قضايا وآراء

قراءة في نظرية التغيير الحضاري عند مالك بن نبي

1300x600
شغلت قضية التغيير الاجتماعي والحضاري الفلاسفة والمفكرين على مدار العصور، منذ انتظام الإنسان في حياة اجتماعية تعتمد على فكرة الثبات واستيطان أماكن محددة، حيث بدأ الدخول في صراعات لتحسين أوضاعه المادية إما بتغيير أنظمة الحكم القبلية، أو تغيير ذاته بالتعلم واكتساب مهارات جديدة تضفي علي حياته البسيطة نوعا من مظاهر التحضر.

ومن أهم هؤلاء الفلاسفة في العصر الحديث كان المفكر الجزائري "مالك بن نبي" (1905- 1973)، والذي صنع مدرسة حضارية متفردة في المغرب العربي، تأثر فيها بشكل مباشر بمدرسة "ابن خلدون" في تونس (1332م(، والتي ارتكزت بدورها علي قاعدة هامة وهي أن "المجتمعات تهرم كما يهرم الأشخاص"، فهي كيان حي يولد ويكبر ويهرم ويموت.

وتتخذ أطوار النمو الإنساني من ضعف، ثم قوة، ثم انحدار سريع صوب النهاية. وقد استشهد ابن خلدون لإثبات نظريته بقول الحق سبحانه وتعالى: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ".

وإيمانا منه بهذه النظرية واستكمالا لها، وضع "ابن نبي" نظريته الخاصة بحتمية التغيير الحضاري، وقرر أن الدولة تمر بثلاثة مراحل رئيسية في تكوينها الأولي وهي:

- المرحلة الروحية
- المرحلة العقلية
- المرحلة الغريزية

واتخذ "مالك" الدولة الإسلامية منذ فجر الرسالة نسقا لتوضيح نظريته في مرحلية بناء الدول وفتوتها وانهيارها. ففي المرحلة الروحية يرى أنها تمثيل أولي لإشعاع الفكرة الدينية تلك التي تتمكن من النفوس فتبنيها بناء "مرصوصا". كما كان ذلك في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجماعته من الصحابة والخلفاء الراشدين، إذ أنه في ذلك العهد كانت الروح التي بدأت في غار حراء قد فعلت فعلتها في النفوس، وحين تنزلت الأوامر الربانية والشريعة السماوية كانت تنفذ فورا دون جدال أو استفسار، ودون حاجة لقوة تحمي تطبيقها إلا من القوة الإيمانية للنفس والمجتمع الحريص علي تنفيذها بموجب الدافع الداخلي والرقابة الذاتية.

ويحدد "مالك بن نبي" تلك المرحلة الروحية منذ بداية فجر الرسالة حتى معركة صفين، والتي كان يعتبرها الفصام الأول بين فعل الدين في النفوس، وما يجري على الألسنة، فيقول في كتابه "وجهة العالم الإسلامي": لقد هزت الحادثة نفسية المسلم لأول مرة في ضميره فبدا ما هو سياسي غير ما هو ديني. وهذا في نظره أول منعرج في تاريخ الحضارة الإسلامية.

ثم تنتقل الأمة كما يرى لمرحلة العقل وهي من وجهة نظره "تنازلا" نسبيا من عالم الروح لعالم العقل، فبعد الاعتماد الكلي على "القوة الإيمانية" تنتقل الدولة لعصر عنفوان وقوة مادية إلى جانب القوة الروحية، فتحث على العلم واكتساب أسباب القوة والانتشار في الأرض والريادة، فيمثل الإيمان الخالص المتكون في الذات لسنوات عديدة، محركا للعقل ودافعا له للعمل والانتاج والنجاح وتحقيق فكرة الاستخلاف في الأرض. وقد ظهرت جلية في الدولة العباسية التي شهدت ازدهارا غير عاديا عبر التاريخ، فتقدر قيمة الكتاب بوزنه من الذهب.

وأما عن مرحلة الغريزة، فتحدث حين تفقد الدولة عوامل ارتقائها، تفقد الدافع الإيماني لوجودها واستمرارها، سواء كان هذا الإيمان إيمانا بفكرة، أو إيمانا بوجود إله واحد، أو حتى إيمانا بالذات. فالإنسان في مكونه الفطري يحتاج لذلك المحرك بطبيعته، وأما الشخصية العربية فقد قرر مالك أنه لن ينصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

الدين مرجعية التغيير الحضاري عند مالك بن نبي

والتغيير عند مالك ليس مجرد تغيير عشوائي يحدث في فورة أو ثورة شعوبية لتغيير نظام أو وضع اقتصادي ما، وإنما يهدف التغيير لتكوين وبناء إنسان مؤهل لبناء حضاري متميز، يعتمد في منشئه على الإسلام قرآنا وسنة كمرجعية أساسية. والتاريخ يشهد بأن الرسالة بشقيها، أحدثت معجزة في شبه الجزيرة العربية في تكوين وجدان الرجل البدوي وسلوكه؛ من مجرد فرد يرعى الغنم إلى إنسان حضاري عالمي يهتم بأحداث بلاد ما وراء البحار، في أمة صحراوية تخشى الاقتراب من البحر، وتحولت كلمة "اقرأ" لانطلاقة ارتكز العالم عليها لعدة قرون ليبني عليها حضارته الحديثة.

