كتاب عربي 21

دولة الضد واختطاف البرلمان.. مفاهيم ملتبسة (33)

ينفذ البرلمان المصري ما تطلبه منه السلطة- الأناضول
قد لا نبالغ في القول إنه لا يمكننا أن نشهد في الحياة السياسية المصرية نسخة من البرلمان أسوأ من النسخة الحالية، فمع كل مساوئ النسخ السابقة في "دولة كأن" كان فيها ولها صوت معارض وإن كان غير مؤثر أو له من التأثير القليل، ولكنه كان موجودا، ومعبرا عن إرادة الشعب المصري حتى ولو بمجرد الكلام فقط.

ويُعد التمرير والتعتيم على اتفاقية التنازل تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية والتي ترتب عليها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير؛ مؤشرا على عملية اختطاف تام وعام، إذ يأتمر بأمر الأجهزة الأمنية بصورة كلية بل هو من المنبع بتشكيل منه، ومن ثم فإن هذه النسخة وبكل ثقة لا يمكن أن يأتي أسوأ منها، حتى أننا لا يمكن أن نشعر بأي دور ملموس لهذا المجلس الذي لا يقوم بأي دور برلماني متعارف عليه في هذا المقام.

إذا استمرت الأمور على ما هي عليه لسنوات قادمة تجرى فيها انتخابات برلمانية، فأقصى ما يمكن أن يصل إليه المجلس القادم أن يشبه المجلس الحالي بعد تطبيعه وتطويعه على الاستئناس للقيام بدوره المرسوم بعد الاختطاف والترويض، في ظل قيامه بتنفيذ ما تطلبه منه الحكومة دون معارضه، بل إنه في بعض الأحيان ينفذ أكثر مما يُطلب منه
وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه لسنوات قادمة تجرى فيها انتخابات برلمانية، فأقصى ما يمكن أن يصل إليه المجلس القادم أن يشبه المجلس الحالي بعد تطبيعه وتطويعه على الاستئناس للقيام بدوره المرسوم بعد الاختطاف والترويض، في ظل قيامه بتنفيذ ما تطلبه منه الحكومة دون معارضه، بل إنه في بعض الأحيان ينفذ أكثر مما يُطلب منه ولا يعترض على أي أمر دون النظر مطلقا إلى دوره وشعبيته وردود فعل الناس بشأن قراراته. فمثل هذه الأمور لا تشغله، وهو أمر منطقي إذا نظرنا إلى نشأته وطريقة عمله؛ التي تجعله معلقا بالسلطة ورهنا لإشارتها.

نشأ هذا المجلس نشأة مشوهة، إذ كان الإعلان عن فتح باب الانتخابات بشكل مفاجئ لمعظم المراقبين والسياسيين وحتى لبعض النواب أنفسهم، فقد تم الإعلان عن عقد الانتخابات قبل فتح باب الترشيح بأسبوع واحد فقط، وجرت الانتخابات بشكل عاجل، لم يتح الفرصة لأي أحد أن يعد لها، بخلاف الأجهزة الأمنية التي قد رتبت الأمور بشكل كامل على كافة المستويات. ولم يمنع ذلك من عمليات شراء المقاعد التي جرت بشكل موسع، خاصة في قوائم حزب السلطة التي وصلت تسعيرة الكرسي فيها إلى ما يقرب من 50 مليون جنيه (3.2 مليون دولار في تشرين الأول/ أكتوبر 2020) بحسب بعض المقربين من النظام، الذين انتقدوا عدم اختيارهم في تلك القوائم، بل إن معظم النواب وضعوا أقاربهم من الدرجة الأولى كاحتياطي لهم في حال تعرضوا لأي طارئ؛ ليكون المنصب من نصيبهم ضمن تمكين مبادئ التوريث السياسي. وقد رأينا مؤخرا ما تم الكشف عنه عن تولى نائبة جديدة خلفا لوالدتها التي توفيت، ونظرا إلى أن والدتها كانت منتخبة ضمن القوائم فتم تولية الاحتياطي لها ألا وهي ابنتها.

