آراء ثقافية

"عين المصوِّر": جولة في معرِض التصوير الضوئي بقاعة أوبُنتو بالقاهرة

احتفى المعرض بأربعة مصورين لكل منهم أفق تجربتِه وخياله الخاص
حين نُطالِعُ تاريخَ تحوُّلات الفن التشكيلي منذ أواخر القرن التاسع عشر تنظيرًا وتطبيقًا، نصطدِم بذلك العاملِ الحاسمِ الذي كان ظهورُه أقربَ إلى جَندَلٍ اعترضَ مسارَ ذلك الفنّ وحوَّلَ مَجراه بعُنفٍ بالغٍ، أعني التصويرَ الضوئيّ. فيحدِّثُنا جورج ماذر في كتابه "سيكلوجيّة الفنّ" عن المصوِّر الضوئي الإنجـليزي إدوارد مايبرِدج (1830-1904م) وعالِم وظائف الأعضاء الفرنسي إتيان جول-ماري (1830-1904م) اللذَين انخرطا – كلّا على حِدَةٍ - في سلسلةٍ من التجارب لرصد حركة الحيوانات بدِقّةٍ عبرَ التصوير الضوئيّ.

ونظَرا إلى الصورة الضوئية باعتبارِها مِعيارَ الصِّدق الذي ينبغي أن يُحكَم على كلِّ تصويرٍ فنّيٍّ للفِعل الحرَكيِّ بمقتضاه، ما أثارَ ردودَ فعلٍ قويّةً من أربابِ الفنون التشكيلية، فظهرَت المدارسُ الانطباعيّةُ وما بعد الانطباعيةِ والتعبيريةُ والوحشيّة والمستقبليّة والتكعيبية والتجريدية والسريالية إلى غير ذلك. ومِحورُ هذه المدارس والتيّاراتِ جميعًا هو التركيزُ على صورة الأشياء في ذِهنِ الفنّان لا فيما تبدو عليه في الواقعِ المنفلِت بطَبعِه من كُلِّ تحديدٍ، على خِلافٍ واسعٍ بالطبع بين كلّ تيّارٍ وما عداه.

ولأنّ للفنِّ سُلطانًا شَرِهًا لا يَقبلُ ألّا يمتدَّ نفوذه على رُأقيم في البوع النشاط الإنسانيِّ كافّةً، فسرعان ما تحوَّلَ التصويرُ الضوئيُّ إلى وسيلةٍ فنّيّةٍ، ولم يعُد مجرَّدَ آليّةٍ للرَّصد العِلميِّ المُحايد، على أهمية الغرضِ الأخيرِ التي لا جِدالَ فيها.

ولم يكُن بُدٌّ من هذه المقدمة البالِغة القِصَر في رأيي لنَلِجَ عالَمَ هذا المعرِض الذي استضافَته قاعةُ أوبُنتو بالزمالك في القاهرة منذ 3 أيّار/ مايو إلى 23 من الشهر نفسِه، محتفيًا بأربعةِ مصوِّرِين لكلٍّ منهم أفقُ تجربتِه وخياله الخاصُّ، واختيرَ له اسمُ "عين المصوِّر/ Through the Lens" باعثًا على التفكير في العين المقصودة، أهي العضو التشريحيُّ الإنسانيُّ أم عدسةُ الصّوّارة التي تَغدو كأنها امتدادٌ لتلك العين خارج حدود الجسد، أم هي عينُ عقل المصوِّرِ ونافذةٌ على رُوحِه؟

جوناثان رشاد:
أرادَ المُخرج والمصوِّر الصُّحُفي والكاتبُ لإسهامِه هنا أن يَجولَ بين منابع النِّيل في إثيوبيا ومصبِّه في مصر. لكنّه في مُعظم صُوَرِه ركَّز على الإنسانِ البسيط المهمَّش في البلدَين، ربما ليَلفِتَنا إلى وحدة الحالة الإنسانية بين بلدَين تقِفُ إدارةُ كلٍّ منهما للأخرى بالمرصاد على خلفيّة الصِّراع حول حق استخدام مياه النيل.

