثيقة الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التربية والتكوين، بل حتى في موضوع الهندسة اللغوية، جاءت مقترحات الجماعة، عامة  وغير عملية، تنطلق من فكرة الانفكاك التدريجي من التبعية اللغوية والازدواجية اللغوية (أي التحرر من هيمنة اللغة الفرنسية) تنتصر لفكرة التدريس باللغة العربية وتنويع تدريس اللغات، وامتلاك اللغات الحية في العالم باعتبارها لغة مدرسة  وبحث علمي لا لغات تدريس.

واضح من هذا الاقتراح أن الجماعة ترشح اللغة العربية لتكون لغة تدريس حصرية، ليس فقط في المستويات الأساسية والإعدادية والثانوية، ولكنها تقترح أن تمتد إلى الفضاء الجامعي شرط تأهيل هذه اللغة، وتعتبر أن مدخل إتقان اللغات، بل مدخل تملك لغة البحث العلمي الدولية، من خلال خيار تدريس اللغات، وليس من أي خيار آخر، مثل جعل بعض اللغات الحية، لغة تدريس في بعض المواد أو المضامين أو المحتويات الدراسية، بل إن الجماعة لم تقدم أي إجراء في مواجهة واقع ضعف تحكم التلاميذ في اللغات الأجنبية ومحدودية قدرة الطالب المغربي، بل الباحث الجامعي في سلك الماستر والدكتوراه على البحث بلغة أجنبية.

ويمكن أن نلاحظ على التدابير التي اقترحتها الجماعة في قطاعات الفن والثقافة الطابع العمومي والشعاراتي وعدم الاشتباك العملي مع الإشكالات الحقيقية التي تعاني منها هذه القطاعات، فعلى سبيل المثال غابت في مجال الإعلام والاتصال الإشكالات المرتبطة بالإعلام الرقمي وشكل التعاطي مع شبكات التواصل الاجتماعي، والجدل الذي يثار حول الخصوصية والشأن العام، كما غاب الحديث عن إشكالات التأطير القانوني للفضاء الرقمي (شبكات التواصل الاجتماعي أو الصحافة الإلكترونية).

وعلى سبيل المثال أيضا، فالملاحظ على اقتراحات الجماعة في قطاع الثقافة، أنها أعادت التدابير العامة التي اقترحتها عدد من الأحزاب ـ وبشكل خاص حزب العدالة والتنمية-في برامجها الانتخابية والحكومية، وفضلت أخذ مسافة كبيرة عن الاقتراحات التفصيلية التي تقدم الإجابات حول بعض الإشكالات التي يعاني منها القطاع، فصاغت مقترحاتها بمنطق تشجيع بعض السياسات (تشجيع المهرجانات السينمائية، تشجيع المعارض الخاصة بالكتاب والرسم والتشكيل...)  وأهملت إنتاج رؤية تفصيلية لمعالجة إشكالات دقيقة من قبيل قضية علاقة منظومة الدعم بالنهوض بالقطاع الثقافي والفني، وعلاقة الثقافة بالفلكلور، ومعالجة قضية التنوع والتعدد الثقافي، والسياحة الثقافية، والفن المدرسي والجامعي، وغيرها من القضايا التفصيلية، التي لا تتشكل فيها الرؤية إلا من خلال واقع الاشتباك والتدبير الحكومي اليومي.

وعلى العموم، ومهما يكن حجم وحدة هذه الملاحظات النقدية، فإن مجرد الاعتكاف للاشتباك مع الواقع وتقديم تشخيصي لأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة اجتراح مقترحات لمعالجة كثير من المعضلات التي تسببت فيها السياسات الحكومية السائدة، يمثل بالنظر إلى ماضي الجماعة وممارساتها السابقة، تحولا مهما، يحتاج إلى أن يرصد ويقرأ في سياق سعي الجماعة إلى أن تتملك لغة جديدة، قريبة من التداول السياسي، تدمج فيها كل مكوناتها، وتقترب بها من النخب، لتتهيأ إلى استشراف دور جديد في مستقبلها القريب والمتوسط.

اقرأ أيضا: هل تعكس وثيقة "العدل والإحسان" المغربية تدشينها لمراجعات سياسية علنية؟ (1من2)