كتاب عربي 21

الأردن من حلف بغداد إلى حلف الناتو

1300x600
لم تتغير التحالفات الأمريكية كثيرا في العقود السبعة الماضية. ففي الأسابيع الأخيرة، تم بذل جهود نشطة للغاية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل لإقامة تحالف عسكري جديد بين إسرائيل وعدد من الدول العربية ضد إيران. وقد أعلن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل بضعة أيام على محطة تلفزيون أمريكية: "سأكون من أوائل الأشخاص الذين يؤيدون إنشاء حلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط"، و"أود أن أرى المزيد من الدول في المنطقة تدخل في هذا الخليط".

ما لم يقله الملك عبد الله صراحة هو أن إسرائيل ستكون جزءا من هذا الخليط، ومع ذلك، كان الأمريكيون أكثر صراحة. فعلى حد تعبير المتحدث باسم البيت الأبيض: "تدعم الولايات المتحدة بشدة اندماج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، وسيكون هذا موضوعا للنقاش عندما يزور الرئيس [الأمريكي] إسرائيل". وفي هذه الأثناء، لم يتوان الأردن في الواقع أبدا عن العمل والتعاون مع حلف الناتو، كما أكد الملك نفسه، بالإضافة لكون الأردن أيضا موطنا لعدد من القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية الواقعة على أراضيه لكن خارج سيادة الدولة، التي لا تملك أي سلطة أو سيطرة عليها بموجب اتفاقية الدفاع التي وقّع عليها الملك عبد الله مع الأمريكيين عام 2021، دون موافقة برلمانية.

وقبل أيام من إدلاء العاهل الأردني بتصريحاته، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أن إسرائيل قد انضمت إلى العديد من الدول العربية لتشكيل شبكة دفاع جوي مشتركة جديدة بقيادة الولايات المتحدة، تسمى تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط، من المتوقع أن يكون الأردن جزءا منها. وبما أن الملك عبد الله هو حاكم مطلق ولا يحتاج إلى التشاور مع أي جهة داخل بلاده، فيمكنه أن ينتهج أي سياسة كما يشاء. لكن هذا لا يعني أنه لن تظهر معارضة داخلية للحلف الجديد في الأردن، بل ما يعنيه هو أن الملك واثق من أن أجهزته الأمنية المدعومة أمريكيا يمكنها تحييد أي معارضة جادة بسرعة.
ليست فكرة إقامة مثل هذا التحالف العسكري الذي يستهدف إيران على وجه التحديد، ولكن أيضا سوريا وحزب الله ومنظمة حماس، وأخيرا روسيا، فكرة جديدة، على الرغم من أن الترتيبات الرسمية التي هي بصدد التجهيز هذه المرة تبدو أكبر حجما من سابقاتها


ليست فكرة إقامة مثل هذا التحالف العسكري الذي يستهدف إيران على وجه التحديد، ولكن أيضا سوريا وحزب الله ومنظمة حماس، وأخيرا روسيا، فكرة جديدة، على الرغم من أن الترتيبات الرسمية التي هي بصدد التجهيز هذه المرة تبدو أكبر حجما من سابقاتها. ففي عامي 2006 و2007، أعربت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس عن أملها في أن يشمل الشرق الأوسط الجديد الذي أرادت أن "تلده" نيابة عن الولايات المتحدة، تحالفا عسكريا بقيادة الولايات المتحدة. في ذلك الوقت، تمكنت رايس من تجنيد المملكة العربية السعودية ومصر والأردن في حلفها الجديد، لكن الظروف لم تكن مواتية لدمج إسرائيل بشكل كامل في الترتيبات.

