آراء ثقافية

ماكبث كوين.. طاغية عصري بقناع تاريخي (1من 2)

ماكبث يدير ظهره لنفسه بعد ان عزم على انتزع السلطة
لماذا ماكبث؟

تغريني شخصية "ماكبث" دائما بالكتابة عنها، ولا شك أن هذا الإغراء يزيد عندما يتناولها سينمائي مميز مثل جويل كوين، ويصل الإغراء إلى أقصاه عندما أعرف أن كوين الأكبر ذهب مصمما على تنفيذ العمل من غير مشاركة شقيقه الأصغر إيثان، الذي تقاسم معه الكفاح والنجاح والجوائز وتلازما في كل أعمالهما حتى صارا علامة سينمائية غير فردية تحت مسمى "الأخوين كوين".

عندما قرأت الأخبار الأولى عن تنفيذ الفيلم سألت نفسي متحيراً ومهتماً: لماذا يغامر جويل وحيدا بتقديم ماكبث؟ وما الجديد الذي يريد أن يقوله في دراما تم معالجتها عشرات المرات، وتصدى لها عظماء في فن السينما مثل أورسون ويلز ورومان بولانسكي وجوستين كورزيل وأكيرا كوروساوا.

ثم سألت نفسي مندهشا بدرجة أكبر من الحيرة والاهتمام:
وهل كان ماكبث (الاسكتلندي) أسود البشرة ليقوم بدوره دينزل واشنطن؟

تهاوت الأسئلة أمام غرامي القديم بدراما ماكبث، خاصة وأن جويل كوين تعمد إضافة كلمة "ذا تراجيدي" إلى العنوان الأصلي، وهذا يعني اهتمامه بفكرة الصراع النفسي التي تعمق مأساة سقوط ماكبث من مجده العسكري إلى هاوية الخيانة والاغتيال بسبب غواية غرستها في عقله نبوءة الساحرات وغذاها تحريض زوجته القوية على اقتناص المُلك، وهذا الجانب من المأساة اكتسب حضورا سياسيا في دماغي وأدمغة المصريين بعد ثورة يناير وما تلاها من فصول درامية وتراجيدية امتزج فيها الأمل والمجد والبطولة مع الخيانة والغدر والاغتيال، فهرب الأمان من النفوس وغادر النوم للعيون: "سمعت صوتاً بداخلي يقول: ماكبث لن يعرف النوم بعد اليوم".

من هذه الأسئلة رأيت أن مأساة ماكبث كما قدمها جويل ليست مسرحية عتيقة تدور في مطلع القرن السابع عشر، لكنها دراما عصرية تستحق التناول النقدي بانفتاح سياسي على الواقع الحالي (أقول انفتاح على الواقع لا اقول إسقاط على الواقع)، فقد تكون هناك أسباب عنصرية وراء تقديم نسخة سوداء من شخصية "ماكبث" كما لو أنه "أفرو أمريكان"، وتفهم ذلك كنوع من التعبير الفني عن الاحتجاجات التي أعقبت خنق شرطي امريكي لجورج فلويد، وهذا ما يستحق المناقشة في فقرة مستقلة، وقد يكون هناك تحذير من حرب أهلية (كالتي حدثت في اسكتلندا) تطل برأسها من خلال مظاهر الانقسام الذي يهدد تجانس المجتمع الأمريكي ووصل في ولاية ترامب إلى السلطة المركزية نفسها في مشهد اقتحام الكونغرس، وسلوك الرئيس الذي لا يرغب في التنازل سلميا عن السلطة موحيا باستخدام العنف ومتعمدا هز الثقة في شرعية أسس الحكم الديموقراطي، وتلويحه باستخدام القوة بديلا للانتخابات للبقاء على العرش!

