أفكَار

عامان على الانقلاب في تونس.. مستقبل الدولة والديمقراطية والإسلاميين (2من2)

الأزمة السياسية تزداد تعقيدا في تونس- (الأناضول)

سيناريو التفكك والانهيار:

يبدو "الانهيار" السياسي من السيناريوهات الراجحة في تونس خاصة بالنظر للمؤشرات المذكورة في السيناريو الأول.

وإن نحن أخذنا بعين الاعتبار عددا من المعطيات الذاتية في بنية الدولة لم تكن موجودة في المراحل السابقة أكان ذلك سنة 1987 أو 2011 أو 2022. وذلك أنه وفي كل هذه المناسبات السابقة كانت مؤسسات الدولة قائمة على الأقل على بيروقراطيتها خاصة وأن الأزمة السياسية عادة ما تضعف المؤسسات السياسية للدولة، وهو ما يبقي بيروقراطية الدولة عادة في موقع استقبال السلطة ونقلها للطبقة السياسية.

وقد كان لكل من المؤسسة العسكرية والأمنية دور جوهري في عملية الانتقال هذه في المناسبتين الأوليين مع كون عملية المرافقة هذه كانت بتأطير واضح من قيادات سياسية للحزب الحاكم أكان ذلك في 1987 أو في 2011، وإنما اعتبرت 2011 ثورة بسبب عجز النخب السياسية عن تأمين استقرار السلطة في إطار البيروقراطية الحزبية وذلك بسبب التفكك الداخلي الذي كانت تعاني منه وصراعات الوراثة بينما حسم الأجهزة ذلك الصراع في 1987 بتقديم شخصية من داخلها فكان الجنرال بن علي الحاكم الجديد الذي فسح المجال للبيروقراطية الحزبية للتجدد، وذلك ما لم يكم متاحا في 2011 إذ حسم الشارع بمعناه الواسع المعركة ما اضطر النخب السياسية لمسايرته خاصة مع تخلي أجهزة الدولة عن مساندة البيروقراطية الحزبية.

أما في 2022 فان البديل السياسي كان جاهزا في شخص قيس سعيد مع مسرحة حدث الثورة ومرافقة الدبابات العسكرية لهذه المسرحية وتأخر المؤسسة الأمنية عن الواجهة.

وفي وضع تتعرض فيه المؤسسة الأمنية لعملية تفكيك متواصل منذ انقلاب 25 يوليو 2022 فإن الجهاز الوحيد الذي بقي صلبا بالمعنى التقني للكلمة هو المؤسسة العسكرية وهي المؤسسة التي حافظت بفعل زخم الثورة على مستوى عال من النقاوة والطهورية لدى الراي العام، ولا شك أن تصدر الدبابة العسكرية لغلق البرلمان ثم توريط المحكمة العسكرية في القضايا السياسية وتوريط قيادات عسكرية في مناصب سياسية مدنية وضمن الفريق الوزاري للحكومة الثالثة لقيس سعيد لا شك أن كل هذا ساهم ويساهم في الضرر بسمعة هذه المؤسسة. كما أنه يساهم في بروز ميولات جديدة لدى بعض منتسبي هذه المؤسسة من حيث طموحاتهم السياسية وهو نفس ما وقع في بعض المؤسسات الأخرى للدولة من مثل المؤسسة القضائية وعدد من الهياكل الإدارية للدولة إذ تقلد منتسبوها مناصب سياسية الامر الذي أخل بالتوازن السياسي والمؤسساتي للدولة وكان أحد عوامل اضعاف انتقالها الديمقراطي.

خلاصة الأمر أن المؤسسة العسكرية تبدو في صدارة أجهزة الدولة وما ما يضعها في موضع حساس يجعلها مقابلة الراي العام الداخلي ويحيد بها عن دورها الاستراتيجي في حماية سور الوطن والتفرغ لمهام مقاومة الإرهاب والمخاطر الجسيمة التي تتهدد البلاد بما أن الشأن الداخلي لإدارة الدولة سيتحول تدريجيا لأحد اهتمامات قياداتها، وما سيعرضها في المستقبل القريب لضرب سمعتها وصيتها لدى الرأي العام ويدخلها في النزاع السياسي وربما يستدعي منها ردود فعل من طبيعة بنيتها العسكرية ولكن في الساحة المدنية من مثل تورط حد دباباتها في غلق البرلمان أو تورطت المحكمة العسكرية في محاكمة مدنيين في قضايا هي بالأساس ذات طابع وخلفية سياسية.

يبقى هناك عامل يمكن أن يجنب مؤسسات الدولة الصلبة وبيروقراطيتها التورط المباشر في التعامل مع الشأن السياسي الوطني.

يمكن أن يكون ذلك وفي ضوء غياب بيروقراطية سياسية للدولة مثلما كان الوضع سنة 1987 بوجود حزب حاكم كان الحاضنة للتحول السياسي في الدولة. إذ في غياب حزب حاكم باستثناء حركة النهضة وهي الحزب الذي لم تنجح الدولة بعد في هضمه ولا هو تحول بعد لحزب دولة، وهذه دينامية وإن كانت شبه حتمية إذ لا يمكن أن تستقر الدولة التونسية حتى يتم حل هذا الإشكال.

