آراء ثقافية

نتفلكس والسينما الفلسطينية.. الرواية على عهدة الراوي (2من3)

نتفلكس - CC0

سؤال أجابت عنه المخرجة فرح النابلسي في فيلمها القصير "الهدية" 2020. قصة قصيرة مبكية وملهمة في آن معاً، بطلها فلسطيني وابنته التي لا يزيد عمرها على العشر سنوات، يذوقان مرارة الإذلال على حاجز التفتيش الإسرائيلي.

 

اقرأ الجزء الأول: نتفلكس والسينما الفلسطينية.. معايير الاختيار (1-3)

 

اقرأ الجزء الثالث: نتفلكس والسينما الفلسطينية.. صورة رديئة للفلسطيني (3/3)

لا يحتمل سيناريو الفيلم عرض خلفيات الصراع التاريخية والسياسية، لكنه عبر مشاهد بعدد أصابع اليد الواحدة، يكثف الجانب الإنساني الاجتماعي في الصراع.


ويصنع الفيلم مفارقة مدهشة بين اليأس والأمل، والقهر والتحدي، من خلال شخصية الطفلة ياسمين، وهي التي بالت على نفسها من طول الانتظار على الحاجز في رحلة الذهاب، لكنها فاجأت الجنود في رحلة العودة، وانقذت أباها من تهديدهم بقتله، عندما أخذت على عاتقها قرار دفع العربة التي تحمل الهدية رغماً عن إرادة الجنود.


فاز الفيلم بجائزة "البافتا" عن فئة الأفلام القصيرة. وفازت مخرجته بإحدى جوائز مهرجان "بروكلين الدولي للأفلام". وفاز ورشّح لجوائز عربية ودولية كثيرة.


"كلوز أب" على خيارات الفلسطيني


بكاميرا مغرمة بالوجوه يقدم فيلم " المُرّ والرمان" للمخرجة نجوى النجار، "2008"، ملامح الفلسطيني الحائر بين الحياة العادية وحياة النضال ضد المحتل.


اللقطات القريبة تفصح عن المكنونات العاطفية لشخصية الفلسطيني المحب للحياة، والمحروم من عيشها على أرضه. وعلى الرغم من قبوله بالظروف القاسية التي يفرضها المحتل، وتكيّفه مع شروط الحياة الصعبة في جغرافيا منقوصة مقطعة الأوصال، إلا أنه يجد طريقه ليعمل ويحب ويرقص ويلعب ويستمتع بالأكل والشرب.


يجرّد الفيلمُ الفلسطينيَّ من لبوس الفدائي ويخلع عليه صورة الإنسان المسالم، إلا أن هذه الصورة سرعان ما تهتز وتنقلب حين يهجم المستوطن على أرضه محمياً ببنادق الجنود، وبآلة قانونية جبارة عنصرية مصمَّمة لتجريد الفلسطيني من أرضه وحبسه ومساومته على حريته المنقوصة مقابل التنازل عن أرضه.


يرى الفيلم أن حرية الفلسطيني مقيدة، وحقه في العيش البسيط مؤجل، وما دامت قضيته مفتوحة فالنضال فرض عين عليه، ولبوس الفدائي لا يمكنه خلعه أو استبداله.


الفيلم الثاني للمخرجة نجوى النجار "عيون الحرامية"، 2014، مستوحى من قصة حقيقية، لكن السيناريو صاغها بأسلوبية المخرجة في فيلمها الأول، وأخضعها لمنظورها السينمائي الذي ينسج الحبكة حول حدث مركزي يتمثل في اشتباك عنيف بين الفلسطيني والمحتل، يقرر فيه الفلسطيني مصيره الفردي، ويدفع ضريبة المقاومة، فتدور خيوط الحبكة كلها حول هذا القرار، لتكون أحداث الفيلم تداعيات وعواقب له.


في الفيلم الأول يخسر الفلسطيني حريته لأنه اختار التحدي في لحظة فارقة، وتعرضت علاقته بزوجته لاختبار صعب حين فرض عليه الاختيار بين حياة زوجية مستقرة وبين الدفاع عن أرضه، فاختار الدفاع عن أرضه.

 

اقرأ أيضا: نتفلكس والسينما الفلسطينية.. معايير الاختيار (1-3)

في هذا الفيلم خسارة الفلسطيني أكبر لأن فعل التحدي كان أكبر، فيدفع ثمناً باهظاً في سجون الاحتلال. وبعد خروجه من السجن يجد أنّ عليه أن يخوض غمار تحدٍ أكبر؛ لكن ميدان التحدي هذه المرة هو الواقع الفلسطيني الغارق في الفوضى الاجتماعية والفساد.


