قضايا وآراء

أزمة الإخوان.. النفوس قبل النصوص

1300x600
منذ ظهورها إلى العلن، ارتبط الحديث عن أزمة الإخوان الأخيرة في الكثير من السياقات بنصوص اللائحة الداخلية للجماعة التي تنظم قواعد العمل داخلها، حيث يستند كلا الفريقين المتنازعين إليها لتسويق وتبرير صدقية موقفه، غير أن التعمق في المسألة يكشف أن حديث اللوائح يخفي مواقف نفسية ليست وليدة اللحظة، ورؤى متباينة في تقدير الموقف الراهن والتعامل معه.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تستدعى فيها اللائحة الداخلية لحسم خلافات كبرى حول قضايا رئيسية، فقد حدث الشيء ذاته في أزمة العام 2015-2016، التي كانت حول أساليب الإدارة، ومواجهة الانقلاب، وبالتأكيد حدث ذلك في كل الأزمات السابقة. فاللائحة في أي تنظيم أو كيان هي بمثابة الدستور الذي يحتكم إليه قادة وأفراد ذاك الكيان عند الخلاف، ولذلك تحرص الكيانات والمؤسسات الكبرى على صياغة لوائحها الداخلية بصورة متقنة؛ لا تترك مجالا للالتباس والتفسيرات المتعددة للنص الواحد.
ارتبط الحديث عن أزمة الإخوان الأخيرة في الكثير من السياقات بنصوص اللائحة الداخلية للجماعة التي تنظم قواعد العمل داخلها، حيث يستند كلا الفريقين المتنازعين إليها لتسويق وتبرير صدقية موقفه، غير أن التعمق في المسألة يكشف أن حديث اللوائح يخفي مواقف نفسية ليست وليدة اللحظة،

من أبجديات احترام العمل المؤسسي الاحتكام إلى قواعد مكتوبة ومقرة سلفا لحسم أي خلاف، ولكن ذلك يلزمه عدة شروط:

- أن تكون اللائحة معبرة عن الواقع الذي تعيشه المؤسسة والبيئة المحيطة بها.

- أن تكون محكمة الصياغة، ومعروفة سلفا للجميع، ومنشورة لمن يريد الاطلاع عليها.

- أن يكون الاحتكام إليها سلوكا مستداما وليس انتقائيا.

- أن تكون هناك آليات واضحة للاحتكام إليها.

وليس من اللائق أن يتم استدعاء اللائحة أو نصوص بعينها في وقت معين وتجاهلها في وقت آخر، أو إدخال تعديلات عليها خلسة دون أن يشعر بها أحد، أو إخفاء اللائحة وقصر تداولها على عدد محدود، أو تفسير النص بمعنى في وقت ثم بنقيضه في وقت آخر، فكل هذا يجعل الحديث عنها لغوا لا قيمة له.

الأزمة الأخيرة داخل جماعة الإخوان ليست أزمة لائحية، تتعلق باختلافات في تفسير نصوصها، وإن حاول البعض إلباسها هذا الثوب، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إنها معركة التغيير والإصلاح المؤجل داخل الجماعة، ربما كانت هناك مبررات لعدم فتح تلك المعركة عقب الانقلاب مباشرة، حيث كانت كل الجهود مركزة لمواجهة الانقلاب، أما الآن وبعد مرور ثماني سنوات عليه، وبعد تراجع الأداء السياسي والقانوني والإعلامي في مواجهته، فلم يعد هناك بد من التطوير والتغيير والإصلاح لإنقاذ السفينة الجانحة قبل غرقها بشكل كامل.
كانت كل الجهود مركزة لمواجهة الانقلاب، أما الآن وبعد مرور ثماني سنوات عليه، وبعد تراجع الأداء السياسي والقانوني والإعلامي في مواجهته، فلم يعد هناك بد من التطوير والتغيير والإصلاح لإنقاذ السفينة الجانحة قبل غرقها بشكل كامل

هنا بيت القصيد، فهذه الرغبة العارمة في التغيير والإصلاح ظهرت بقوة في انتخابات الإخوان في الأقطار التي يتمتعون فيها بقدر من الحرية سمح لهم بإجراء الانتخابات، وخاصة في تركيا (التي تمثل المركز الرئيسي الآن)، وهو ما لم يرق لفريق قاد الجماعة خلال السنوات السبع الماضية، فحشد كل أسلحته لمواجهة هذا التغيير ووأده، ومن تلك الأسلحة "اللائحة"، وهو ما دفع الطرف الآخر لتقنين إجراءاته أيضا بنصوص لائحية.