فالمرجعية التاريخية والحضارية للدين كعامل أساسي في أي عملية تغيير مرتقب عند مالك، تمت اعتمادا على تجربة تاريخية واقعية أحدثت فارقا كبيرا في التاريخ الإنساني، بل وفتحت باب الأمل علي مصراعيه أمام الإنسانية بوجود معين لا ينضب، ونور لا ينقضي تستطيع الرجوع إليه كلما تاهت بها دروب المادية.

فالدين ليس مجرد شعيرة يؤديها "المؤمن" بين جدران أربعة، يخلع ذاته خارجها ليعود إليها بعد انقضاء عبادته، وإنما هو فاعل حضاري قادر على تشكيل وبناء وتكوين وتنمية الإنسان، كذلك هو قادر على تشكيل مجموعة القيم المجتمعية اللازمة لأي بناء مجتمعي لا تتعارض مع واقعه، وتتناغم بشكل ما مع فطرته ومع حركة الكون من حوله، فينتج من خلال ذلك التشكيل الإنسان القادر على خدمة الناس، والإنسان القادر على أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والقادر على أن يكف أذاه عن الغير، والقادر على أن يتكفل بغيره إن كان قادرا على مشاركته في جزء من ماله تحت فريضة الزكاة، بل ويحثه ويحببه في البذل أكثر تحت مسمى الصدقة، والإنسان الذي يحسن ويتقن ما يصنع، لأن الضمير الذاتي ينبع من رقابة سماوية.

من المسئول عن تحقيق معادلة التغيير

وفي نظرته الاستقصائية يحدد مالك العلاقة المثلى بين الفرد والمجتمع في مسئولية أحدهما تجاه الآخر لتحقيق معادلة التغيير المتزن، وانطلق فيها من حديث النبي صلي الله عليه وسلم: "مَثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".

فهي علاقة تبادلية بشكل كبير، الفرد جزء من المجتمع ومسئول منه، لكنه يؤثر في حركته بسلوكه وقيمه التي يحملها إيجابا وسلبا. فالفرد المستقيم الملتزم بالقانون المجتمعي والدستور الحاكم له، هو دافع وإضافة ايجابية، والفرد المنحرف فكرا وسلوكا هو عائق لتلك الحركة ومقيد لها، والمجتمع عبارة عن مجموع أفراده، لكنه المسئول الأول عن توفير الاحتياجات الحضارية الأولية لكل فرد فيه؛ من مسكن ملائم وتعليم نافع وصحة جيدة وأمن وأمان وعمل مناسب لميوله وقدراته.

فكل فرد إذن يحمل في ذاته هموم المجتمع كله، وهموم الأمة كلها هو مسئول عنها، كما هي مسئولة عنه، مجتمع لا يوصف بالاتكالية، وإنما التكافلية، الفرد فيه ليس جزيرة منعزلة عن مجموع مجتمعه وأمته، وإنما هو شخص وعضو فاعل فيها.

وبذلك تتميز مدرسة مالك بن نبي في مفاهيمها وأسسها الحضارية عن المدرسة الغربية الرأسمالية أو الشيوعية بالعامل الإنساني الذي يراعيه الإسلام في قوانينه وقيمه السماوية التي توازن بين الروح والمادة، والعدالة المطلقة وأهواء البشر.

الطريق إلى تكوين الأمة الحضارية

وبتحليل نظرية التغيير ومرجعيتها عند مالك بن نبي، نجد أنه بالرغم من منطقيتها نظريا، إلا أنها أغفلت الوسيلة لتحقيق مآربها في الوصول للمجتمع الأقرب للنسق المطروح وهو دولة المدينة المنورة. لم تجب على سؤال: "كيف يمكن الوصول لذلك المجتمع"، بقدر ما أجابت على سؤال: "ما هي صورة المجتمع".

ومن وجهة نظري أن المفكر الكبير كان حالما في تلك النقطة، بحيث أنه ظن أن مجرد مثالية وجمال صورة النسق المطروح تكفي لقبول الناس لها دون بذل ثمن الوصول إليها. نعم لقد مرت الأمة بنفس المراحل التي بني عليها نظريته المرحلية، ولكن كانت هناك وسائل تربوية وسياسية وجهادية للوصول إليها، فلم ينشأ الفرد دون جهد، ولم يتكون المجتمع دون تضحيات مالية وإنسانية، حضرت فيها التربية (بيت الأرقم)، كما حضر الجهاد في بداية نشأة الدولة والقتال غير المتكافئ ماديا بالحسابات البشرية المعروفة (غزوة بدر)، كما حضرت الاتفاقات وأبرمت المعاهدات لتخفيف عبء وتبعات الحروف عن دولة المدينة لالتقاط الأنفاس ونشر الدعوة (صلح الحديبية).

كان الإسلام "حقا" حمته "القوة الحكيمة"، القوة التي تحمي الإنسان دون أن تنتهك إنسانيته وتقيد حريته. ومن بين 120 ألف صحابي، لم يدفن بالمدينة المنورة أكثر من أربعين ألفا منهم رضوان الله عليهم، أي أن ما يقارب من الثمانين ألفا قد انطلقوا من الشرق إلى الغرب حاملين راية الإسلام.

إن الحقيقة التاريخية تؤكد أن التكوين يلزمه عمل شاق لا يتوقف على مدار الساعة، وأن كل مجتمع مثالي كانت خلفه نفوس بذلت حياتها في سبيل إقامته، وأن القعود وحده لا يبني إنسانا، فضلا عن دولة أو أمة.

رحم الله المفكر الكبير، ورحم رجلا حمل فكره واستكمل الطريق من بعده.