وفي صُوَر رشادٍ تحوَّل المهمَّشُ إلى بطلٍ يحتلُّ موقعَ الصَّدارة، بل لا يكادُ يكونُ هناك غيرُه داخلَ إطار الصُّورة. ففي الصورة الآتية التي عَنوَنها "كبرياء إثيوبية" مع صُوَرٍ أخرى، نرى ملامحَ الرجُل وسُمرتَه ولِباسَه تنطِقُ جميعًا بأنه ربما يكونُ خُضَريًّا في حيٍّ مصريٍّ شعبيٍّ أو تُرَبيًّا في مقابر منطقة الإمام الليث أو السيدة نفيسة بالقاهرة! إنه يَنظرُ إلينا نظرةً عابسةً تمزِجُ الارتقابَ بالحُزن بالغضَب ويَعقِد ساعدَيه أمامَه في وضعٍ أقربَ إلى وضع القائمِ للصلاة الإسلامية، فهو يوحي إلينا بأنه منتظِرٌ في سلامٍ ما عسانا نبتدرُه به. وفي الخلفيّة تَقشَّرَ طِلاءُ حُلوق النوافذ الخشبية الأزرقُ المُخضَرّ، في تكريسٍ للإيحاءِ بضيق ذات اليَد، وربما بقِلّة الالتفاتِ إلى مِثل تلك التفاصيلِ واعتبارِها ترَفًا زهِدَه الرجُل، واكتسَت قُضبانُ النوافذِ الرماديَّ المُزرَقَّ الذي اكتسَاه القائمُ الحديديُّ المنتصِبُ أمامَ المَبنى، فعالَم الصورةِ يميلُ إلى البَرد في ألوانِه، ما يَفتحُ البابَ للتأويل على خلفية معرفتِنا بحَرّ إثيوبيا القائظ! ربما يلتمسُ أهلُها بَردًا وسلامًا في كلِّ ما لهم يَدٌ في صُنعِه، ولنا أن نفكِّر في الأمر، وفي علاقة ما ذهَبنا إليه بعنوان الصُّورة!



أمّا في الصورة الآتيةِ فالإنسان لا يحظى بالبطولة المُطلَقة تشكيليًّا، فصحيحٌ أنّ التكوينَ يُوحي إلينا بأنّ هذا الماءَ وهذه السماءَ وما بينهما من أرضٍ بعيدةٍ مِلكٌ لهذا الإنسان الوحيد المبتسِم الذي يُولِينا جانبَه، إلا أنّ ما يمنح اللقطةَ فرادتَها هو ذلك التطرُّف اللونيُّ البهيج، فالمياه الضحلة تأخذ درجةً فاتحةً من البُنّي، فيما تَستأثِر زُرقةُ السماءِ بالثلث العلوي من الصورة، ويفصل بينهما شريطٌ أخضرُ ضيّقٌ من الأرض المزروعة، وفي الثلث الأسفل ذلك الإنسان المنهمِك فيما يَفعلُه في قارَب البَرديّ المميَّز، مشتملًا بغِطاء رأسٍ يتجاوبُ لونيًّا والعُشبَ المُطلَّ من الركن الأيمنِ والأرضَ المزروعة على الضفة الأخرى. وهذا التبايُن اللونيُّ الواضحُ يذكِّرُنا بالانحيازات اللونية الواضحة لفناني ما بعد الانطباعية، ويَحضُرُني قولُ ﭬـان كـوخ عن أسلوبِه التلوينيّ:

"كلُّ ما سيكونُ تُربةً سيتشارَكُ الطابَع اللونيَّ شِبهَ البنفسجيِّ نفسَه، والسماءُ كُلَّها ستصطبغُ بصبغةٍ زرقاء."

وهكذا يبدو أنّ التصويرَ الضوئيَّ حين يُقصَد به الفنُّ قد يَنحازُ إلى بعض الاختيارات التي سبقَ إليها التصويرُ الزيتيّ، ومنها هذا التبايُن اللونيُّ الصارخُ الذي أبرزَه التقاطُ المنظر الطبيعيِّ الذي تبدو فيه الطبيعةُ كما لو كانت هي التي تُحاكي الفنَّ، على عكسِ ما قد ألِفناه!
 


وفي صورةٍ ثالثةٍ يفاجئنا فنانُنا بفرادة لقطتِه، حيث يصوِّر شُجيرَتين تقفان متجاورتين دون أن تَظهر التربةُ من تحتِهما، فليس ثَمّ إلا سَحابُ السماء وهما. وتبدو لي هذه الصورةُ ببساطة عناصرِها وصفائها أقربَ إلى الأدنَويّة "Minimalism" التي يُنظَر إليها عادةً بوَصفِها ردَّ فعلٍ على التعبيرية المجرَّدة والحَداثة، حيث يهتمُّ العمل بالكشف عن جوهر الموضوع أو هُويَّتِه، من خِلال اطِّراح كلِّ ما هو ليس جوهريًّا من ملامحَ وأشكالٍ ومفاهيم. والمهمُّ أنّ البطلَ هنا شُجيرتان شامختان معتزّتان بصمتِهما وخُضرتِهما ونسَقِهما في مواجهةِ السماء.
 


