قضايا وآراء

"المجتمع المدني" التونسي ودوره في إفشال الانتقال الديمقراطي

هل يساهم المجتمع المدني التونسي في الإقصاء؟- جيتي
في مقال له بصحيفة الشروق بتاريخ 18 آب/ أغسطس 2021، يذهب الأستاذ صلاح الداودي –وهو من أنصار "تصحيح المسار"- إلى أن الشعار الأبرز للثورة التونسية (شغل، حرية، كرامة وطنية) هو في الأصل شعار طلابي ظهر في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس سنة 1998. وبصرف النظر عن اندراج هذا التأريخ في خطاب دعائي لإجراءات الرئيس بما هي تعبير عن "موجة ثالثة من المطالبات الشعبية" (بعد موجتي 2000 و2010)، فإن ما يهمنا في هذا المقال هو "موضع التلفظ" (الجامعة التونسية) والجهة التي صنعت هذا الشعار (اليسار الطلابي باعتباره معارضة معترفا بها ولكن مقموعة إلى حد ما)، والسياق السياسي العام (هيمنة اليسار على المعارضة الميدانية وغياب الإسلاميين على الأقل من جهة الاعتراف الرسمي في الجامعة وخارجها).

إننا أمام حقائق موضوعية سيكون لها تأثير بالغ في إدارة مرحلة التأسيس وما بعدها، كما أنها ستحدد فهم "القوى الديمقراطية" لاستحقاقات الثورة ودور "الإسلاميين" في مأسسة شعاراتها، بل موقعهم في عملية التفاوض الجماعي حول آليات توزيع السلطة والثروة في الديمقراطية التمثيلية (الحقل السياسي بأحزابه ومؤسساته الدستورية وغير الدستورية)، وكذلك موقعهم في مختلف الأجسام الوسيطة الموروثة من الزمن الاستبدادي (منظمات المجتمع المدني بجمعياتها الحقوقية والنقابية والإعلامية والنسائية وغيرها).

أكّدت الوقائع منذ رحيل المخلوع أن العقل الطلابي "اليساري" (بمكوّناته الماركسية والقومية) لم يبق داخل أسوار الجامعة، بل فاض على الفضاء العام ليطبع السجال السياسي بإشكالياته ومقارباته وحلوله التي يمكن أن تجد تعبيراتها في منطق التناقض الرئيس (مع منظومة الحكم أو الرجعية البرجوازية) والتناقض الثانوي (مع الإسلاميين أو الرجعية الدينية)

فقد أكّدت الوقائع منذ رحيل المخلوع أن العقل الطلابي "اليساري" (بمكوّناته الماركسية والقومية) لم يبق داخل أسوار الجامعة، بل فاض على الفضاء العام ليطبع السجال السياسي بإشكالياته ومقارباته وحلوله التي يمكن أن تجد تعبيراتها في منطق التناقض الرئيس (مع منظومة الحكم أو الرجعية البرجوازية) والتناقض الثانوي (مع الإسلاميين أو الرجعية الدينية).

ولا شك عندنا في أن هذا "المنطق" هو المبدأ التوليدي للأغلب الأعم من المواقف الصِدامية والانقلابية لمكونات "العائلة الديمقراطية" بعد الثورة، أما بعض المواقف التوافقية أو غير الصدامية التي قد تتناقض في الظاهر مع هذا "الخيار الاستراتيجي" فإنها مجرد تكتيكات أو تقاطعات مؤقتة فرضها المزاج الشعبي العام أو توازنات القوة، ولذلك سرعان ما يتم التراجع عنها عند انتفاء أسبابها.

والأمثلة على ما تقدم كثيرة، وهي تشمل مختلف الحقول السياسية والمدنية، انطلاقا من الموقف من النظامين السياسي والانتخابي، مرورا بالموقف من ملف العدالة الانتقالية وتفكيك منظومة الاستبداد والفساد، وانتهاء بالموقف ممّا يسميه "الديمقراطيون جدا" بالعشرية السوداء التي كانوا أكبر مستفيد منها وأول منقلب عليها ومرذّل لها.

وليس يعنينا في هذا المقال إلا مواقف "المجتمع المدني"، أي تلك المنظمات غير الحكومية التي يُفترض فيها -من جهة التعريف- أن تكون مستقلة عن السلطة السياسية ومفتوحة لكل التونسيين، دون إقصاء أو تمييز على أساس الهوية سواء من جهة تركيبتها أو من جهة مواقفها "الوطنية".