هناك أسباب وجيهة أخرى تتعلق بالحالة الأمريكية كما تمس الحياة العائلية للمخرج وزوجته بطلة الفيلم، لكنني أؤجل مناقشة الشق الأمريكي للمقال التالي، لأفسح مجالا للتفكير في قراءة مصرية لماكبث تتعلق بفكرة "النبوءة" التي تغرس هاجس السلطة في رأس رجل عسكري يعمل في البلاط، ومعظمنا يتذكر النبوءة التي صرح بها الضابط عبد الفتاح السيسي، على هامش حوار صحفي مسجل قال فيه أنه كان يرى في المنام رؤى تبشره بحكم مصر ويتقلد فيها السيف وأشياء مما قالته الساحرات لماكبث في أول المسرحية عند عودته من الحرب، واحتراما لقيمة المسرحية والفيلم سنخصص هذا المقال للحديث عن مأساة هاملت بين التاريخ والتناول الدرامي على أن نعود لبقية الأسئلة الحائرة في مقال أو مقالات لاحقة إذا اقتضت الرسالة تفصيلات أكثر.

المسار الدرامي

سأقدم فكرة تمهيدية مكثفة عن قصة ماكبث لمن لا يتذكر مسرحية شكسبير، وكذلك لمن لا يعرف الأصل التاريخي للشخصية، وأيضا لمن لم تتيسر لها مشاهدة الفيلم:
"ماكبث" نبيل اسكتلندي يحارب في خدمة الملك دنكان وتبدأ المسرحية (والفيلم أيضا) بمقاتل جريح يحكي للملك عن صعوبة المعركة مع الأعداء لولا بطولة ماكبث وصديقه بانكو، ويخبره بخيانة نبيل آخر تعاون مع الأعداء (صاحب مقاطعة كودور).

في طريق عودة ماكبث وبانكو من الحرب كان الجو غائما والسماء تملأها الغربان ويلفها الضباب مما يرسم الأجواء النفسية للدراما، ونسمع أصوات ساحرات يلقين التعاويذ ويتحدثن عن الاستعداد للقاء ماكبث، حيث يخبرنه بأنه سيصير صاحب كودور، ثم صاحب الجلالة ملك اسكتلندا، وعندما يستنكر بانكو حديث الساحرات يخبرنه بأنه سينجب سلالة من الملوك لكنه لن يكون ملكا أبداً، وقبل عودته إلى البلاط يتم إبلاغ ماكبث بأن الملك أنعم عليه بلقب "أمير كودور" خلفا لحاكمها الخائن الذي تم إعدامه، ويكتب ماكبث لزوجته رسالة بما حدث، فتتمسك بالنبوءة وهي تحدث نفسها عن أخلاقيات ماكبث التي تمنعه من تحقيق طموحاته وتتعجل عودته لكي تقنعه بالعمل من أجل تحقيق الأمل.

عندما يصل ماكبث إلى البلاط يكرمه الملك ويبلغه إمعانا في الإكرام بأنه سيزوره ويقضي اليوم في قلعته، وتتيقن ليدي ماكبث (زوجة ماكبث) أن القدر يسهل الطريق لتحقيق النبوءة وتحرض زوجها على قتل الملك وإلصاق التهمة بحارسيه بعد تخديرهما، وفي الصباح عندما يتم اكتشاف الجريمة يسرع ماكبث بقتل الحارسين بحجة الانتقام في لحظة غضب، ويهرب نجلا الملك خشية الفتك بهما، ولما يتم تنصيب ماكبث ملكا يستأجر قتلة لاغتيال بانكو ونجله فليانس، لكي لا يتحقق الجزء الثاني من النبوءة عن تنصيب سلالة بانكو ملوكا، لكن فليانس يهرب مشبعا بالرغبة في الانتقام من قاتل والده، ويتحول ماكبث إلى طاغية يرى شبح بانكو يطارده، ويصاب بالقلق والأرق "ما بالي أصبح كل صوت يخيفني".. "ما فائدة المُلك إذا لم أكن آمنا في ملكي"، كما تنزلق ليدي ماكبث إلى حالة من الهوس والمشي أثناء النوم وصولا إلى الهذيان والانتحار، ويستدعي ماكبث الساحرات في محاولة للتعرف على القدر وجلب الاطمئنان لروحه الضائعة، فتلجأ الساحرات إلى استخدام حديث مخادع يبدو صادقا ومطمئنا في ظاهره: احذر من ماكداف (أحد نبلاء المقاطعات المجاورة)، لن يقتلك أي رجل ولدته امرأة، لن يزول ملكك حتى تتحرك غابة بيرنام إلى قلعتك.

