آراء ثقافية

نشتري كل شيء: تحولات السكن والعمران في مصر

الكتاب هو من تأليف وتحرير ثمانية باحثين

في يناير الماضي، صدر عن دار المرايا للإنتاج الثقافي/مصر، كتاب "نشتري كل شيء: تحولات السكن والعمران في مصر".

 

الكتاب هو من تأليف وتحرير ثمانية باحثين (أحمد زعزع، أمنية خليل، إبراهيم عبده، خالد أدهم، دينا خليل، شهاب إسماعيل، عبد الرحمن الطلياوي، يحيى شوكت)، في مجالات متداخلة ومتباينة.

 

تكمُن أهمية هذا الكتاب، في تفرّده لمناقشة وتفكيك الحالة العمرانية في مصر، من عدة سياقات تاريخية وسُلطوية وطبقية ورمزية. لا أحد ينكر أن العمران في مصر، شهد تحولا كبيرا في حقب زمنية مُختلفة، آخرهم بعد عام 2013 و2014، حيث استلم مقاليد حكم مصر نظام سياسي جديد، كان العمران من أهمّ سمات ومرتكزات هذا النظام، إذ شهدت مصر، بناء مُدن وعواصم جديدة على الطراز التقني الحديث (مدينة العلمين، المنصورة الجديدة، العاصمة الإدارية)، فضلا عن عشرات الكباري التي أدت إلى هدم أحياء وشوارع كاملة، وغير ذلك من تقلّبات عمرانية شهدتها مصر مؤخرا. نحاول في ما هو قادم، تسليط الضوء على أهم ما جاء به الكتاب في فصوله الثمانية. 


تسليع المياه والفراغ والعنف

يأخذنا الكتاب في فَصليْه الأول والثاني عن بدايات توصيل المياه إلى منازل المصريين، وهذا لم يتم إلّا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وصاحب توفير هذه البنّية التحتية، من مياه ونظام صرف صحي وغير ذلك، تمظهرات جديدة على الجسد وتمظهُره في الفضاء العام والخاص. على سبيل المثال استبدال الجلابية بالمَلابس الإفرنجية والطربوش، كَدلالة ثقافية حداثية، تنتمي إلى البنّية النظامية الجديدة الخاصة بنمط الحياة، وغير ذلك من ممارسات ثقافية، تنخرط تحت التعليم واللغة/اللهجة والهُوية وتعريفاتها وممارساتها. 

في الفصل الثالث، يتناول الكتاب، عملية إحلال السُكّان من منطقة إلى منطقة أُخرى، حيث تتم هذه الإزاحة بهدف السعي نحو عُمران أفضل من حيث الخدمات والبنّيات، وهذا ما وجده الكثيرون من أبناء الطبقة المُتوسطة، والطبقة الوسطى العُليا، أمثال المُتعلمين والأساتذة والمِهنيين. في عقد الخمسينات من القرن الماضي، كان حي المُهندسين مثالا على ذلك، كذلك منطقة مصر الجديدة ومدينة نصر والتجمّعات، في الثمانينات والتسعينات حتى الآن، وصولا إلى أحياء أكثر رقيّا وتَمايزا، مثل الشيخ زايد بمنطقة السادس من أكتوبر والرحاب ومدينتي، وأخيرا الصرح المعماري الكبير (العاصمة الإدارية الجديدة) المُنتظر افتتاحه، فيما يعرف بالجمهورية الجديدة، حسب التصريحات الرئاسية الدائمة. ومن الفصل الثالث حتى السادس، تناول الكتاب تفكيك العلاقات الاجتماعية وعلاقاتها ببعضها البعض من ناحية، ومن أُخرى علاقاتها مع الاجتماعات من حولها، يُضاف إلى ذلك، علاقاتها مع الدولة ونظام سُلّطويّتها الجديدة.