لعّل النجاح الأهم للنواة الصلبة للمنظومة القديمة هو أنها قد استطاعت منذ الأيام الأولى للثورة أن تحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية والقيمية إلى مدارات هوياتية بائسة، وهو ما كان يعني نقل المطلب التأسيسي من صراع الجميع ضد المنظومة القديمة وخياراتها اللا وطنية إلى صراع "الديمقراطيين" ضد المشروع الظلامي للإسلاميين.

ولمّا كانت "الديمقراطية" في تونس كلمة ملتبسة لا معيار لها ولا مرجع لمعناها إلا العداء للإسلاميين -إذ لا يوجد في أدبيات العائلة الديمقراطية بيسارييها وقومييها وبورقيبييها، ولا في تواريخهم ولا في تنظيماتهم ولا في مواقفهم بعد الثورة أو قبلها ما يشهد لهذه الديمقراطية المزعومة- فإن الطريق كان ممهدا -منذ المرحلة التأسيسية- للتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية" ذات المهمة التاريخية "المقدسة": حماية النمط المجتمعي التونسي من خطر الظلاميين والمتطرفين الإسلاميين، أي واقعيا منعُ أي تعديل في منطق اشتغال السلطة وفي آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها بناء على المشهد السياسي الجديد (ظهور حركة النهضة فاعلا أساسيا في المشهد السلطوي).

منذ المرحلة التأسيسية كان هدف الدولة العميقة هو إيجاد فجوة دائمة بين "التمثيلية الشعبية" وبين "مواقع القرار" داخل أجهزة الدولة وهوامشها الوظيفية (منظمات المجتمع المدني)، أي تغليب القوة النوعية للّوبيات الأيديولوجية والمالية والجهوية على القوة العددية أو الانتخابية للإسلاميين. وقد ساعدها في ذلك "قابلية" التدجين أو الابتزاز التي حكمت حركة النهضة وجعلتها تقبل بالتطبيع مع المنظومة القديمة والدخول في سياسة التوافق بشروط تلك المنظومة.

ولم يكن ذلك يعني إلا انتقال الحركة من مرحلة "الاستعلاء الإيماني" ("مثالية" تجد جذرها في مقولات تراثية "ما قبل مواطنية") إلى مرحلة "الاستضعاف الديمقراطي" ("واقعية" تقترب من الانبطاح وتتقاطع موضوعيا لا قصديا مع منطق "ما دون المواطنة" الذي يستهدفها). وهو استضعاف لا يمكن رده في كلّيته إلى أسباب موضوعية تتجاوز إرادة قياداتها، إذ لا يمكن إنكار مسؤولية تلك القيادات عن الكثير من الخيارات التي أسهمت في نجاح استراتيجية الدولة العميقة وملحقاتها الوظيفية، وهو نجاح يجد تعبيراته القصوى في "تصحيح المسار" وفي مختلف الأجسام الوسيطة التي تناصره، ولو بمنطق "الموالاة النقدية" من داخل "المجتمع المدني".

كان واضحا أن "المجتمع المدني" قد تحوّل إلى حصن من حصون المنظومة القديمة وحليف استراتيجي لورثتها، كما كان واضحا بطلان التعريف النظري لمكوناته باعتبارها أجساما وسيطة مستقلة عن السلطة السياسية، أو تقوم بملء المجال العام "بين الفرد من جهة والدولة من جهة أخرى"

بعد رحيل المخلوع، كان واضحا أن "المجتمع المدني" قد تحوّل إلى حصن من حصون المنظومة القديمة وحليف استراتيجي لورثتها، كما كان واضحا بطلان التعريف النظري لمكوناته باعتبارها أجساما وسيطة مستقلة عن السلطة السياسية، أو تقوم بملء المجال العام "بين الفرد من جهة والدولة من جهة أخرى". فرغم حل الحزب الحاكم في عهد المخلوع بقرار قضائي، فإن المنظومة القديمة قد أدارت جزءا مهمّا من المرحلة التأسيسية بمنطق "استمرارية الدولة" الذي كان يعني واقعيا استمرار منطق المنظومة القديمة وهيمنة نخبها/ حلفائها على مفاصل الحكم والمعارضة.