يشعر ماكبث بحالة من الطمأنينة الزائفة لا تجلب له الأمان، لكنه يشعر بالضياع التام بعد تلقي خبر انتحار زوجته التي كانت تحدثه دوما عن الغد، ثم سماعه لخبر زحف الجنود عليه حاملين فروعا من أشجار غابة بيرنام، ثم عندما يصل الجيش بقيادة مالكوم نجل الملك المغتال والأمير ماكداف الذي حذرته منه الساحرات، فقال له ماكبث: ابتعد وانج بحياتك فلن يتمكن من قتلي رجل ولدته امرأة، يخبره ماكداف بأنه لم يولد بل انتزعه الطبيب قبل موعد ولادته بعملية قيصرية، لكن ماكبث لا يستسلم ويفضل القتال حتى الموت، وينتهي طموح النبيل القاتل برأس مقطوعة على سن رمح.

نسخة كوين

لم يخرج جويل كوين في معالجته عن الخط الرئيسي لمسرحية شكسبير، لكنه اقتصد في اللغة وسعى لتبسيطها وتخليصها من سمات عصر معين وكذلك من الثقل البلاغي والتاريخي، كما اختصر التفاصيل المتعلقة بتعاويذ ولغة الساحرات وألغى مشهد رئيستهم (هيكات) المختلف عليه بين النقاد، حيث يعتبره البعض مدسوسا على النص الأصلي لشكسبير، واكتفى كوين بممثلة واحدة أدت أدوار الساحرات جميعهن في أداء فصامي تعددي عظيم قامت به أسطورة المسرح الانجليزي كاثرين هانتر التي شاركت في الإنتاج مع جويل وزوجته فرانسيس ماكدورماند التي قامت بدور ليدي ماكبث ودينزل واشنطن الذي لعب دور ماكبث وآخرين.

إذا كان من الثابت عند نقاد شكسبير أنه كتب النص الأصلي احتفالا بتنصيب الملك جيمس الأول الذي يعتبر نفسه من نسل بانكو ضحية ماكبث وشريكه في النبوءة، وأن العرض الأول للمسرحية كان مرتبطا باحتفالات نجاة جيمس من مؤامرة البارود التي دبرها متمردون بزعامة هنري جارنت، ومشاركة جاي فوكس (صاحب قناع فينديتا في الفيلم الشهير) الذي قام بتخزين براميل البارود في قبو أسفل مبنى البرلمان، حتى تم اكتشافها ونجاة الملك في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر الذي تحول إلى عيد وطني في المملكة تتردد فيه أغنية "ريميمبر ريميمبر فيفث أو نوفمبر"، وهذا يقربنا من مفهوم الأعمال الدرامية التي تتم صياغتها وتقديمها للجمهور من أجل تمجيد حقبة أو شخصية أو حدث سياسي معين وإعادة رسم الحقائق التاريخية بما يعلي من قيمة طرف ويسقط طرف آخر، حتى لو تم ذلك من خلال مبالغات وأكاذيب وتحريف حقائق تاريخية من أجل خدمة السلطة القائمة، ولهذا اختلف نص شكسبير جذريا مع الواقع التاريخي لماكبث الذي كان ابن خالة الملك ومقرب منه، ثم دخل في صراع على السلطة بما يناسب تقاليد الفروسية والنبالة في العصور الوسطى، لكنه لم يقتل الملك أثناء استضافته، ولم يلجأ لمحاولة اغتيال ماكدوف وقتل عائلته بالطريقة الخسيسة التي ظهرت في المسرحية، لكنه حاصر قلعته في حرب نظامية استمرت عدة أشهر، وبعد هزيمة ماكبث الواقعية في الحرب لم يتم تنصيب مالكولم نجل الملك دانكان، بل تم تنصيب ابن ليدي ماكبث واستمر في العرش قرابة العام خلافا لنص شكسبير، وقبل هذا كله فإن بانكو على المستوى الواقعي كان شريكا لماكبث في التخلص من الملك دنكان في كمين عسكري بمنطقة اينفرنيس بعيدا عن قلعة ماكبث، لكن شكسبير سعى لتبرئة بانكو واعتباره ضحية نتيجة اعتقاد تم ترويجه بأنه جد الملوك الحاكمين من عائلة ستيوارت التي ينتمي إليه الملك جيمس الراعي والممول الرئيسي لفرقة شكسبير المسرحية.

