كتاب عربي 21

"ناتو شرق أوسطي" في نظام عربي سلطوي هرم

1300x600

غُرست بذور إنشاء حلف عسكري شرق أوسطي (ناتو عربي) بمشاركة دولة الاحتلال "الإسرائيلي" في تربة الخوف والهلع والرعب التي اجتاحت النظام السياسي السلطوي العربي، بعد انتفاضات "الربيع العربي" 2011. ورغم تسميم وحرق وإتلاف أزهار الربيع بحلول 2013، لا تزال الزهور تتفتح وتأبى الانصياع، وباتت الأنظمة التسلطية غارقة في حالة من الشك المزمن وفقدان الثقة واليقين. فالإجراءات والتدابير العسكرية والأمنية المضادة، فاقمت من المعضلات الأمنية التقليدية في المنطقة، ولم تجلب سوى المزيد من فقدان الأمان أكثر من ذي قبل، فالأنظمة العربية كافة اليوم، تعيش في حالة من انعدام الأمن، ولم تفلح كل مشاعر الغطرسة والزهو والفخر بوأد الربيع العربي في كبت وطمس الشعور بالرعب والخوف من اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية، تعيد الإسلاميين مرة أخرى إلى واجهة الأحداث، كما أدت التكتيكات الخاطئة والكارثية للنظام السلطوي العربي في التعامل مع الانتفاضات بالعسكرة، وتنشيط حروب الوكالة إلى بروز إيران قوة إقليمية على نقيض مقاصد الثورة المضادة.

ولدت فكرة إنشاء "الناتو العربي" في الشرق الأوسط لأول مرة في مصر بعد إجهاض التجربة الديمقراطية والانقلاب العسكري على ثورة 25 يناير، تحت ذريعة "حرب الإرهاب الإسلاموي"، بدعم وإسناد الولايات المتحدة والدول الأوروبية، حيث بادرت مصر إلى الإعلان عن تشكيل "قوة الرد السريع العربية المشتركة" عام 2014، وذلك بهدف مواجهة التهديدات الأمنية المفترضة في فضاء جامعة الدول العربية. ولم تكتف واشنطن إبان حكم أوباما بدعم وتأييد الفكرة المصرية، وإنما أوصت وشجعت على تطوير فكرة التكتل في المستقبل كي يتحول لمنظمة عسكرية سياسية مستقلة، يمكنها حماية استقرار المنطقة، من دون تدخل مباشر من القوات الأمريكية، في ظل تحول السياسة الأمريكية بإعادة التوازن وتقليل حضورها في الشرق الأوسط، للتفرغ إلى التحديات الجيوسياسية مع بروز الصين كقوة عالمية.

الإجراءات والتدابير العسكرية والأمنية المضادة فاقمت من المعضلات الأمنية التقليدية في المنطقة، ولم تجلب سوى المزيد من فقدان الأمان أكثر من ذي قبل، فالأنظمة العربية كافة اليوم، تعيش في حالة من انعدام الأمن، ولم تفلح كل مشاعر الغطرسة والزهو والفخر بوأد الربيع العربي في كبت وطمس الشعور بالرعب والخوف من اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية

سرعان ما تطورت المبادرة المصرية في إطار جامعة الدول العربية إلى فكرة تشكيل تحالف عسكري عام 2015، وأطلق الخبراء الغربيون على هذا المشروع اسم "الناتو العربي"، وقد ضم هذا التكتل ست دول عربية، هي مصر، والسعودية، والأردن، والمغرب، والسودان، وقطر، إضافة إلى "إسرائيل" من خلال دور استخباري بوساطة الولايات المتحدة، حيث جرى السعي لإقامة تحالف عسكري يضم 40 ألف جندي، لمواجهة "الخطر الإيراني" و"الإسلام السياسي"، على أن تقدّم مصر القوة البشرية الأكبر، ودول الخليج الدعم المادي.

وقد استمر المشروع نظريا نحو ثلاثة أعوام، دون اتخاذ خطوات عملية جادة أو إضفاء الطابع المؤسسي عليه. وفي عام 2016 أعلنت المملكة العربية عن تشكيل تحالف عسكري يضم 34 دولة إسلامية لمحاربة التنظيمات "الإرهابية"، وقد شملت قائمة المنظمات الإرهابية المستهدفة حركات وجماعات إسلامية واسعة، من جماعة الإخوان المسلمين إلى أنصار الله الحوثية، وصولا إلى تنظيم الدولة، لكن سرعان ما ذهب المشروع أدراج الرياح وباء بالفشل الذريع.