هناك في هذا السياق فاعل يعتبر جزءا من بيروقراطية الدولة السياسية وإن لم يكن حزبا سياسيا إلا أنه قام بأدوار سياسية مرتبطة هيكليا ببيروقراطية الدولة وهو الاتحاد العام التونسي للشغل ثم منظمة الأعراف والمحامين ولحد ما الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، فهذه الكيانات وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل وإن لم تكن أحزابا سياسية فإنها تقوم وقامت بدور الحزب الحاكم المنحل خلال السنوات السابقة للانقلاب.

وهذا يرشح الاتحاد والمنظمات التي تدور في فلكه للقيام بدور البيروقراطية السياسية للدولة في مرحلة انتقالية ما. وهذا يعني أن أجهزة الدولة ربما تلجأ للطلب من الاتحاد للقيام بدور ما يسهل عملية الانتقال السياسي ويؤطر أجندة هضم دور النخب السياسية الحزبية وبالأساس دور حركة النهضة وجبهة الخلاص.

على أن هذا السيناريو محفوف بمخاطر ميل قيس سعيد لاستهداف هذه المنظمة وتدجينها من اجل تعطيل أي مساحة لتوجيه الحياة السياسية، وهو ما سيجعل الاتحاد في مرمى الاستهداف السياسي مثلما كانت قيادة النخب السياسية التي تم اعتقالها وتعطيل إمكانية تقديمها لبدائل سياسية ممكنة للبلاد.

وفي حال حصول هذا السيناريو فإن الأجهزة ستجد نفسها في مواجهة مباشرة لإدارة الشأن الداخلي للبلاد ومواجهة الراي العام في مرحلة ازمة اقتصادية واجتماعية ومخاطر إقليمية ودولية تقتضي تفرغها الكامل للشأن الخارجي وللدور الجيوسياسي التقليدي والمعتمد (مقاومة الإرهاب، وتأمين الحدود الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط (وهذا دور تقليدي للدولة التونسية منذ الحرب العالمية الثانية).

وفي هذه الحالة (انشغال أجهزة الدولة والعسكرية منها بالذات بالشأن السياسي المدني) فإن تونس مهددة فعليا بانهيار حصنها وسور وطنها وفتح منافذ فيه تكون بوابة للإرهاب الذي سيكون أكثر توحشا من حيث تدخل عامل إجرامي كبير سيتحالف مع المعطى الأيديولوجي المتطرف وهو قوات "فاغنر" التي أصبحت كيانا إجراميا منظما في إفريقيا جنوب الصحراء مع تموقع خطير في ليبيا.. وهو موضوع حيرة وغموض في تونس (خاصة بعد تفكك قيادته المركزية وربما لجوء بعض قياداته الوسطى والصغرى للتعويل على ذواتهم في إفريقيا، وبعيدا عن المركز، خاصة وأن لهم يد مباشرة على العديد من مصادر الثروة، أي النفط ومناجم الذهب، والاتجار في البشر).

هذا الاضطراب في ملف المهاجرين الأفارقة، وارتباك السياسة الأوروبية وغموض السياسة الغربية عموما بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، كل هذه العوامل تجعل من ملف تونس ملفا من الدرجة الثالثة بعيدا عن الأولويات الديمقراطية وربما يتحول إلى ملف يعتبر فيه الاستقرار هو غلق الحدود بغض النظر عن حالة الدولة من حيث قيامها من عدمه. بحيث تتحول المساحة التونسية لنوع من المحتشد المحروس بأسوار السلاح.

الخلاصة:

إذا ما نحن استثنينا سيناريو الانهيار وفشل الدولة فإن سيناريو الانتخابات يبقى محطة قائمة بالضرورة لتجنب حالة الانهيار. وهذه الانتخابات إما ستكون انتخابات سابقة لأوانها، والمقصود بها بغض النظر عن تاريخها هو انعقادها ضمن سياق سياسي انتقالي من حالة قيس سعيد لوضعية سياسية جديدة. أو أن تكون انتخابات في وقتها، أي وبغض النظر عن تاريخها، فإنها ستكون انتخابات تمثل استمرارية للانتخاب الرئاسية 2019.

بغض النظر عن النتائج المتوقعة من الانتخابات الرئاسية الممكنة، فإن القبول الطوعي باللجوء للصندوق والشعب كحاكم وفيصل بين قيس سعيد ومنافسيه وخصومه المدافعين عن الديمقراطية والذين يرون فيه منقلبا، يبدو هذا السيناريو من السيناريوهات الأقل تكلفة على البلاد من سيناريوهات أخرى إما أن تودي بالبلاد لتفكك مؤسسات الدولة فيها، أو أن يؤدي فشل سعيد المتوقع لخروج الشعب عليه وهو ما سيدفع لصعود سيناريوهات التخلص منه بما يشبه وضعية رحيل بن علي سنة 2011 أو خروج بورقيبة سنة 1987.

اقرأ أيضا: عامان على الانقلاب في تونس.. مستقبل الدولة والديمقراطية والإسلاميين (1من2)