تحذير فني وسياسي

أحذر من أسلوب الإسقاط المباشر بين الفن والواقع، فنعتبر أن شكسبير مثقف سلطة يكتب ويقدم الدراما تنفيذا لتوجيهات الجهة الممولة، فمفهوم المثقف بمعناه المعاصر الذي بدأ مع مقالات إميل زولا في قضية دريفوس، لم يكن قد ظهر في تلك العصور الوسطى التي تعتمد على شرعية السيف والحكم لمن غلب، كما أن المسرحية تقدم ماكبث كمقاتل نبيل "شجاع عسكريا وجبان أخلاقيا"، يسقط في الهاوية عندما يتعرض لاختبار أخلاقي صعب نتيجة طموح ذاتي صنعته نبوءة الساحرات (يمثلها الإعلام في زماننا وتمثلها النفس البشرية في كل الأزمان)، ولهذا فإن مأساة ماكبث تختلف عن النزعة الطغيانية الشريرة التي تتجسد في بعض الطغاة المعاصرين، أو في شخصية شكسبيرية أخرى مثل الملك ريتشارد الثالث، الذي يرتكب الشر بلا صراع نفسي لكنه كان شجاعاً عسكريا، فما بالنا بجندي جبان عسكريا وأخلاقيا ويرتكب الشر بلا صراع ولا نبالة.. لهذا فأي مقارنة ستكون خاطئة، كما أن إهمال التشابهات في مصائر الطغاة ودوافعهم سيكون خاطئا أيضا.

هذه هي المعادلة الدقيقة التي صاغ بها جويل كوين رؤيته السينمائية في فيلم كلاسيكي عميق بالأبيض والأسود ينتمي إلى المسرح أكثر مما ينتمي إلى السينما، ويغوص في الجانب النفسي لشخصياته أكثر مما يرتكز على مفاهيم الفروسية في العصور الوسطى، لذلك فإنه يذكرنا طول الوقت بالجريمة والعقاب لدوستويفسكي أكثر مما يذكرنا بشكسبير، فالشخصيات تنال عقابها الأكبر من داخل أنفسها، ليدي ماكبث تنهار وتنتحر، ومقتل ماكبث أقرب للانتحار من الدفاع عن عرش، فالحوار يؤكد لنا أنه يعرف مصيره ويرغب في الذهاب إلى النهاية دون تنازل عن بقايا النبل التي ظلت تصارعه وتحرمه النوم، ويختلف سلوك الطاغية الجبان كثيرا عن ذلك، لأنه يتبلد عاطفيا ويتحجر عقليا ويتضاءل إنسانيا أمام كرسي السلطة، فيسعى للحفاظ عليه متجاهلا أي نبل أو قيمة، وفي سبيل الحفاظ على السلطة يتحول إلى مسخ يتدنى في صراعه إلى حضيض أخلاقي وسياسي وعسكري لا يستحق الكلمة التي أضافها جويل لعنوان فيلمه "تراجيدي"، فالتراجيديا (المأساة) تعني أن الشخصية تعاني من الألم والأسى، وهذا ما كان عليه "ماكبث" ولا يعانيه الطغاة من طراز الوحوش الذين يسرقون ويبطشون ويقتلون دون إحساس أو معاناة أو صراع مع ضمير.

وفي مقال مقبل نواصل طرح الأسئلة والنقاش حول ماكبث جويل كوين - داوفعه ورسائله.