نشأة هذه المجلس لم تكن مشوهة فقط بسبب الاستعجال أو ترتيب القوائم وشراء المقاعد فقط، ولكن كذلك كان الحرص الكبير على استبعاد كل صوت كان له تأثير في المجلس السابق، والتوسع في اختيار صنيعة الأجهزة الأمنية إلى الحد الذي تم فيه إعادة مجلس الشورى للحياة من جديد بعد أن سبق إلغاؤه. فقد بات مجلس النواب بغرفتيه مساحة لتبادل المصالح بين نظام الثالث من يوليو وتابعيه؛ فهناك من تحتاجه السلطة فتقدم له المنصب وتمكنه من المقعد وتكافئه على ما قدم لها.
بات مجلس النواب بغرفتيه مساحة لتبادل المصالح بين نظام الثالث من يوليو وتابعيه؛ فهناك من تحتاجه السلطة فتقدم له المنصب وتمكنه من المقعد وتكافئه على ما قدم لها

على سبيل المثال تم انتخاب رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي حكم بسعودية الجزيرتين وتعيينه رئيسا للمجلس، خلفا لرئيسه السابق الذي لم يشارك في أي جلسة من جلسات البرلمان حتى اليوم مع استمرار عضويته فيه. وهذا إن دل فإنما يدل على كيفية إدارة السلطة لهذه المؤسسة واختطافها كليا، إلا أنه في نفس الوقت هناك من يستغل المنصب لاستمرار تجارته غير المشروعة، وهناك حادثة وقعت مؤخرا نجح فيها أحد النواب في استرداد سيارته من الشرطة بما فيها من ممنوعات.

عملية الاختطاف هذه تدرك الأجهزة الأمنية مفاصلها بصورة كاملة وتامة، فهي من خططت ونفذت تلك الخطة الفاشية المسكونة بالفساد، وقد ظهر ذلك في المجلس السابق الذي أقر عددا غير مسبوق من القوانين دون مناقشة أو مراجعة، ولكن تمت الموافقة عليها بصورة جماعية ولم يعقب على الحكومة أو يراجعها في مادة أو قانون. والمجلس الحالي يزيد على ذلك بأنه يسارع إلى تحويل أي اقتراح من الحكومة إلى قانون وتشريع قبل أن تفكر الحكومة نفسها في ذلك، فرغبة الحكومة في قرض مجابة مباركة، وتفكير الحكومة في فرض ضرائب هي أوامر بالنسبة للمجلس، وقس على ذلك كل ما يخص الحكومة سواء أكبر من ذلك أو أقل.

ما تريده الحكومة يكون، والمجلس يعمل لدى الحكومة وفي خدمتها بصورة غير مسبوقة، فهو ينفذ لها أحلامها (أحلام سعادتك أوامر)، وهو أكثر من ذلك يمرر ويغطي على جرائمها بالزيارات التي تنظمها لجانه في غرفتيه للسجون والسجناء والإقرار بأن كل شيء في أحسن حال، بل ويعلن أن ما هو حادث من سياسات للنظام في هذا الحقل "نموذج لأعلى المقاييس الدولية لحقوق الإنسان وترجمة واقعية للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان".

البرلمان لديه أدوار سياسية وتشريعية وقانونية خطيرة جدا، وهو المنوط به إدارة العلاقة بين الحكومة والمواطنين لصالح المواطنين والناس، ولكن ما يحدث على الضد من ذلك تماما، وليس أدل على ذلك من رسالة رئيس مجلس النواب إلى رئيس نظام الثالث من يوليو والتي تضمنت من العبارات والأوصاف ما لا يمكن تخيله
من ناحية أخرى فإن الدور الذي يقوم به مجلس النواب وتابعه مجلس الشيوخ (الذي لا يكاد يسمع له صوتا؛ ولا يُعرف للآن لماذا استُغني عنه ولماذا عاد غائبا إلا أن يكون ذلك ساحة لتوزيع مغانم على رقعة أوسع من المستفيدين والمؤيدين الموافقين)؛ في الحقيقة وواقع الحال في الحياة السياسية المصرية من أخطر الأدوار التي يمكن أن تقوم بها مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية، فالبرلمان لديه أدوار سياسية وتشريعية وقانونية خطيرة جدا، وهو المنوط به إدارة العلاقة بين الحكومة والمواطنين لصالح المواطنين والناس، ولكن ما يحدث على الضد من ذلك تماما، وليس أدل على ذلك من رسالة رئيس مجلس النواب إلى رئيس نظام الثالث من يوليو والتي تضمنت من العبارات والأوصاف ما لا يمكن تخيله.