أما في الفصل السابع، يرصد الكتاب طريقة إدارة النظام السياسي، للفضاءات العامة في مصر، المُتمثلة في الفراغات المتواجدة أسفل الكباري، لاسيما بعد التوسّع في إنشاء الكباري (40 كُوبري بالقاهرة)، بالإضافة إلى الحدائق العامة، مثل حديقة قصر عابدين بالقاهرة، وحديثة سعد زغلول بالإسكندرية. هذه المساحات لم تعد مثل العادة، ملكا لتسكّع الفقراء أو ذويّ الدخل المحدود، الذين يجدون في هذه الحدائق، متنفّسا لهم للخروج وشمِّ الهواء وتفسيح (من فُسحة) أطفالهم، دون أن يدفعوا مبالغ باهظة ليست باستطاعتهم، إذ ومؤخرا، خُصخصتْ هذه الفضاءات الخضراء، وأصبحت فضاءات استثمارية لدى شركات تابعة للدولة، ما قطع أرجل المُنتفعين بفضائها الخالي من قبل، وتم استبدالهم بطبقاتٍ اجتماعية أُخرى، قادرة على الدفع والشراء. في المُقابل، الفراغات التي كانت مأوى للكثيرين تحت الكباري، سواء للجالسين في الظلَّ، أو حتى البائعين أصحاب الفرشات والأكشاك، هؤلاء أيضا لم يعد لهم مكان، لأن هذه الأماكن تم استثمارها عن طريق التأجير لمن يقدر على الدفع، وبهذا حوّل النظام المصري هذه الفراغات إلى أماكن للاستهلاك، لا تقبّل الوجود من أجل الوجود أو من أجل الاحتجاج، فالنظام الجديد أمَّمَّ هذه الفضاءات ومنع وجودها حصرا إلّا بين المُستثمرين والمُستهلكين. 

أما في الفصل الثامن، يتطرق الكتاب إلى ما يُعرف بـ "العنف الرمزي"، تعبيرا عمّا يدور في يومّيات الأسواق الشعبية والغير رسمية. الأسواق التي يأخذ بَائعوها الأرصفة ومساحات من الشوارع محلّات لهم، لعرض بضاعتهم على المشترين. يتناول كتاب سوق "وكالة البلح" في حي بولاق التاريخي بالقاهرة. من خلال التعايش الميداني، تشرح الباحثة أمنية خليل، ما رأته من مشاهد وما سمعته من مروّيات من البائعات في هذا السوق. حيث يحكين البائعات، عن أموال الإتّاوة اللواتي يعطوها إلى من يحميهِنّ، وهم مجموعة من الرجال، أو ما يعرف بـ"البلطجية/الفتوّات" الذي يُسمع كلمتهُم وتنفذ أوامرهم من بقية الباعة في السوق أو المنطقة، وبدورهم يحموهم من أفراد الشرطة أو من باعة آخرين. هذه الإتاوات، لا يأخذها الحماة فقط، بل توزّع على رجال السُلطة الآخرين، سواء المُخبرين أو أمناء الشرطة أو حتى الضباط المُشرفين على السوق أو المنطقة.

وهذا العُنف الرمزي الذي يُمَارس في الفضاءات الشعبية، لا يقتصر على البيع والشراء داخل الأسواق كما بيّنت الباحثة في دراستها، بل يمتد إلى مساحاتٍ وإشكالياتٍ أُخرى تقع في هذه المناطق والأسواق، تداخلات وعلاقات متداخلة بين كُل من المواطن الذي يسكن هذه المنطقة أو البائع أو "فتوّة المنطقة" أو رجال من السُلطة باختلاف تراتبيّة سُلطتهم. يمثّل الجسد القوي في هذه الفضاءات أيضا، سُلطة رمزيّة، بتعبير الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو، تؤهل صاحبه وتُعطيه مكانة وقوة في تشابكات تلك العلاقات التي تُدار منذ سنواتٍ وعقودٍ طويلة.