لكن فكرة إقامة هذه الأحلاف كانت قد بدأت مع جون فوستر دالاس، وزير الخارجية في إدارة آيزنهاور، الذي كان مصابا بهوس إقامة الأحلاف العسكرية. وقد أنشأ دالاس، الذي كان قد أسس أحلافا عسكرية أمريكية في جميع أنحاء العالم، منظمة الحلف المركزي (سينتو)، المعروفة باسم حلف بغداد، في عام 1955، باعتبارها الجبهة الرئيسة المناهضة للسوفييت في خدمة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط. وإلى جانب بريطانيا وتركيا وشاه إيران وباكستان والعراق الهاشمي، عمل الأمريكيون بجد لتجنيد الأردن في الحلف لكنهم فشلوا، بسبب المعارضة الوطنية الأردنية المناهضة للإمبريالية التي عارضت رغبة الملك حسين في الانضمام. وكانت مصر عبد الناصر من أبرز المعارضين للحلف، ولكن انضمت إليها كذلك المملكة العربية السعودية التي كانت مناهضة للهاشميين آنذاك.

وقد زار رئيس الأركان البريطاني الجنرال جيرالد تمبلر الأردن في مهمة لتسويق الاتفاقية. وقد دعم الملك حسين ورئيس وزرائه حينها هزاع المجالي الحلف، في حين عارضه المد القومي والوطني المناهض للاستعمار في البلاد بشدة. أما في الجيش الأردني، الذي كان يقوده حينها الضابط البريطاني جون باغوت غلوب، فقد عارضت مجموعة "الضباط الأحرار" المناهضة للإمبريالية الحلف، وأصر الضباط الأحرار على أن عدو الأردن هم البريطانيون وإسرائيل وليس الاتحاد السوفييتي.

انتشر الجيش في شوارع المدن الأردنية لمواجهة التظاهرات الحاشدة ضد بريطانيا وضد انضمام الأردن لحلف بغداد، وبدأ بإطلاق النار على المدنيين. وبينما اضطرت حكومة المجالي إلى الاستقالة قام الجيش بقتل عدد من المتظاهرين، ورشق المتظاهرون رجال الشرطة وضباط الجيش البريطاني بالحجارة، وأحرقت حشود أردنية سيارات لاندروفر عسكرية. وكانت التظاهرات قد خرجت في جميع أنحاء البلاد، وقد امتلأت مدن وبلدات الضفة الشرقية (ناهيك عن الضفة الغربية) من عمان والزرقاء إلى إربد والسلط وعجلون والرمثا، وحتى قرية عنجرة بالمتظاهرين.

وقام حشد من المتظاهرين بقتل أحد الضباط البريطانيين في الزرقاء، وهو المقدم باتريك لويد، بينما كان أفراد كتيبته يتفرجون على المشهد دون إطلاق رصاصة واحدة على المتظاهرين. وقد رفضت شرطة الزرقاء أيضا فرض حظر التجوال وأفرجت عن المخالفين الذين اعتقلهم الجيش. وقد قامت طائرات حربية استطلاعية بالتحليق فوق المدينة لإرعاب السكان، في محاولة منها لاستعادة السيطرة على الزرقاء.

عززت هذه الحادثة المد القومي والوطني المناهض للإمبريالية في الأردن، وأدت إلى طرد الجنرال غلوب في آذار/ مارس 1956. وبين عامي 1954 و1957، شهد الأردن حياة سياسية نشطة، فبالإضافة إلى برلمان حيوي مناهض للإمبريالية تم انتخابه نسبيا بحرية، انضم إلى المشهد أيضا رئيس الوزراء الوطني والقومي سليمان النابلسي المناهض للإمبريالية في أواخر عام 1956 والربع الأول من عام 1957. لكن لم يدم انتصار الأردنيين المناهضين للإمبريالية طويلا، فلم تحتمل الولايات المتحدة هزيمة خططها لحلف بغداد.

وفي شهر كانون الثاني/ يناير 1957، أصدر الرئيس آيزنهاور "عقيدة آيزنهاور" في خطاب له، معلنا أن الولايات المتحدة سوف تأتي لمساعدة أي دولة في الشرق الأوسط مهددة من الشيوعية. وقد أصر آيزنهاور في خطابه على أن "الشرق الأوسط هو مسقط رأس ثلاث ديانات كبيرة: إسلامية ومسيحية وعبرية. ومدينتا مكة والقدس هما أكثر من مجرد مكانين على الخريطة، إنهما ترمزان إلى الأديان التي تعلم أن الروح لها سيادة على المادة، وأن للفرد كرامة وحقوقا لا يمكن لأي حكومة استبدادية أن تحرمه منها عن حق. سيكون من غير المحتمل أن تخضع الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط لحكومات تمجد المادية الإلحادية".

