قضايا وآراء

هل فشلت الاستشارة الوطنية الإلكترونية في تونس؟

1300x600
منذ الخامس والعشرين من شهر تموز/ يوليو الماضي، دخلت تونس زمنا سياسيا جديدا. وهو زمن ملتبس يراه الرئيس وأشياعه مرحلة جديدة في التنظيم السياسي على مستوى الإنسانية جمعاء، بينما يراه خصوم "تصحيح المسار" مشروعا استبداديا انقلب على مسار الانتقال الديمقراطي وأدخل البلاد في حالة من الفوضى المؤسساتية والانسداد السياسي. فبعد تفاقم الأزمة الاقتصادية وعجز الحكومة عن توفير الموارد اللازمة لإدارة الدولة، وبعد ما أضيف إلى ذلك كله من التراجع الكارثي لتونس في مؤشرات الحريات الفردية والجماعية ومؤشرات التصنيف السيادي من قبل المؤسسات المالية الدولية، أصبحت البلاد مهددة بالسيناريو اللبناني؛ إن لم يكن في مستوى الاحتراب الأهلي فعلى الأقل في مستوى الإفلاس والعجر عن سداد الديون أو حتى توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين.

يوافق عيد الاستقلال في تونس يوم 20 آذار/ مارس من كل سنة، وقد اختار الرئيس هذا التاريخ لإعلان نتيجة الاستشارة الوطنية الإلكترونية. والاستشارة في "خارطة الطريق" الرئاسية هي جزء من "الحوار الوطني" الذي أصرّ الرئيس –رغم كل الضغوط المحلية والدولية- على إدارته بصورة مختلفة عن كل أشكال الحوار التي دعا إليها خصومه وأنصاره "النقديين" على حد سواء. فالحوار الوطني من منظور الرئيس هو حوار عمودي لا يحضر فيها إلا طرفان: الرئيس والشعب. فالشعب هو مصدر السلطات، والرئيس هو الممثل الشرعي والوحيد له، وهو المعبّر الحصري عن إرادته. أما بقية الفاعلين الجماعيين أو الأجسام الوسيطة التي هيمنت على "الديمقراطية التمثيلية" (مثل الأحزاب والجمعيات المدنية والنقابات.. الخ) فلا علاقة لها بالحوار ولا بالوطنية، ولا يحق لها ادعاء تمثيل الإرادة الشعبية بعد أن انقلبت عليها منذ رحيل المخلوع.
الحوار الوطني من منظور الرئيس هو حوار عمودي لا يحضر فيها إلا طرفان: الرئيس والشعب. فالشعب هو مصدر السلطات، والرئيس هو الممثل الشرعي والوحيد له، وهو المعبّر الحصري عن إرادته

رغم أن عدد المشاركين في الاستشارة "الوطنية" لم يبلغ عدد الذين انتخبوا المرشح الرئاسي قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات (بلغ عدد المشاركين 534915 شخصا، بينما بلغ عدد من انتخب السيد قيس سعيد في الدور الأول 620711)، ورغم كل الإخلالات التي تطعن في مصداقية هذه الاستشارة (عدم وجود جهة رقابية محايدة، مشاركة القاصرين، توظيف موارد الدولة والإعلام العمومي، تجييش الإدارة وممارسة نوع من الضغط المعنوي على الموظفين، احتلال المجال العام بخيمات إشهارية، شيطنة الرافضين للاستشارة والطعن في وطنيتهم.. الخ)، رغم ذلك كله أطل الرئيس على الشعب التونسي متحدثا عن نجاح الاستشارة وعن نيته الاستمرار في خارطة الطريق التي وضعها للحوار الوطني، أي عن نيته الذهاب إلى الاستفتاء في موعده المقرر.

في كلمته للشعب التونسي، حوّل الرئيس التونسي الاستشارة الوطنية الإلكترونية إلى حدث "ملحمي". وقد اقتضت "الملحمة" أن يُعرض الرئيس عن الأرقام ودلالاتها الواضحة، كما اقتضت أن تتحول الاستشارة إلى مناسبة للتغني بخصال بطل الملحمة ومساعديه (أي مساندي المشروع الرئاسي). ولذلك تحدث الرئيس التونسي عن العوامل المساعدة (تضحية الشباب "الصادقين" وتآزرهم للمشاركة في الاستشارة، رغم ضيق الحال ورغم المخاطر التي واجهتهم مثل تعرض أحدهم للطعن وتعرّض آخر للإيقاف)، كما تحدث عن العوامل المعرقلة للبطل الملحمي ومشروعه (وضع العراقيل أمام الاستشارة، تزييف وعي المواطنين، تغيير رمز الاتصال الدولي لتونس.. الخ).