فالاتحاد العام التونسي للشغل لم يكن يوما "خيمة تونس" بجميع مكوناتها، بل كان دائما خيمة "العائلة الديمقراطية" دون سواها، وهو ما تجلّى في مواقفه من الصراعات السياسية، بل حتى في تعاطيه مع ملفي العفو التشريعي العام والعدالة الانتقالية. وكذلك الشأن بالنسبة لرابطة حقوق الإنسان، فهذه الرابطة كانت لا تنطق إلا للدفاع عن "الإنسان الديمقراطي" وترذيل كل خيارات "الإنسان المتدين"، ومهاجمتها ببيانات لا تختلف في شيء عن بيانات الرابطة منذ تدجينها زمن المخلوع. أما الجمعيات النسائية والهيئات الإعلامية وغيرها فقد بقيت محافظة على "روح" المنظومة القديمة وعلى خياراتها الإقصائية على أساس الهوية.

لقد أكدت "الثورة التونسية" ومساراتها المتعثرة ومآلاتها الحالية أن المجتمع المدني في أغلب مكوناته ليس إلا ملحقا وظيفيا بالنواة الصلبة للمنظومة القديمة، فهذا المجتمع لا يفهم "المدنية" إلا باعتبارها مناقضة لأي إحالة دينية، ولذلك لا يجد حرجا في أن يضع نفسه في خدمة أي مشروع استبدادي أو انقلابي ما دام هذا المشروع يعادي "الإسلاميين"، حتى لو كان ثمن هذا العداء ضرب الديمقراطية ذاتها أو تهديد الأجسام الوسيطة بصورة "وجودية" تنتهي بنفي الحاجة إليها، أو على الأقل جعلها مجرد ملحقات وظيفية لا مهمة لها إلا تزيين مشهد ديمقراطي "صوري" كما كان الأمر زمن المخلوع.

المجتمع المدني التونسي لم يكن يوما خارج السلطة أو مضادا لها، كما لم يكن يوما صوتا لكل التونسيين، بل صوتا لأولئك الذين تسمح لهم السلطة بالكلام تحت سقف معين؛ أساسه العداء المشترك للإسلاميين ولأي تفاوض مستأنف حول المشترك الوطني أو الكلمة السواء. ولذلك فإننا لا نستغرب أبدا موقف أغلب مكونات "المجتمع المدني" من "العشرية السوداء" ومن "تصحيح المسار"

في التحليل الأخير، فإن الخطأ الأكبر الذي حكم المرحلة التأسيسية -وأفشل مع أسباب أخرى عملية الانتقال الديمقراطي السياسي والاقتصادي- هو اختزال "المنظومة القديمة" في تعبيراتها السياسية أو المالية، وعدم الاشتغال النقدي على مكوناتها المدنية وعلى دورها في شرعنة الخيارات اللا وطنية للمنظومة القديمة. فالمجتمع المدني التونسي لم يكن يوما خارج السلطة أو مضادا لها، كما لم يكن يوما صوتا لكل التونسيين، بل صوتا لأولئك الذين تسمح لهم السلطة بالكلام تحت سقف معين؛ أساسه العداء المشترك للإسلاميين ولأي تفاوض مستأنف حول المشترك الوطني أو الكلمة السواء. ولذلك فإننا لا نستغرب أبدا موقف أغلب مكونات "المجتمع المدني" من "العشرية السوداء" ومن "تصحيح المسار".

إن سواد العشرية لا يأتي من انتفاء "المكاسب" (تغوّل النقابات، رفع الاحترازات على اتفاقية سيداو، إعطاء ترخيص لجمعية المثليين، المصالحة الاقتصادية مع رموز الفساد، السيطرة على المشهد الإعلامي.. الخ)، بل يأتي "السواد" من وجود حركة النهضة في مركز الحقل السياسي (رغم وزنها المحدود في مراكز القرار التنفيذي).

أما الدفاع عن "تصحيح المسار" فإنه لا يأتي بسبب إنجازاته الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا من تثمينه لدور "المجتمع المدني" أو تشريكه في صناعة السياسات العامة للدولة، بل يأتي أساسا من أنه قد حقق ما عجزت أغلب القوى "الديمقراطية" (أي "الانقلابوقراطية") عن تحقيقه منذ المرحلة التأسيسية: إخراج النهضة من الحكم وتحويلها إلى ملف أمني- قضائي. إنه "ثمن" معقول من وجهة نظر "المجتمع المدني التونسي" ما دام يعيده إلى زمن "التجانس" الأيديولوجي المفروض بقوة الدولة، وما دام يترك له هامشا للحركة في خدمة النواة الصلبة للسلطة واقعيا، والمتاجرة بقيم الحداثة والمواطنة و"الحق في الاختلاف" نظريا.

twitter.com/adel_arabi21