في عهد الرئيس ترامب، بدأ الحديث عن تشكيل تحالف عسكري شرق أوسطي بمشاركة إسرائيل، حيث بادر إلى زيارة الرياض 2017، وخرجت إلى العلن فكرة "صفقة القرن" وتوجت بـ"الاتفاقات الإبراهيمية" التطبيعية، وتقرَّر إنشاء منصة دفاعية في المنطقة باسم التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، حيث تستخدم الوسائل الاقتصادية لردع الأعداء المحتملين.

وتطورت الفكرة في العام 2018، من خلال مساعي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإعداد خطّة لإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة، تحت مسمّى "تحالف استراتيجي شرق أوسطي- ميسا (Middle East Strategic Alliance- MESA)، أو ما عرف بـ"الناتو العربي". وقد تحدثت المصادر الأمريكية والإسرائيلية والعربية عن أن أهداف التحالف تتمثل بمحاربة ما أطلقت عليه "أطماع إيران في الإقليم وتدخّلاتها في المنطقة العربية"، ومحاربة "الإسلام السياسي المتطرّف".
تنجح عملية بناء "تحالف استراتيجي شرق أوسطي- ميسا"، أو ما يعرف بـ"الناتو العربي"، وبقيت مسألة نظرية، حيث فشلت من الناحية العملية، ففكرة إدماج "إسرائيل" في التحالف والمنطقة كانت فكرة جنونية خيالية دون وجود الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الرفض الشعبي العربي لفكرة التحالف مع "إسرائيل"، فضلا عن الخلافات داخل الدول العربية

ويتشكّل هذا التحالف، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من جميع دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الأردن ومصر. وقيل آنذاك إن هذا التحالف سيرى النور في العام 2019، وقد جاءت المحاولة الأمريكية في عهد ترامب في إطار سعي الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها في الشرق الأوسط، وتقليل أعباء الأمن الإقليمي في المنطقة للتفرغ لمحور آسيا المحيط الهادئ.

لم تنجح عملية بناء "تحالف استراتيجي شرق أوسطي- ميسا"، أو ما يعرف بـ"الناتو العربي"، وبقيت مسألة نظرية، حيث فشلت من الناحية العملية، ففكرة إدماج "إسرائيل" في التحالف والمنطقة كانت فكرة جنونية خيالية دون وجود الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الرفض الشعبي العربي لفكرة التحالف مع "إسرائيل"، فضلا عن الخلافات داخل الدول العربية وأدوارها، وأهداف التحالف وقيادته.

مع وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة في واشنطن، جرت مراجعة مفهوم "الدفاع الخارجي" مرة أخرى، وتم تجميد مشروع التحالف الاستراتيجي الذي دشن في عهد الرئيس ترامب، واعتبر فكرة خيالية غير قابلة للتحقق، لكن مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، بدأت تتبدل الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، رغم أن دول المنطقة لم تتورط في النزاع واتخذت مواقف محايدة، لكنها تـأثرت بتعثر سلاسل توريد الغذاء والحبوب، وارتفاع أسعار الوقود، وقاد إلى مشكلة التضخم، وهو ما أدى إلى تنامي القلق من حدوث احتجاجات تعيد ذكرى الانتفاضات الشعبية في العالم العربي.

وقد تزامنت الأزمة الأوكرانية مع تنامي نشاط الجهادية العالمية وممثليها كتنظيمي الدولة والقاعدة والجهادية المحلية، وتصاعدت التهديدات الإرهابية في العراق وسوريا وأفريقيا وجنوب آسيا، فقد أتاح الانشغال بالحرب الروسية الأوكرانية المجال لإعادة الهيكلة الجهادية، مع تراجع جهود "حرب الإرهاب" وانشغال الولايات المتحدة ودول أوروبا بالصراعات الجيوسياسية، وإعادة بناء حلف شمال الأطلسي. ولم يقتصر الأمر على تصاعد نشاط حركات الإسلام السياسي والجهادي، وإنما تنامت القدرات الإيرانية التي استفادت تنامي الطلب على النفط، وارتفاع أسعار الطاقة في تعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وتمتين علاقاتها مع الصين وروسيا.
بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، بدأت تتبدل الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، رغم أن دول المنطقة لم تتورط في النزاع واتخذت مواقف محايدة، لكنها تأثرت بتعثر سلاسل توريد الغذاء والحبوب، وارتفاع أسعار الوقود، وقاد إلى مشكلة التضخم، وهو ما أدى إلى تنامي القلق من حدوث احتجاجات تعيد ذكرى الانتفاضات الشعبية في العالم العربي

