كتاب عربي 21

كيف انقسم شعب تونس؟

1300x600

الانقسام مصطلح تتضمن وحدَتُه الدالّة شرط القابلية للانقسام فلا ينقسم الجسمُ إلا متى كانت الذرات المكونة له قابلة لذلك من الداخل وخاضعة لقوة قاسمَةٍ أو مقسِّمَة من الخارج. نحن أمام حقيقة واقعة وهي شعبٌ منقسم يحمل القابلية للانقسام وقوى مقسِّمَة من الخارج تشتغل إقليميا أو دوليا حسب مصالحها لمنع هذا الجسد ـ الذي هو جزء من الجسد الأكبر ـ من الوحدة ومن تشكيل كتلة صلبة مانعة للانقسام عصيّة على الاقتسام. 

طبعا لا يقتصر هذا التشخيص على تونس وشعبها بل يمكن سحب خلاصاته على بقية الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، حيث تتزاحم عوامل الانقسام لتحقق نفس الهدف وهو منع تشكل الكتلة الشعبية الصماء التي تكون قاطرة ضرورية للتحرر والانعتاق من حالة السقوط والفوضى. لا نقصد بالكتلة الصلبة كلّ مكونات المجتمع أو نسبة كبيرة منه بل نقصد الكتلة القادرة على قلب المعادلة أو الصمود في وجه الانقلابات وهي نفس الكتلة التي نجحت في إشعال جذوة الاحتجاجات الاجتماعية التي أسقطت رأس النظام في مصر وتونس وليبيا.
 
الأقسام الداخلية 

ما يمكن استخلاصه اليوم في تونس أنّ الشعب والمجتمع مقسّم قسمين: قسمٌ مع الرئيس وقسم ضد الرئيس لكنّ هذا التقسيم يخفي تحته معطيات كثيرة تحتاج الشرح والتفصيل لأن القسمين ليسا متجانسين.

أما الأول فيضمّ أنصار الرئيس الذي ألغى العمل بدستور الثورة أي دستور 2014 وألغى البرلمان وكل المؤسسات الدستورية الناتجة عن المسار الانتقالي منذ 2011. وهو فريق غير متجانس إذ يجمع بقايا القوميين الذين كانوا بالأمس القريب حلفاء لنظام بن علي وهم تاريخيا حلفاء لكل الانقلابات العسكرية أو المدنية باسم الثورة والعروبة والوحدة ومحاربة الرجعية. هذا النسيج القومي العروبي في شعاراته يتضمن أقساما صغرى وتيارات منها المرتبط بالانقلاب في مصر وأجهزته ومنها البعثي المتصّل بالنظام السوري وميليشياته والتحق بهم مؤخرا فيلق جديد متصل بالمشروع الإيراني في شمال إفريقيا وهو منظومة الحشد الشعبي الذي أسس حزبا معترفا به في البلاد. 

أما الأقسام الأخرى فهي غير معلنة وتضمّ كل المنتفعين من النظام السابق والحالمين بعودة الدكتاتورية بعد القضاء على المسار الانتقالي والذين يرون في الرئيس الجديد آخر الأدوات الممكنة لإحياء الاستبداد. وهي فئة من الانتهازيين غير المقنّعين بغطاء أيديولوجي (مثلما هو حال الحركة القومية والتيار الشعبي) وتضمّ جامعيين ونوابا حتى من الإسلاميين وإعلاميين وأنصاف المثقفين وحالمين بمواقع ومناصب حول المائدة الجديدة. كما تدخل في هذا القسم مجموعات هامشية من الفئات ذوات النزعة الجهوية التي ترى أحقيتها التاريخية بالسلطة في تونس من البرجوازية القديمة ولصوص المال العام من العصابات الجهوية.

 

صحيح أن الثورة والانتقال الديمقراطي يحتاجان زمنا طويلا لكن كان بإمكان الجميع الشروع في تحقيق الأولويات العاجلة وعلى رأسها محاسبة النظام القديم ومنع تسلل عصابات الثورة المضادة إلى صدارة المشهد خاصة في البرلمان.

 



لكن أخطر مكوّن في هذا القسم الأول هم أولئك المسلحون بالحقد الأيديولوجي بجميع أنواعه من متطرفي الفكر القومي واليساري والعلماني والذين يرون عن جهالة وقصر نظر أن القضاء على خصومهم من الإسلاميين والمحافظين تبرره كل الوسائل بما في ذلك القضاء على الثورة وعلى التجربة الديمقراطية. هؤلاء هم أخطر المكونات تهديدا لكيانات الدول العربية لأنهم على استعداد للتحالف حتى مع الغزاة بسبب قدرتهم الفائقة على تبرير محاربة أحلام الشعوب وإجهاض الثورات ومسارات التغيير.
 
يبقى هذا الفريق رغم تناقضاته البيّنة والعميقة قليل العدد تمثيلا للمجتمع والشعب لأنه يتأسس على أكذوبة فاقعة تتلخص في شعار مزيف وهو شعار " العشرية السوداء" الذي يسِمُون به مسار الثورة وهي استعارة خبيثة لما حدث في الجزائر خلال التسعينات حين قام الجيش تحت ذريعة محاربة الإرهاب بقتل أكثر من ربع مليون مدني. هم يدركون جيدا أن كل مسار انتقالي يتحول به البلد من الاستبداد إلى الحرية يتطلب في أدنى الحالات ثلاثة أجيال حتى تترسخ ثقافة الاختلاف والقبول بالآخر ورفض الإقصاء والتخوين. لكنهم تسلحوا بالإعلام والنقابات والمال الخليجي والتدبير المصري الإماراتي لنسف التجربة التونسية وتصوير الانتقال الديمقراطي على أنه شرّ مطلق وأنّ هذه الشعوب لا تحكم إلا بالحديد والنار. 