وقد أصر آيزنهاور في اجتماعات خاصة مع فرانك وايزنر، رئيس وكالة المخابرات المركزية، وهيئة الأركان المشتركة على أنه يجب على العرب أن يستلهموا الاستراتيجيات من دينهم لمحاربة الشيوعية، و"يجب أن نفعل كل ما في وسعنا للتأكيد على مبدأ الجهاد المقدس". ورسمت الخطة على أن تدعم الولايات المتحدة الجماعات "الإصلاحية" الجديدة، مثل جمعية الإخوان المسلمين ونبذ رجال الدين التقليديين(1). وفي وقت لاحق من العام وأثناء انقلاب القصر الملكي والملك حسين برعاية السفارة الأمريكية على البرلمان المنتخب ديمقراطيا والحكومة المناهضة للإمبريالية وضباط الجيش الوطنيين، وبحسب عضو الضباط الأحرار البارز شاهر أبو شحوت، انضم أعضاء من الفرع الأردني لجمعية الإخوان المسلمين إلى حملة القمع التي قادتها وحدات من الجيش الأردني، للانقضاض على القوى القومية والوطنية المناهضة للإمبريالية والمؤيدة للديمقراطية في البلاد، واتهموها بـ"الشيوعية"(2). لكن آخرين ينكرون مشاركتهم.


وبرر الملك انقلاب القصر بالادعاء أنه كانت هنالك مؤامرة في الجيش للإطاحة به، لكن رئيس الأركان الأردني في حينها، علي أبو نوار، الذي فر من البلاد بعد انقلاب القصر، أوضح في مؤتمر صحفي أنه "تم تخطيط وتصميم المؤامرة المزعومة [ضد الملك] من قبل السفارة الأمريكية في الأردن ومن قبل المتعاونين مع الاستعمار من أجل الوصول إلى أهدافهم". وقد تم تطهير الجيش مباشرة بعد انقلاب القصر من جميع العناصر المناهضة للإمبريالية والقومية، وعاد الجيش إلى الوضع السابق الذي كان سائدا في عهد غلوب باشا. ولمنع المد القومي من الانبثاق مجددا في البلاد، فرض الملك الأحكام العرفية على الأردنيين من عام 1957 حتى عام 1992.

نظرا لأن السعوديين، الذين كانوا أعداء الهاشميين التقليديين في ذلك الوقت، قد انحازوا أيضا إلى عبد الناصر ضد حلف بغداد المناهض للسوفييت، قررت وزارة الخارجية الأمريكية "فصل المملكة العربية السعودية عن النفوذ المصري". وقد كان آيزنهاور حريصا على دعم السعوديين كقوة موازنة لعبد الناصر، لا سيما أن الأمريكيين أدركوا أهمية السيطرة السعودية على الأماكن الإسلامية المقدسة.

وكانت خطة آيزنهاور هي أن الملك السعودي "يمكن أن يتم تقديمه، ربما، كزعيم روحي. وبمجرد أن يتم تحقيق ذلك، قد نبدأ في المطالبة بحقه في القيادة السياسية". نظرا لأن الملك سعود بدا أقل استجابة وكان غير لائق للدور المناط به، قام ولي العهد الأمير فيصل (الذي أجبر، بدعم من الأمريكيين، شقيقه الملك سعود على التنازل عن العرش عام 1964 واعتلى العرش من بعده) في أيار/ مايو 1962 بتنظيم مؤتمر إسلامي دولي في مكة لمحاربة شعبية القومية العربية المعادية للإمبريالية والاشتراكية و"العلمانية"، وأطلق "رابطة العالم الإسلامي". وقد كان ذلك جزءا من الدور الجديد خلال الحرب الباردة، الذي أناطت الولايات المتحدة السعوديين القيام به في عهد الملك فيصل ضد عبد الناصر.