ففي ظل ما يعانيه الناس من ضنك وأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة الوطأة، وصولا إلى ترويج الحكومة فوائد أكل "أرجل الفراخ" أو "أعضائها الحساسة"، تأتي رسالة رئيس المجلس بمناسبة العام الجديد ليقول فيها: "يطيب لي أن أبعث إليكم باسمي، وباسم نواب الشعب، خالص التهاني وأسمى الأمنيات بمناسبة حلول العام الجديد، حيث ارتقى الشعب المصري أعلى مراتب السعادة والرخاء، وارتدى ثياب العزة والمنعة والأمن والأمان". وأضاف: "عام جديد تستقبله مصر معكم، تخطو فيه خطوات الواثق على درب التطور والتنمية، مستشرفة غداً واعداً نزرع فيه الأرض الخصبة، ونقيم عليها للإنسان مزارع ومصانع، ونحقق فيه رغد العيش لكل مواطن، بقطوف دانية من زخم الإصلاحات التي انتهجتها مصر في عهدكم على كافة الصعد".

وتستمر الرسالة في إيراد مثل هذا الكلام الأجوف الذي لا يعبر عن أي حقيقة سوى استمرار هذا الرجل في منصبه؛ طالما أنه يجيد مثل هذه الرسائل التي تطرب رئيس النظام ولا يسأل عن المياه التي نزرع بها هذه الأرض "الخصبة"، أو يسأل عن الدواء أو الغذاء لهؤلاء الذين يرفلون في "ثياب العزة والمنعة". فلم يكن للمجلس ولا رئيسه من دور يعقب على الاتفاق المشؤوم الذي عقده رأس النظام حول مياه النيل الذي تستند إليه إثيوبيا في كل سياساتها ومواقفها.

انشغالنا بدولة الضد ومؤسساتها وسياسات واستراتيجيات الاختطاف الكامل والشامل؛ لأن ما تمثله من خطر ليس قصير المدى فحسب أو محدود التأثير فقط، بل خطرها ممتد ومقيم وعميق، وسيترك أثره على بنية الدولة المصرية وكيانها ولن يزول بسهولة حتى مع زوال هذا النظام
إن انشغالنا بدولة الضد ومؤسساتها وسياسات واستراتيجيات الاختطاف الكامل والشامل؛ لأن ما تمثله من خطر ليس قصير المدى فحسب أو محدود التأثير فقط، بل خطرها ممتد ومقيم وعميق، وسيترك أثره على بنية الدولة المصرية وكيانها ولن يزول بسهولة حتى مع زوال هذا النظام، وهو من أهم مظاهر ومؤشرات الظلم والطغيان الذي يمارسه.

إن التحذير من انسياق وانسحاق هذه المؤسسات في وظيفة الضد هذه هو أمر جدير أن يصدر من المؤسسات نفسها، ولكن نتيجة للتجريف القائم وتغلغل وتغول الأجهزة الأمنية صاحبة النظر القصير التي لا ترى أبعد من الفترة الزمنية الحالية وأمن السلطة بمفهومه المضيّق، والتي ترفل فعليا في المنافع والمصالح والمزايا التي لا تشكل إلا فتاتا؛ لم تعد هذه المؤسسات تنظر إلى مستقبلها ولم يعد فيها من يحمي غدها، ومن ثم فإن محاولة نظام الثالث من يوليو تكريس اختطاف المؤسسات وتحويلها عن وظائفها الجوهرية والأصلية بهدف يصعب أمامه النيل منه أو زواله، أو يدعم ضعفه ويمرر فشله ويؤخر انهياره بتوجيه دفة هذه المؤسسات للعمل ضد وظيفتها الحقيقية، لن تمنع من هذا الانهيار المتوقع والزوال الأكيد، ولكن النتيجة ستكون كاسحة وشاملة لهذا النظام ومؤسسات الضد التي يبنيها على عينه: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ".

twitter.com/Saif_abdelfatah