قضايا وآراء

أوراق "باندورا" وأوراق الربيع العربي

1300x600
تحالف الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين الذي فاجأ العالم أمس، بتحقيقه في ثروات زعماء وشخصيات عامة عالمية، شكّل بصيص أمل وتفاؤل في أن حلف فضول لا يزال ممكناً في عالم أفسده سياسيوه، ونخروه حتى العظم فساداً وقتلاً وتشريداً، حتى في مجال البيئة، بعد أن تحدثت تقارير بيئية بأن مناطق في هذا العالم  لن تعود صالحة للحياة البشرية بعد فترة من الزمن، نتيجة جشع السوق الليبرالية وطمعها ووحشيتها، وفقاً لوصف الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي.

600 صحافي وعلى امتداد جغرافي شمل 91 دولة من هذا العالم، ينحدرون من 150 مؤسسة إعلامية، بينها مؤسسات كبرى مثل "بي بي سي" والواشنطن بوست والغارديان واللوموند، كشفوا عن كمية هائلة من الأخبار والمعلومات وصل حجمها إلى 11.9 مليون ملف سري، مما وازى ما كشفته التحقيقات السابقة في عامي 2013 و2016، إذ وصل حجم الملفات الحالية إلى 2.94 تيرابايت، واستغرق العمل عليها 18 شهراً، ليتم نخلها وغربلتها، ولتكشف عن وجود أكثر من 100 بليونير في العالم، بينهم 35 من زعماء العالم، و300 مسؤول من الشخصيات العامة، وكذلك وزراء وضباط، ومسؤولو بلديات وفنانون، جمعهم التهرب الضريبي من بلادهم، فلجأوا إلى تأسيس شركات وهمية، في مناطق شكلت ملاذات آمنة لأموالهم المنهوبة والمسروقة من قوت الشعب، وكان من أبرز هذه الملاذات الآمنة دبي وبنما وموناكو وسويسرا، وغيرها من البلدان.
بعيداً عن تفاصيل التحقيقات والأوراق التي ما زلنا بانتظار تفاصيل نشرها، فإن الجَلَدَ الذي تحلّى به الصحافيون من دول عدة، يؤكد من جديد أهمية الصحافة الاستقصائية، ويبدد ربما نظرية بدأت تزحف على الإعلام والرأي العام عموماً، بأن الصحافة التقليدية لم يعد لها سوقٌ في ظل الإعلام الجديد

تصدّر القائمة الملك الأردني عبد الله الثاني، بشرائه لبيوت فخمة في أمريكا وبريطانيا قدرت قيمتها بـ106 مليون دولار، وإن كانت بي بي سي رأت أن هذه أمواله، لكن الجديد أنها حصلت في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من ضائقة اقتصادية، ومطالبات بشد الأحزمة. وركزت الأوراق على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبعض مسؤولي حكومته، ولا تزال الوثائق تنشر تفاصيل التحقيقات، كما تحدثت الأوراق حتى الآن عن رئيس الوزراء الباكستاني الحالي عمران خان، ورؤساء أفارقة، وكذلك رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير وآخرين.

وبعيداً عن تفاصيل التحقيقات والأوراق التي ما زلنا بانتظار تفاصيل نشرها، فإن الجَلَدَ الذي تحلّى به الصحافيون من دول عدة، يؤكد من جديد أهمية الصحافة الاستقصائية، ويبدد ربما نظرية بدأت تزحف على  الإعلام والرأي العام عموماً، بأن الصحافة التقليدية لم يعد لها سوقٌ في ظل الإعلام الجديد والمختصرات والتغريدات، والمنشورات القصيرة، وما صاحبه من عزْف الجمهور عن المطولات، لكن  الاهتمام الذي حظيت به هذه الأوراق والتحقيقات، أعاد من جديد الأهمية والاعتبار للصحافة بشكل عام، وللتحقيقات الاستقصائية بشكل خاص، وهو الأمر الذي ينبغي تطويره من قبل الإعلاميين، ليعيدوا الأهمية لمهنتهم ولأنفسهم أصحاب المهنة.

المؤسسات الإعلامية التي شاركت في هذه التحقيقات، لم تُعدْ الاعتبار للصحافة والتحقيقات الاستقصائية فحسب، وإنما أعادت الاعتبار لصحافة العمق التي ينبغي أن تقوم عليها الصحافة بشكل عام، لا صحافة التسطيح والتجهيل أو ما أطلق عليها صحافة الوجبات السريعة، ومن ثم أعادت التحقيقات الاعتبار لقيمة الإعلام والإعلامي، بعد أن خال نفسه إعلامياً وصحافياً كلُّ من حمل الكاميرا، أو أمسك بالقلم، أو ضغط على الكيبورد. ومع هذا يبقى الشوط طويلاً أمام مثل هذه الجهود، في ظل التخريب التي تعرّضت له الصحافة والإعلام بشكل عام، مما جعلها طرفاً سياسياً، لكن مثل هذه المحاولات ربما تنزع عنها تحزبها، وتسيّسها، وتجعلها صحافة تقديم الخبر الحقيقي بعيداً عن الرأي المؤدلج والمؤطر.
يمكن لصحافيين مهنيين جسورين وجلدين مؤيدين للربيع العربي، أن يطلقوا مبادرة كهذه تساعد في تخليص الشعوب العربية من الاحتلال والاستبداد، الذي يتجذّر أكثر فأكثر في دول كانت غاية شعوبها يوم انتفضت؛ أن تعيش بكرامة وإنسانية، كباقي الشعوب

لا بد أن يعود الصحافي إلى دوره وحيّزه ومجاله الحقيقي، وهو الكشف عن الخبر، والكشف عمّا يحصل ويجري، وأن يكون شعار المرحلة: "قليلٌ من الرأي وكثيرٌ  من الخبر". فمع انعدام المعلومة الصحيحة، يضيع المشاهد ويتيه، ويضيع القارئ ويضيع معهما السياسي الذي ينتظر الخبر الدقيق ليتخذ قراره وفقاً له، فاتخاذ القرار في غيبة من المعلومة سيورد الكل المهالك والمصائب، ويدفع ثمنه السياسي والجمهور والبلاد كلها.

لعل ما سمعناه من قبل عن هذا التحالف الدولي الاستقصائي في أوراق برادايس وأوراق بنما، يدفع الغيورين على الربيع العربي وثوراته لتشكيل تحالف صحافي مهني، يدعمهم في ذلك مفكرون غيورون ومحامون وقضاة وشخصيات عامة، لها اهتمامات بالربيع وحرية الشعوب، وذلك من أجل الكشف عمّا تعرّض له الربيع العربي، وما يتعرض له من مؤامرات وتصفيات. ويبدو لي اقتداءً بما فعله الاتحاد الدولي الاستقصائي، يمكن لصحافيين مهنيين جسورين وجلدين مؤيدين للربيع العربي، أن يطلقوا مبادرة كهذه تساعد في تخليص الشعوب العربية من الاحتلال والاستبداد، الذي يتجذّر أكثر فأكثر في دول كانت غاية شعوبها يوم انتفضت؛ أن تعيش بكرامة وإنسانية، كباقي الشعوب، ولكن الاحتلال الداخلي الوظيفي وبدعم من الاحتلال الخارجي اتفقا كجدار فولاذي في وجه طموحات وأشواق الشعوب.