قضايا وآراء

الرئيس الساكن في اللغة

1300x600

يعتبر الرئيس التونسي قيس سعيد ظاهرة بأتم معنى الكلمة في كل شؤونه ظاهرة بوجوه مختلفة تستحق الدرس.

في قدومه إلى السياسة هو ظاهرة من حيث قدومه من خارج المنظومة الحزبية التقليدية في كسر لكل نواميس العملية السياسية التقليدية المعاصرة في عالم عربي حديث عهد بتجارب الأحزاب  وبالديمقراطية على وجه الخصوص. وقد لا نبالغ إن قلنا أن القدوم إلى السياسة من خارج المنتظم التقليدي السائد ظاهرة نادرة حتى في المجتمعات العريقة في الديمقراطية التي تسمح للمواطن الفرد بهذه الإمكانية.
 
والرئيس التونسي كان كذلك في النشأة والظهور.. ثم كان ظاهرة من جهة ما يطرحه من مشروع  مناقض لسيرورة التاريخ، إذ يصر على أن النظام المجالسي والديمقراطية المباشرة هي الحل الأمثل لأمراض الإنسانية جمعاء.. 

لكن وجه "الظاهرة" فيه يبدو أبرز وأعقد في الوقت ذاته في علاقته باللغة فقد جاء الرجل باللغة وسكن فيها ولم يجاوزها وأنجز بها ودمر بها..
 
أما قدومه باللغة فقد برز من خلال اعتماده اللغة الفصحى بنبرة خاصة لم يمنع اختلالها النحوي والصرفي المتكرر من نفاذها إلى أذن المتلقي وتأثيرها فيه بسبب غرابتها عن السياق العام المتحدث بلسان دارج أو لغة أجنبية أو مزيج بينهما..

لم تكن لغة الرجل سليمة ولا سلسة لكنها كانت حدثا في مشهد خلو منها.. والحدث كان صادما سهل القدوم وجاوز عقبة التواصل الأولى فنسي الناس خلل النحو واهتموا بغرابة الظاهرة وانغمسوا فيها وترقبوا ما يكون من الرجل حتى كان ما كان..

سكن الرجل في اللغة وهذا وجه التعقيد الأبرز في الظاهرة قيس سعيد، فلم تعد اللغة أداة تواصل بل صارت أداة الفعل الذي لم يجاوز حدود التركيب النحوي للجملة المستعملة في مستوى ما يفترض أن ينجزه رئيس دولة طمع الناس في أن يغير لهم واقعا عجزوا عن تغييره، لكن وجه المفارقة هنا أن هذا الفعل اللغوي أو الإقامة الدائمة لقيس سعيد داخل اللغة لم تفقده أنصاره الذين لم يروا منجزا على الأرض.. 

 

لا يوغل الرئيس قيس سعيد في اللغة برفق، فهو يختار من ألفاظها الأشد والأقسى والأغرب ويترك لها الإثخان في جروح الجغرافيا التونسية بلا خارطة طريق إلى إشعار آخر كما قال هو يوما ذات خطاب تمديد لقفزته نحو المجهول.

 


عامان مرا على تولي قيس سعيد دفة الحكم في تونس وفي كل ظهور له ما ينفك يكرر الجملة نفسها بصيغ مختلفة متعددة كأنه لا يحسن غيرها.. هجوم على السياسيين وعلى النظام السياسي القائم وحرب شعواء على الفاسدين ووعيد بالويل والثبور لمن يستهدف قوت الشعب.. هكذا هي جملة الرئيس السياسية لكنها جملة لغوية صرف لم تنزل من قالبها اللغوي فلم يعتقل أي فاسد ولم ترجع أموال الشعب ولم يقدم الرئيس أي مشروع قانون قد يغير الوضع الذي مله الناس بل عطل كثيرا من مشاريع تهدف للتغيير فعلا وأوغل في حربه اللغوية على الجميع منتصبا للخطابة في مشهد سلطاني يمتشق فيه صولجانه ويجلس أمامه ضيوفه من السياسيين مستمعين بلا حول ولا قوة ولا حوار.. يوغل في اللغة تماما كما قال ذلك الأعرابي قديما أشبعتهم سبا وذهبوا بالإبل..

  
ذهب الفاسدون إلى حال سبيلهم بإبلهم أو تركوا في حال سبيلهم تتهددهم اللغة ويفعلون.. لكن الرئيس نجح باللغة التي يسكن داخلها ولا يغادرها في ترذيل المنظومة السياسية فلم يعد للديمقراطية قيمة رمزية لدى الناس مثلما كانت أول زمن الثورة.. وهو ما ساعده على خطوة تجميد المؤسسة الأبرز للديمقراطية مجلس النواب في الخامس والعشرين من تموز (يوليو) المنقضي تحت جناح الدستور الذي لم يسلم بدوره من القصف اللغوي لسعيد دون أن يقدم على تعليقه أو إلغاء العمل به.
 
لقد قتل سعيد السياسة باللغة وفي اللغة، فخطابه مفردات حربية لا تمت للسياسة بصلة صواريخ  ومنصاتها وحديد يقابل حديدا ووابل رصاص جاهز للقضاء على خصوم هم جراثيم وفيروسات مكانهم مجاري الصرف الصحي.. وإن اضاف لهم نعت السياسي لكنها إضافة بلا معنى، فدلالة فيروس مثلا تطغى على موصوفها إذا الحق بها، فذهن المتلقي لن يقف إلا على مدلولات فيروس ويترك "سياسي" لشأنه وقد قضى عليه وصفه بالفيروس..
 
صار السياسيون جراثيم فلم يبق أمام الناس والسلطة إلا استعمال المبيد، وهذا مستصغر الشرر.. 
 
واللغة عند سعيد أخرجت السياسة من عالم البشر والتدبير إلى عالم التعالي والقداسة التي لا تتجسد قيما عملية أو إنجازات فعلية أخلاقية في الواقع المعيش.. فالرجل يذكر دوما بأنه مشروع شهيد وأنه لا يخاف الا الله وأنه مسؤول أمام الله وأنه يراعي الله فقط وأنه يواجه منافقين ومتسترين بالدِين غير عاملين به ولا عالمين فيلقي في قلوب الناس موقفا دينيا من الساسة ويحتفظ بتقواه في اللغة وبالسياسة في علاها الاصطلاحي معزولة عن تدبير شؤون الناس وينفتح الواقع على الفراغ في اتجاه تطرف غير مقدور عليه ولا مضمون العواقب..
 
تخرج اللغة من فم الرجل منفجرة حادة تكشف حجم الغيظ تجاه المخاطب ولا تراعي مقام الكلام فهي في العيد نفسها في الحرب على الفساد.. لكنها تهدأ في مقام اللقاء مع الأجنبي، وهذا وجه آخر من وجوه  تعقيد الظاهرة.
 
يسكن الرئيس في اللغة وفي اللغة أيضًا يشبع التونسيون بمليارات المليارات التي يقول سعيد إنه اكتشفها عند فاسدين.. 

لا يوغل الرئيس قيس سعيد في اللغة برفق، فهو يختار من ألفاظها الأشد والأقسى والأغرب ويترك لها الإثخان في جروح الجغرافيا التونسية بلا خارطة طريق إلى إشعار آخر كما قال هو يوما ذات خطاب تمديد لقفزته نحو المجهول.

*إعلامي وباحث جامعي تونس