ملَك قبّاني:
رغم وجود صُوَرٍ بالألوان بين أعمالِها، إلا أنّ ما يبدو لي أجدرَ بالحديثِ عنه هو صُورُها الأحاديّة اللون ""Monochromatic (ذات الأبيض والأسود). ففي إحدى صُورِها الموسومة "سِيوة" نرى في الثلث الأسفل تشابُكًا في رمال الصحراءِ مِن آثارِ عجَلات المَركَبات التي مرّت بالبُقعة المُصوَّرة. ولا تلبث هذه الآثارُ أن تتباعَدَ تدريجيًّا كلّما أوغَلنا في الثلث الأوسط، فيما يحتفي الثلث الأعلى بالمنطقة الأبعد عن عين المصوِّر، حيثُ الكُثبانُ الرمليةُ الأكبر تُلقي بظلالِها السوداء، والسماءُ رماديّةٌ تتخللُها سُحبٌ متفرّقة. وعبقريةُ الصورةِ في أنّها قد استطاعت أن توحي إلينا بضجيج الاقتحام البشَريّ لهذه البقعة الصحراوية رغم خُلُوّ الصورةِ مِن البشَر تمامًا، والخفوت التدريجي لهذا الضجيج كلّما أوغَلنا بعيدًا في الصحراء حتى لا يَبقى إلا صفاء الصحراء والسماء.



وفي صورةٍ أخرى يتّضِح لنا اتّكاءُ ملَك على عنصرٍ غير تشكيليٍّ في خَلق الجوّ الفريد لصُورِها، وأعني عنصرَ عنوان الصورة الذي يَخلقُ جدَلًا شِعريًّا دراميًّا بين المدلول المباشر لمحتوى الصورة وما يوحي به العنوان من مدلولاتٍ أبعدَ أو "مَعانٍ ثَوانٍ" بمُصطلَح البَلاغيّ العربيّ العظيم عبد القاهر الجرجانيّ.

إننا لا نرى في الصورة إلا مجموعةً متناثرةً من الحُلِيّ (قلادةً وخاتَمًا وأسوِرةً) على خلفيّةٍ برّاقةٍ تَشغلُ مُعظمَ مساحة الصورة، وفي أقصى اليسار ظلامٌ تامّ. وقد سمّت الصورةَ "صورةً ذاتيةً" فحُقَّ لنا أن نتوقّع صورةً لوجهِ الفنانةِ كما اعتدنا من هذا الوَسم في الفنون البصَرية. ومِن هنا ينشأ الجدَل: هل يَنحلُّ كِيانُ الفنانة إلى هذه المجموعة من الحُليّ؟ هل طولُ العِشرة بين الجسد وما يلتصق به من إضافاتٍ يجعلُ الجسدَ – ناهيكَ عن الرُّوحِ – ينطبعُ على تلك الإضافات؟ ونَذكرُ الرُّوحَ لأنّ "الصورةَ الذاتيةَ" في الفن التشكيليّ كما أسلَفنا تُطلَق على صورةِ الوجهِ مرآة الرُّوح، فلنا أن نتحسّسَ تلك الرُّوحَ هنا في هذه المَصُوغات التي تعرفُ فنانتُنا فيها نفسَها، فيما قد تركَت الركنَ الأيسرَ مُظلمًا خاليًا من الحُليِّ، فكلُّ ما ليس من الحُليِّ هو خارجُ نفسِها الذي يمثِّل لها غيبًا قاتمًا لا أمانَ له!
 


ريمون خليفة:
لعلَّ مِن أبرزِ صُوَره هاتين الصورتين اللتَين سمّاهما "عودةً إلى البيت". في كلٍّ منهما نرى امرأةً تُولينا ظَهرَها مستقبِلةً بابَ عمارةٍ من الحديد المُشكَّل يبدو أنها موشكةٌ على فَتحِه. في إحداهما تتّشِح المرأةُ السَّوادَ الشعبيَّ المصريَّ المعروف، وتحملُ فوق رأسِها وعاءً لدنًا أخضرَ فاتحَ اللون، وتنتعل نعلَين باليَتَين، ونرى جدارَ العمارةِ المتّصِل بالباب، وسلكَي كهرباءٍ أو هاتفٍ يتسللان إلى الداخل عبرَ الفُتحة التي تَعلو الباب، بل إننا نرى شريطَ اللِّحام الأصفرَ يبدو كالنَّدبة في السلك العلوي! ونرى أرقامًا مكتوبةً بالطبشور الأبيَض على لَوح الباب كأنها تاريخٌ مُسجَّلٌ من قَبيل التواريخ التي يسجِّلُها بهذه الطريقة موظّفو فحص العقارات تمهيدًا لمدّها بالغاز الطبيعيّ.