أما الفريق الثاني وهو الأكثر عددا كما بينت الاحتجاجات التي عرفتها تونس خلال سنة من الصمود في وجه الانقلاب فيضمّ الإسلاميين من جهة وكل المجموعات المحافظة تضاف إليها مجموعات يسارية تؤمن بالفكرة الديمقراطية وفصيل أكبر غير متحزّب ويضم كل المناصرين للثورة والمؤمنين بالتغيير عبر صناديق الاقتراع.
 
رغم الكثرة العددية وحتى النوعية من حيث الثقل الشعبي والمعرفي والفكري والسياسي لكثير من الوجوه التونسية فإنّ هذا الفريق الثاني يفتقد خاصيتين أساسيتين. أولهما الوفاق الداخلي بين مكوناته حيث يرى كثيرون من أعداء الإسلاميين خاصة أنّ هذا التوافق هو توافق مرحلي مؤقت أملته إكراهات الانقلاب وهو تصوّر منطقي لكنه يؤشر على قابلية هذه الجبهة للانقسام فور سقوط الانقلاب. يفتقد هذا الفريق كذلك إلى الإسناد الإعلامي حيث تمكّن الانقلاب من استغلال الذراع الإعلامية للثورة المضادة وهي التي لاتزال تقاتل من أجل إنجاح الانقلاب.

 

إنّ قابلية الانقسام تعني من وجهة نظر تحليلية أنّ هذه الشعوب لم تبلغ بعد مرحلة النضج التي تحصنها ضد الانقلابات وضد عودة الاستبداد.

 



أما القسم الأكبر من هذا الفريق الثاني فهو جزء كبير من الشعب التونسي غير المرئي إعلاميا بحكم مساندته في البداية للانقلاب حيث كان يظن أنّ الرجل سيفي بوعوده التي قطعها مثل تطهير البلاد من الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة ومحاربة عصابات التهريب والاحتكار. لكنه استيقظ بعد أشهر على الخراب الكبير الذي خلفه الانقلاب من انهيار للقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار وندرة المواد الأساسية من الأسواق وعودة الدولة البوليسية بشراسة كبيرة. هذا الطيف من المواطنين مرتبط أكثر بالحاجيات اليومية والضرورات الأساسية أكثر من ارتباطه فكريا بالأطروحات السياسية. يتميز هذا الفريق كذلك بقدرته على التمدد أمام استفحال الأزمة الاجتماعية والاقتصادية بسبب ارتفاع نسبة التضخم الناجمة عن عوامل داخلية وعوامل خارجية أهمها الحرب الروسية الأوكرانية.
 
السؤال الذي يطرح هنا هو كيف وصل شعب تونس الذي وحّدته الثورة إلى هذا المآل المفجع حتى ينقسم بهذا الشكل ممهدا الطريق إلى وأد الثورة وعودة الدكتاتورية؟ 

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال بالتفصيل في هذا المجال الضيق لكن أهم هذه الأسباب إنما يتعلّق أساسا بعجز النخب التي امسكت بالسلطة خلال عشر سنوات عن تحقيق المكاسب الدنيا للفئات الأكثر فقرا وتهميشا. لم تتفطن هذه النخب إلى المرجل الذي كان يغلي في العمق التونسي وكانت كل المؤشرات تدل عليه وخاصة الارتفاع المهول لأعداد المهاجرين عبر قوارب الموت. صحيح أن الثورة والانتقال الديمقراطي يحتاجان زمنا طويلا لكن كان بإمكان الجميع الشروع في تحقيق الأولويات العاجلة وعلى رأسها محاسبة النظام القديم ومنع تسلل عصابات الثورة المضادة إلى صدارة المشهد خاصة في البرلمان. 

من جهة أخرى فإنّ قابلية الانقسام تعني من وجهة نظر تحليلية أنّ هذه الشعوب لم تبلغ بعد مرحلة النضج التي تحصنها ضد الانقلابات وضد عودة الاستبداد. خذ مثلا الشعب التركي رغم اختلاف السياق والأحداث فقد خرج الأتراك مدافعين بصدورهم العارية ضد الدبابات لمنع الانقلاب علي الشرعية ولم يكونوا رافعين غير أعلام تركيا ومطالبين بإسقاط الانقلاب. في مصر لم يحدث ذلك ولم يدافع الشعب المصري عن الشرعية لأنه كان يعتقد أنه يدافع عن الإخوان الذين كانوا في السلطة في حين أنّ المعركة لم تكن مع الإخوان بل كانت معركة من أجل الديمقراطية والتحرر من حكم العسكر مع الإقرار بفشل الإخوان في إدارة شؤون الدولة وتأمين المسارات الانتقالية.
 
إن القابلية للانقسام تعني أنّ هذه الشعوب لم تبلغ مرحلة المناعة من عدوى الاستبداد وأنها لا تزال تعيش أطوارا سابقة للنضج الاجتماعي والقدرة على تأمين مسارات الحرية والتحرر وهي المسؤولية التي تقع على عاتق النخب التي نجحت عبر تشرذمها وانقسامها في التمكين لعودة الدكتاتورية. وهو الأمر الذي سيتطلب تضحية أجيال جديدة قد تكون قادرة على صياغة منوالات التغيير بشكل يمنع انقسام الكتلة الصلبة ويحقق ما لم تحققه الأجيال السابقة له.