قضايا وآراء

الانتخابات الفرنسية وهزيمة الشعبوية

1300x600
اختار الفرنسيون للمرة الثانية مرشح حزب "الجمهورية للأمام" إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا لخمس سنوات قادمة، أقرت منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان بهزيمتها، وتنفس الأوروبيون الصعداء، بعد حبس الأنفاس بانتظار نتيجة الحسم التي ترقبوها، وكانت مؤشرا قويا للأحزاب اليمينية على الساحة الأوروبية بعد انتخاب فيكتور أوروبان في المجر؛ وترقب بقية اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا لنتائج سياساته وخطابه بين صفوف مؤيديه.

لكن المعركة لم تنته بعد بفوز ماكرون لخمس سنوات قادمة، ولن تكون مريحة على جبهة مجلسي العموم والنواب في حزيران/ يونيو القادم، موعد الانتخابات التشريعية.

المعركة ضد الشعبوية صعبة وصعبة، سواء التي يمثلها أقصى اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان وإريك زمور بعد النتائج الأخيرة والتي حل فيها اليمين المتطرف بمرتبة متقدمة بنسبة 41.8 في المائة، أو اليسار المتطرف بزعامة جان لوك ميلانشون، رئيس حزب فرنسا غير الخاضعة، والذي حل ثالثاً في ترتيب نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بنسبة 21.95 في المائة.
المعركة لم تنته بعد بفوز ماكرون لخمس سنوات قادمة، ولن تكون مريحة على جبهة مجلسي العموم والنواب في حزيران/ يونيو القادم، موعد الانتخابات التشريعية

النتيجة التي حققها اليمين المتطرف رغم خسارته الرئاسة، تُعد واضحة بالنسبة لمستقبل فرنسا وأوروبا عموماً لجهة بواعث القلق التي يفصح عنها اليمين المتطرف في كل جولة سباق يحقق منها نقاطا على الأرض، ولن يكون هناك شيء ممكن في مكافحة الشعبوية الصاعدة إذا لم تصبح النخب، التي تشعر بالقلق إزاء احترام الديمقراطية وسيادة القانون، مدركة تماما لشدة الغضب والخوف واليأس الذي حرك العدد المتزايد من السكان منذ الأزمة المالية والاقتصادية في عام 2008.

وبعيدا عن المطالبة بالوضوح والعدالة، التي يستخدمهما اليمين واليسار في فرنسا، هناك حاجة إلى الوحدة خصوصاً بعد التطورات الدولية التي خلفها الغزو الروسي لأوكرانيا وكشف عورات كثيرة عن النفاق والخداع الذي يتلطى خلفهما أقطاب الشعبوية، خصوصا في تيار اليمين المتطرف. فلم تعد مسألة التخويف من الإسلام وارتداء الحجاب، ومحاربة الإسلام السياسي، والتهويل من الهجرة، وربط كل ذلك بأعمال الإرهاب ونمطية لصقها بالأجانب؛ كافية لشحذ همم التيار الشعبوي، وهي غير كافية لإضفاء طابع مؤسسي على التوازن الجديد في المجتمعات الأوروبية وتوطيده في عالم جديد مولود من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، ولمّ شمل أوروبا بتاريخها وجغرافيتها.
النتيجة التي حققها اليمين المتطرف رغم خسارته الرئاسة، تُعد واضحة بالنسبة لمستقبل فرنسا وأوروبا عموماً لجهة بواعث القلق التي يفصح عنها اليمين المتطرف في كل جولة سباق يحقق منها نقاطا على الأرض

صعود الاستبداد، والديمقراطيات المهددة بتلاحم الطغاة، واستمرار الاحتلال في فلسطين، والثورات المضادة في العالم العربي، والتمدد الروسي في شبه جزيرة القرم واحتلال سوريا ومن ثم غزو أوكرانيا وما خلفه من كوارث متتابعة على أوروبا والعالم، دحض كل نظريات الشعبوية المتطرفة وبرامجها التي تلتقي في نهاية المطاف مع مبدأ الغطرسة والتطرف وكراهية الديمقراطية ومحاربة التحرر.

الدرس الروسي فهمته الأحزاب والديمقراطيات الليبرالية الكلاسيكية، التي أصبحت الآن في موقف دفاعي، وبأن عليها واجب يقتضي تعزيز الروابط القائمة بينها، حول الدفاع عن قيمها المشتركة.

من كان ليتنبأ بأنه بعد مرور أكثر من خمسة وسبعين عاما على انهيار الفاشية، سيكون هناك ممثلون منتخبون للشعب الحاكم في فرنسا، أو إيطاليا وهنغاريا، يتحدثون بنبرة وأحيانا بعبارات قريبة جدا من تلك التي يتحدث بها موسوليني، وكذلك في ألمانيا والسويد، التي شهدنا للتو مشاهد مزعجة لعمليات حرق لنسخ من القرآن في الشوارع وعمليات الاعتداء على الأجانب؟ يستعد اليمين المتطرف في فرنسا لتحقيق نتيجة جيدة، إن لم تكن جيدة جدا، في الانتخابات التشريعية المقبلة.
يستعد اليمين المتطرف في فرنسا لتحقيق نتيجة جيدة، إن لم تكن جيدة جدا، في الانتخابات التشريعية المقبلة

لمواصلة السير على المسار الصحيح في مواجهة اليمين المتطرف، على الرغم من ضعف برامج جان جاك ميلانشون، والعقبات التي تنتظر ولاية الرئيس ماكرون القادمة، هناك حاجة لوحدة في الموقف والمسار التي ينبغي الإمساك بها. ومن الضروري إدراك أن هذه الوحدة واستخلاص الدروس الأخلاقية والسياسية منها على الصعيدين الأوروبي والعالمي؛ هي التي تؤسس لهزيمة الشعبوية، وإدراك الخطر الحقيقي والوجودي لمجتمعات تعرضت لزلزال قوي وكارثة نتائجها لم تتضح بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها كشفت بقوة أنه ليس هناك ما هو أسوأ من الغموض وأنصاف التدابير، والنفاق إذا تعلق الأمر بالاستبداد والاحتلال في الخطاب الأمريكي والغربي.

أخيراً، يغيب كالعادة الدرس العربي من كل عملية ديمقراطية وانتخاب رئاسي أو برلماني تجري بعيداً عن حدوده الجغرافية والسياسية، وفق الحسابات القائمة والثابتة في كل دورة انتخابية محفوظة في جيب المستبد العربي، ومصلحته بالتعاطي مع أي مهمة تحفظ وجوده سواء أتته من اليمين العنصري أو المحتل الإسرائيلي.

twitter.com/nizar_sahli