في هذا السياق تزايد النقاش حول دور حلف شمال الأطلسي- الناتو، وعادت مرة أخرى قضية إنشاء تحالف عسكري في منطقة الشرق الأوسط (تكون إسرائيل جزءا منه) إلى الواجهة. وقد أعادت الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط الشهر المقبل، الحياة لفكرة إنشاء تحالف عسكري في المنطقة، وزاد من احتمالية بعث هذا التحالف، حديث العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مؤخرا، لقناة "سي إن بي سي" الأمريكية، بأنه سيدعم تشكيل تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي. وكشف أن ذلك يمكن أن يتم مع الدول التي تشاطره الرأي، وقال: "أود أن أرى المزيد من البلدان في المنطقة تدخل في هذا المزيج"، ثم تابع: "سأكون من أوائل الأشخاص الذين يؤيدون إنشاء حلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط"، لكنه أضاف أن رؤية مثل هذا التحالف العسكري، يجب أن تكون واضحة جدا، ودوره يجب أن يكون محددا بشكل جيد، "يجب أن يكون بيان المهمة واضحا جدا جدا، وإلا فإنه سيربك الجميع".

تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن فكرة إنشاء تحالف عسكري شرق أوسطي بمشاركة "إسرائيل" باتت أكثر واقعية، وأنها أصبحت مقبولة من دول الخليج التي حسمت أمرها بعد الاتفاقات التطبيعية، وأنها لا تخفي رغبتها في تعميق العلاقات مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي، فضلا عن الزيارات الرسمية والعامة، وتعميق العلاقات الأمنية والتنسيق السياسي والاستخباراتي، والإعلان عن صفقات أسلحة والمشاركة الرسمية في تدريبات عسكرية مشتركة، إلى جانب العلاقة مع كل من مصر والأردن منذ عقود.

وتعزو التقديرات الإسرائيلية تبدل المواقف العربية إلى ثلاثة أسباب رئيسية، يتمثّل الأول بالشعور المتزايد لـ"التهديد الإيراني"، والثاني هو الابتعاد المستمر للولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، والثالث تطور النزعة البراغماتبة الخليجية، إذ لم تعد القضية الفلسطينية أولوية، إضافة إلى أن انضمام "إسرائيل" مؤخرا، إلى "القيادة المركزية الأمريكية- سنتكوم"، سوف يسمح بتوسيع مساحة التعاون العملاني على الصعيدين العسكري والأمني، بين إسرائيل والدول المنضوية ضمن هذا التشكيل، حتى وإن كان تحت إشراف الولايات المتحدة، التي ترى في مثل هذا التحالف فرصة لخفض قواتها، مع الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة.
الحقيقة أن هذا التحالف المشبوه هو وليد حالة الخوف والهلع والرعب التي دبت في أوصال الإمبريالية الأمريكية، والأنظمة التسلطية العربية، والمستعمرة الاستيطانية اليهودية، وهو يشير إلى حالة القلق الوجودي الذي ينتاب أطراف التحالف، وتنامي الشكوك وفقدان اليقين

خلاصة القول؛ إن فكرة تشكيل تحالف عسكري شرق أوسطي بمشاركة إسرائيلية، هو نتاج خوف الأنظمة التسلطية العربية من تنامي القدرات الإيرانية وعودة الحركات الإسلامية السياسية، والخشية من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية بعودة موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية. لكن تاريخ المنطقة يشير إلى فشل كل محاولات تشكيل تحالف عسكري عربي في السابق، بدءا من فشل محاولات الولايات المتحدة بتشكيل "حلف بغداد" في خمسينيات القرن المنصرم، وفشل محاولات إدارة الرئيس أوباما والرئيس ترامب، وهو ما سيفشل فيه الرئيس بايدن.

إن "الخطر الإيراني" وحده، لا يُمكن أن يُشكّل أساسا لمثل هذا التحالف، فثمة دول عربية عديدة كمصر ودول المغرب العربي، ودول إسلامية مثل باكستان، لا ترى في إيران تهديدا أو خطرا مركزيا. وحسب التقديرات الإسرائيلية، لا تزال التحديات والعقبات كبيرة أمام تشكيل قوة عسكرية مشتركة بمشاركة "إسرائيل"، ومن أهمها الممانعة الشعبية العربية، ولكن "إسرائيل" تدعم الفكرة بقوة ليس لفائدتها العسكرية والأمنية، وإنما باعتبارها فرصة حقيقية لتطبيع وجودها في المنطقة العربية، تعطيها "شرعية" عربية مجانية، وتمنحها حرية الاستمرار باحتلال الأرض الفلسطينية وارتكاب جرائم الأبارتايد والفصل العنصري والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين. لكن الحقيقة أن هذا التحالف المشبوه، هو وليد حالة الخوف والهلع والرعب التي دبت في أوصال الإمبريالية الأمريكية، والأنظمة التسلطية العربية، والمستعمرة الاستيطانية اليهودية، وهو يشير إلى حالة القلق الوجودي الذي ينتاب أطراف التحالف، وتنامي الشكوك وفقدان اليقين.

 

twitter.com/hasanabuhanya