يجد بطل الفيلم أن النضال داخل المجتمع الفلسطيني لا يقلّ أهمية عن النضال ضد المحتل، فيخوض معركة الوعي، ويحاول تصحيح الأمور كاشفاً عن أن مقاومة المحتل لا تنحصر بإطلاق الرصاص على جنوده فحسب، وإنما بمقاومة مخططات الإفساد التي ينفذها المحتل لسرقة موارد المياه وتجفيف منابع الحياة في المدن الفلسطينية.


يشترك الفيلمان في رؤية واحدة تنظر إلى المجتمع الفلسطيني نظرة شمولية فاحصة، لتشخص أمراضه، وترصد آثار الاحتلال الاستيطاني فيه. وينشئ الفيلمان بروفايلات مقرّبة لشخصية الفلسطيني المنخرط في صراع يومي مع المحتل، في كل تفصيلة من تفاصيل حياته.


لا دراما تعلو على النكبة


ينتمي فيلم "ملح هذا البحر"، 2008، لمخرجته آن ماري جاسر إلى السينما الواقعية البسيطة، ويستمدّ قوته الدرامية من تطابقه مع دراما الحياة والحدث التاريخي من دون إعمال كبير للمخيلة، ويعتمد في مشاهد مطولة منه على ذاكرة المكان الفلسطيني الحقيقي، والمادة الأرشيفية التاريخية، لينقل مأساة النكبة الفلسطينية وما صاحبها من تدمير للمكان وتهجير للإنسان.


يتمركز الفيلم حول مقولة مفادها أن النكبة ما زالت حية في الجيل الثالت من أبنائها، ومفتوحة على مطلبهم الإنساني والقانوني والأخلاقي بالعودة إلى أرضهم، واسترجاع هويتهم وأملاكهم.


الجنسية الأمريكية التي تحملها بطلة الفيلم لا تغني عن جنسيتها الفلسطينية، وبيت جدها في يافا لا تؤول ملكيته بحكم الأمر الواقع إلى ساكنته اليهودية، ورصيد جدها في البنك البريطاني في فلسطين لا يضيع بالتقادم، ولا يلغيه قيام دولة الاحتلال.


يوجه الفيلم مجموعة من الرسائل إلى الأطراف المعنية بالمأساة الفلسطينية، أولاها إلى الفلسطيني المقيم على أرضه، مفادها أن البقاء في وطنه قيمة كبيرة، وشكل عظيم من أشكال النضال. وثانيها إلى الإسرائيلي المقيم على أرض الفلسطيني، مفادها أن إنسانيته منقوصة، مهما أظهر من لطف وتحضّر وحسن معاملة، ما لم يعترف للفلسطيني بحقه باسترجاع أرضه. وثالت الرسائل للعالم، خصوصاً الغربي، مفادها أن التواطؤ مع دولة الاحتلال، والسكوت عن مأساة النكبة، وطمس آثارها، سيظل لطخة عار في سجل الحقوق الإنسانية التي يدعيها.


يثير الفيلم من الحنين أكثر مما يثير من الأفكار، فهو يخاطب المشاعر قبل العقول، وهو يصطاد المشاهد الغربي، بقدرته على كشف المفارقات المحزنة المحيطة بالمأساة الفلسطينية، ليرى القضية من زاوية الفلسطيني.


ويعطي الفيلم مساحة واسعة للمرأة الفلسطينية كي تلعب دور البطولة، وتتولّى مهمة التعبير عن قضيتها، وتقف بشجاعة وثقة ومنطق سليم لتقارع المحتل، وتجبره على فتح عينيه ليراها ويسمعها.


ترجع آن ماري جاسر في فيلمها الثاني "لما شفتك" إلى عام 1967؛ عام النكبة. وتبني واقعاً شاعرياً للموجة الثانية من التشريد الفلسطيني، فتختار غابات البلوط المشرفة من الأرض الأردنية على جبال فلسطين المحتلة، وتستعيد بدقة صورة مخيم اللاجئين بوصفه مكاناً كريهاً، لكنها تتجنّب الغوص في تفاصيله الموحلة إلا بالمقدار الذي يبرر تعلق الشخوص بفكرة العودة.


يضع الفليم خيارات اللاجئ الفلسطيني بين كفتي ميزان؛ فإما البقاء من دون أفق في المخيم، وإما الانضمام إلى خلايا الفدائيين. وينحاز الفيلم إلى الخيار الثاني فيرسم صورة جميلة نقية لمجتمع الفدائيين، ويظهر الفدائي فيها شغوفاً وعاطفياً وحلو المعشر وقوي الإرادة. وفي المقابل يُظهر الفيلم مجتمع المخيم مسدود الأفق، مستسلماً للهزيمة، غارقاً في همومه المعيشية.