في دنيا السياسة فإن التغييرات الكبرى تشبه السيل الجارف، لا تستطيع منعها نصوص دستورية أو قانونية فما بالك باللائحية، وما بالك إذا كانت تلك النصوص مصممة للحفاظ على أوضاع معينة، ومانعة لحدوث التغيير بطريقة سلسلة وآمنة؟!

وفي دنيا السياسة أيضا هناك ما يسمى في القوانين نظرية الضرورة أو الاستثناء، وتتضمن الدساتير فصولا أو نصوصا تنظم هذه الحالة عند حدوثها، فتوقف العمل بقوانين أو لوائح أو نصوص معينة لبعض الوقت حتى انتهاء حالة الضرورة، وهو ما ينطبق على الأوضاع الحالية للجماعة التي أوصلتها إلى هذا التكلس، بينما لا تسعفها لوائحها الحالية لتحقيق الإصلاحات المطلوبة، بما يعنيه ذلك من تجاوز أي نصوص تقف عقبة أمام إرادة التغيير التي تموج بها القواعد الإخوانية، فما وضعت الدساتير والقوانين واللوائح إلا لخدمة الإرادة الشعبية وليس لتقييدها.

أزمة الإخوان هي أزمة كامنة في النفوس قبل النصوص، ولذلك فإن المعركة الجارية حاليا حول تفسيرات متباينة للائحة ولمدى انطباقها على ما تم من تغييرات أو خطوات هي معركة في غير ميدان، وهي محاولة لتسويق أوهام حول "المؤسسية"، وهي كلمة حق يراد بها باطل، فالمؤسسية التي تستدعى في هذه المعركة غابت كثيرا من قبل، واحتكرت صنع القرار داخل الجماعة مجموعة محدودة، وكأنها تنظيم داخل التنظيم، و"المؤسسية" عندها لها معان خاصة ليست بالضرورة هي المعاني الحقيقية لها.
أزمة الإخوان هي أزمة كامنة في النفوس قبل النصوص، ولذلك فإن المعركة الجارية حاليا حول تفسيرات متباينة للائحة ولمدى انطباقها على ما تم من تغييرات أو خطوات هي معركة في غير ميدان، وهي محاولة لتسويق أوهام حول "المؤسسية"، وهي كلمة حق يراد بها باطل

التمترس خلف نصوص لائحية فضفاضة، وحول موقف "مفترض" للإخوان داخل مصر - لا تطمئن نفوس الكثيرين لدقة نقله - وحول مصادر تمويل ليست ملكا لطرف بذاته، لمنع إصلاح وإنقاذ الجماعة، هو جريمة كبرى بحقها، وبحق أفرادها في الداخل والخارج والسجون والمنافي، وهو استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

حل أزمة الإخوان يستلزم إقرار الجميع بـ"الكارثة الحقيقية" التي تعيشها الجماعة، والتي تهدد بنهايتها، وما تتطلبه من علاجات قد تكون مرة، تبدأ بمراجعات سياسية وفكرية حقيقية تكشف الخلل، وتصلح المعوج، وتقدم رؤية جديدة للدين والدولة والمجتمع انطلاقا من ثوابتها التي ينبغي أيضا تحديدها بدقة. وهنا يلزم أن تبدأ مؤسسات الجماعة الفكرية والحركية هذه المراجعات، مستعينة بالخبراء والمختصين من أبنائها وأصدقائها، كما يلزم الجماعة إطلاق حوار داخلي حول صياغة لائحة جديدة"مؤقتة"، لتعكس الحالة التي يعيشها التنظيم وخاصة في المنافي الداخلية والخارجية وفي السجون، مع إحكام صياغتها، وتحديد آليات تطبيقها، وإتاحتها للجميع، فهي ليست من الأسرار الأمنية للجماعة، مع التوافق على شكل إدارة الجماعة في هذه الفترة الحرجة، وحتى ترتيب وضع القيادة المستقبلية وفق آليات آمنة.

ويبقى ملف لم الشمل والمصالحة الداخلية، واستعادة ثقة الشباب، وتطوير التحالفات مع الأصدقاء؛ من أهم الملفات التي ينبغي تسريع الجهود بشأنها، ومتابعة تنفيذها بشكل حثيث من نائب المرشد والهيئة العليا للجماعة، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

twitter.com/kotbelaraby