وبينما حدث كل ذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نعيش اليوم في عالم لم تعد فيه قوى كبرى مناهضة للإمبريالية في العالم العربي. في الواقع، لا توجد مؤشرات على أن أي شخص في الجيش الأردني الذي تدعمه وتجهزه الولايات المتحدة، ناهيك عن أي عضو في الطبقة السياسية في الأردن، يتبنى أي ميول معادية للإمبريالية كما كان الحال في الخمسينيات من القرن الماضي. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، هنالك من لا يزال يستعدي أعداء الإمبريالية في الأردن لدرجة السعي إلى تزوير سجل رئيس الوزراء سليمان النابلسي المناهض للإمبريالية.

بينما حدث كل ذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نعيش اليوم في عالم لم تعد فيه قوى كبرى مناهضة للإمبريالية في العالم العربي


فقبل بضعة أسابيع فقط، وربما كجزء من حملة لإجبار الأردنيين على الإذعان لحلف شمال الأطلسي الجديد في الشرق الأوسط، هاجم رئيس الوزراء الأردني الأسبق سمير الرفاعي سليمان النابلسي واتهمه بالتآمر مع قوى أجنبية في الخمسينيات من القرن الماضي للإطاحة بالنظام الهاشمي. وهناك جهود أخرى تبذل كذلك، ربما مصممة أيضا للمساعدة في إقناع الأردنيين بأن إيران، وليست إسرائيل، هي عدوهم، تتضمن قصصا تم تداولها الشهر الماضي في الصحافة تفيد بمحاولة تجسس إلكتروني إيرانية لاختراق وزارة الخارجية الأردنية. والأهم من ذلك اتهام إيران بأنها وراء حملة تهريب مخدرات إلى الأردن عبر الحدود السورية.

في واقع الأمر، لا تزال إيران تحافظ على علاقات دبلوماسية ودية مع الأردن، على الرغم من التقارب السابق الحميم للنظام الأردني مع ديكتاتورية الشاه قبل الثورة، وعلى الرغم من دعم الملك حسين النشط في الثمانينيات لحرب صدام حسين على إيران الثورة.

وفي حين أطلق الجنرالات البريطانيون العنان للجيش الأردني الذي كانوا يقودونه في منتصف الخمسينيات لقتل المدنيين، كانوا قد قاموا بذلك في أردن تم حشد شعبه ضد الاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية والعدو الإسرائيلي. وقد نجحت القوى المناهضة للإمبريالية آنذاك في منع الملك حسين من الانضمام إلى حلف بغداد. وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين جزءا من الانقلاب على القوميين والوطنيين في الخمسينيات، فقد انضمت قبل أيام قليلة إلى جماعات وطنية أخرى وعارضت الحلف الجديد بشدة.

لا يبدو أن الولايات المتحدة والملك عبد الله قلقين اليوم من أن الجيش الأردني الذي تجهزه وتدعمه الولايات المتحدة، ناهيك عن الأجهزة الأمنية الأردنية الهائلة التي تدعمها أيضا الولايات المتحدة، سيواجه أي تعبئة شعبية على نطاق خمسينيات القرن الماضي ضد حلف الناتو الجديد في الشرق الأوسط، وأنه لن تكون هناك حاجة لإسقاط رئيس وزراء أردني وطني معاد للإمبريالية ولن تنشأ الحاجة إلى تنظيم انقلاب في القصر على أحد. بل يبدو أن كلا من الأمريكيين والملك عبد الله مرتاحون وواثقون بنجاح خطتهم الجديدة.

__________

الهوامش:

(1) Ian Johnson, A Mosque in Munich, (New York: Mariner Books 2010), pages 127-128

(2) مذكرات شاهر أبو شحوت: "قصة الضباط الأردنيين الأحرار  (1952-1957)"، صفحة 118، حققها هاني الحوراني. وكان شحوت من أهم الضباط الأحرار في الخمسينيات.