وفي اللوحة الأخرى امرأةٌ مشتمِلةٌ بثوبٍ أحمرَ زَهريٍّ ضافٍ فوق جلبابٍ قريبٍ من البنفسجي، لكننا نلاحظُ أنّ نقشَ الباب الحديديّ هنا غيرُ شائعٍ في مصر، تمامًا كما أنّ زيَّ المرأةِ لا يكادُ يكونُ معروفًا في مصر إلا مرتبطًا بنساء النوبة. ولذا نشتبه في أنّ هذه الصورة الثانية ملتقَطةٌ في إثيوبيا التي صرّحَ بعضُ أسماء لوحاتِه الأخرى بأنه قد التقطَها هناك. والمهمّ في الصورتَين هو إبرازُ ما في اللحظتين – اللتَين كثيرًا ما نمرُّ بهما ولا نلتفتُ إليهما - من جَمالٍ خلقَه التكوينُ والتبايُن اللونيّ، فضلًا عمّا تكتنزانِه من الشعور بدفء العودة إلى البيت رغم الظُّلمة المُطلّة من فُرَج الباب الحديدي.
 




وفي صورتِه "رِيش" نرى حزمتين من عِصِيِّ التلميع المزوَّدة بالريش الملوَّن معلَّقَتين في مسمارَين مثبَّتَين بحائطٍ أسفلَ نافذةٍ خشبيّة متهالِكة، ويغلبُ الأصفرُ على ريش إحدى الحزمتين فيما يغلبُ الفُوشِيا على الأخرى، وفي خلفيّتِهما نرى نتيجةَ حائطٍ تحملُ أسماء الله الحُسنى على خلفيةٍ زرقاءَ رماديةٍ، وأسفلَها إعلانٌ عن متجَر مجوهرات، والحائط وإطار النافذة باللون الخوخيّ السلمونيّ (سيمون)، فيما نرى خشبَ مصراعَي النافذة ملوَّنًا بالفيروزيّ، وزجاجهما بدرجةٍ من البرتقاليّ. والخلاصة أنّنا أمام تركيبٍ لونيٍّ خلّابٍ منفتِحٍ على التأويل إذا ما أطلَقنا لأنفُسِنا العِنان، فالألوانُ دافئةٌ في الأشياء المتّصِلة بالحياة الإنسانيةِ مِن حائطٍ وريشٍ، ثمّ هي تَبرُد بعضَ الشيءِ في الفيروزيّ الذي يلوِّن خشبَ المصراعَين كأنها تَخلُقُ حدودًا بين أهل البيت والأغراب، ثمّ هي تَبرُد تمامًا في الأزرق والرماديّ في خلفية أسماء الله الحسنى حيثُ الغَيبُ الجَليلُ المتعالي الذي لا سبيلَ إلى اكتناهِه. هذا فضلًا عن واقِعةِ وجود حُزمتَين من الرِّيش، ما يعني أنّ الغرضَ هو عَرضُهما للمارّة وإغراؤهم بالشِّراء، وكلُّ هذا على خلفيّةٍ تشي بوَضعٍ اقتصاديٍّ متواضعٍ، لكنه لم يمنع من الاحتفاء بدفء الحياة بهذه الألوان البهيجة.



ناتاشا يونان:
ركَّزَت فنانتُنا على التصوير بالماسح الضوئي فجاءت به صورُها كلُّها تقريبا. وهذا النمط من التصوير هو مثالٌ آخَر على تمدُّد سلطان الفنّ، فبعكس استخدام الماسح الضوئي لتصوير المستندات، يتعامل الفنّانُ هنا مع أشياء ثلاثية الأبعاد ليخلق منها صورًا مطبوعةً غير تقليديّة.

وإمعانًا في الخروج على التقليدية لجأَت فنانتُنا إلى الزُّهور في رحلتها من اليَنع إلى الذُّبول، فأخرجَت لنا صورًا تحتفي بهذه الثنائيّة من الموت والحياة، وإذا صدقَ المثَل المصريّ "تذبل الوردة ورائحتها فيها"، فإنّ صُورَ ناتاشا تحاول أن تتبَّع رُوحَ الوردة بين هذَين القُطبَين الوجوديَّين، فهي تصالحُنا على الموت من طرفٍ خفيٍّ، وبطريقتِها الخاصّة، لا سيّما أنّ الأوضاع النسبيةَ لأزواج الورد في كلّ صورةٍ تَخلُقُ ما يشبه الرقصة الخاصّة، فاليانعة والذابلة متماسّتان بساقَيهما، واليانعة هي الأعلى هنا، والذابلة هي الأعلى هناك، وهنا تميلان على محور الصورة الرأسي، وهنا لا تميلان، وهكذا، كأنّنا إزاءَ عرضٍ راقصٍ مؤلَّفٍ في كلّ صورةٍ من قُطبَي الموت والحياة.