إننا في حضرة جملة سياسية ذات جذر مانوي يقوم على الثنائيات المتناقضة واللامتكافئة وغير القابلة للجدل فيما بينها. وهي ظاهرة تحكم خطاب الرئيس منذ أن تقدم للانتخابات الرئاسية باعتباره حاملا لمشروع سياسي بديل، لا باعتباره شريكا في المشروع السياسي القائم.
الاستشارة حسب رأيه "ناجحة رغم جميع محاولات الإحباط والعقبات التي وُضعت أمام الشعب لثنيه عن التعبير عن إرادته"، ونجاح الاستشارة لا يرتبط فقط بعدد المشاركين، بل بعدد من يُفترض بهم أن يشاركوا وحالت بينهم وبين قلوبهم استراتيجياتُ الإحباط التي اعتمدها أعداء الإرادة الشعبية

لعل من أهم صفات الوعي "المثالي" أو الطوباوي هو قدرته اللا متناهية على تبرير الشيء وضده من جهة أولى، واستحالة أن يشتغل نقديا على ذاته من جهة ثانية. وهو ما ينطبق على موقف الرئيس من نتائج الاستشارة وغيرها من المسائل قبل ذلك. فالاستشارة حسب رأيه "ناجحة رغم جميع محاولات الإحباط والعقبات التي وُضعت أمام الشعب لثنيه عن التعبير عن إرادته"، ونجاح الاستشارة لا يرتبط فقط بعدد المشاركين، بل بعدد من يُفترض بهم أن يشاركوا وحالت بينهم وبين قلوبهم استراتيجياتُ الإحباط التي اعتمدها أعداء الإرادة الشعبية. ولذلك فإن الاستفتاء لم يفقد شرعيته على عكس ما يدعي الخصوم، وسيكون مرحلة ثانية من مراحل الإنصات للإرادة الشعبية، وفرصة ثانية لإخراج هذه الكتلة المساندة من حالة الكمون إلى حالة الظهور. والاستشارة ناجحة أيضا لأنها قد أثبتت أن الرئيس ما زال يتمتع بقاعدة شعبية تتجاوز القواعد الانتخابية للأغلب الأعم من خصومه. ولذلك فإن الرئيس ليس في موضع المضطر إلى مراجعة خياراته أو تعديل خارطة طريق الخروج من حالة الاستثناء ولن يتخلى عن السلطة التأسيسية بعد أن جمع بين يديه كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

إن الجزم بفشل الاستشارة الوطنية لا يقل خطأ عن جزم الرئيس وأنصاره بنجاحها. فرغم أن الرئيس يجانب الصواب عندما حوّل فشل الاستشارة إلى جزء من "ملحمة تصحيح المسار"، فإن تمرير الاستشارة في ذاته يُعتبر نجاحا له ولخارطة الطريق التي فرضها يوم 25 تموز/ يوليو، ورسّخها بالمرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021.
نتائج الاستشارة الوطنية قد أكدت أن الرئيس لا يحتاج في فرض سلطته "التأسيسية" إلى تمثيلية شعبية كبيرة، ولا إلى الاستعانة بالمؤسسة الأمنية أو حتى بالتضييق النسقي على الحريات، بل كل ما يحتاجه هو استمرار موازين القوى بينه وبين خصومه على وضعها الحالي

إن خارطة الطريق الحقيقية لم تظهر في شهر كانون الأول/ ديسمبر قبيل الاحتفال بالتاريخ الجديد لعيد الثورة، بل هي موجودة في المشروع الذي حمله السيد قيس سعيد منذ الانتخابات الرئاسية وبدأ بتفعيله يوم 25 تموز/ يوليو من السنة الماضية. فقد استطاع الرئيس قيس سعيد إعادة هندسة المشهد العام في تونس واستولى على كل السلطات، كما نجح في تحييد كل الهيئات الدستورية أو تهميشها، مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي لم تشرف على الاستشارة الوطنية، ولا يبدو أنها ستشرف بتركيبتها الحالية على الاستفتاء أو الانتخابات القادمة.

ختاما، فإن نتائج الاستشارة الوطنية قد أكدت أن الرئيس لا يحتاج في فرض سلطته "التأسيسية" إلى تمثيلية شعبية كبيرة، ولا إلى الاستعانة بالمؤسسة الأمنية أو حتى بالتضييق النسقي على الحريات، بل كل ما يحتاجه هو استمرار موازين القوى بينه وبين خصومه على وضعها الحالي. فالأرقام ليست محايدة، ولذلك فإن قراءة خصوم الرئيس لها لا تعني في شيء هذا الأخير ولا يمكن أن تدفعه إلى تعديل بوصلته، وهو ما أكده الرئيس الذي قال إنه ماض في "الحوار الوطني" عبر آلية الاستفتاء الشعبي العام.

وفي صورة استمرار المعارضة في وضعها المتشرذم وفي عجزها عن تقديم بديل سياسي ومخرج ذي مصداقية من حالة الاستثناء، سيكون من الصعب توقع أي تراجع للرئيس عن جمهوريته الثالثة، أي تراجعه عن منطق البديل المطلق لكل الأجسام الوسيطة بأشكالها الحزبية والنقابية والمدنية وغيرها. وهو معطى يكاد أن يقترب من "البداهة" ولكنه غير ذي تأثير في واقع المعارضة التي ما زالت تستمرئ أطروحاتها اللا وظيفية في سياق مأزوم يشير كل ما فيه إلى أن الرئيس لن يُصغيَ إلا لاحتياجات مشروعه السياسي الخاص، ولو كانت كلفته إفلاس الدولة وتدمير مؤسساتها ومشروعها الديمقراطي "الهش".

twitter.com/adel_arabi21