قضايا وآراء

لا لنسخة الدولة المدنية ونعم للدولة الديمقراطية.. لماذا؟!

1300x600
هل نحن العرب أمام نسخة معدلة للدولة الديمقراطية بعنوان الدولة المدنية؟ أليست الدولة الديمقراطية مدنية؟ أليس من حقنا أن نعتبره استبدالاً غير بريء، وأن لا نتقبل نظاماً سياسياً يخلو من قيمنا أو يُصيبها؟..

يبدو أن مصطلح الدولة المدنية هبط علينا نحن الدول العربية على وجه التخصيص، بينما لا أصول تاريخية لهذا المصطلح كعنوان لنظام سياسي لدولة ما. فأنظمة الحكم السائدة في هذا العالم تقع تحت عنواني الديمقراطية والشمولية، واللتين تأتيان بأشكال مختلفة ومعروفة تنهجها الدول أو الشعوب. ونحن كدول عربية نقع في شريحة الأنظمة الشمولية أو الديمقراطية السلطوية، أو الشمولية الطامحة للتحول للدولة الديمقراطية التي تُجسد دولة العدل والقانون النافذ على الجميع، والمواطنة الحقيقية بكل استحقاقاتها الممأسسة، وتقبل التعددية دون تمييز في الحقوق والواجبات والمكاسب على أساس من العرق أو الجنس أوالمعتقد، ولا تغول فيها لأكثرية على أقلية، بل ليس فيها أقلية أو أكثرية.

فنحن عندما نتكلم عن الدولة الديمقراطية فإنما نتكلم عن حزمة من تلك المضامين والقيم التي نرحب بها كجزء من قيم معتقدنا، والموجودة في صلب النظرية الديمقراطية والدولة الديمقراطية. ولا نجد سببا أو مبرراً لطمس مصطلح الديمقراطية بمصطلح جديد يُفصِّله أو يطرحه الغير علينا تحت مسمى "الدولة المدنية".

ونتساءل هنا: ما هو النقص الذي يعتري الدولة الديمقراطية لصالح الدولة المدنية المحكي عنها، أو الإضافة المطلوبة؟ أليست الدولة الديمقراطية مدنية؟ وإن كانتا مسميين لمضامين واحدة، فلماذا الاستبدال والتركيز عليه؟ أم أننا أمام نسخة معدلة للدولة الديمقراطية بعنوان الدولة المدنية تخصنا وحدنا؟ أليس من حقنا أن لا نبتلع وصفة بديلة عن أخرى مُستقرة ومعالمها واضحة أمامنا؟ أليس من حقنا أن نعتبره استبدالاً غير معزول عن هدف قد لا يكون بريئاً؟ وبالتالي أليس من حقنا أن لا نتقبل نظاماً سياسياً يخلو من قيمنا أو يُصيبها.

فتخصيص بلادنا العربية بإطلاق هذا المصطلح وخاصة في ظروفنا، والتركيز عليه في الأردن كقُطر مُستهدف بترابه وشعبه في سياق المشروع الصهيوني الاحتلالي لفلسطين، يقتضي منا التوقف عن قبوله، ووضعه في قفص الاتهام وقيد البحث عن تفسير له أو هدف.

وليس لنا في هذا المسعى إلا أن نلجأ لمدلولات المصطلح اللغوية وتعريف الشيء أو التعرف عليه من ضده، وننظر كذلك في مدلولاته التاريخية التي تؤشر عليه، وإلى القرينة السياسية. وبهذا أمامنا مفاهيم العسكرة، والتمدن، والدين. وكلها مفاهيم خاطبها وتعامل معها النظام الديمقراطي بعقلانية، وبحكم مبادئه، فهل إحداها هو المستهدف عندنا على وجه التخصيص؟ لنرَ.

نبدأ بالعسكر، ونقول إن حكم العسكر تاريخياً يُعبَّرُ عنه في داخل النظام الدكتاتوري، ولا وجود له في النظام الديمقراطي. ونقول إن متعهدي طرح مصطلح الدولة المدنية لا يؤشرون على الدولة العسكرية، ولا مبرر أصلاً أو منطقياً لاختصار النظام الدكتاتوري بالجزئية العسكرية، ولا أن نختصر النظام الديمقراطي بحكم المدنيين.

وأسمح لنفسي هنا بإضافة، هي أن متعهدي نشر مصطلح الدولة المدنية هم من صلب النظام الرأسمالي ومأجوري الغرب ومؤسساته، ويعلمون بأن القيادات السياسية العسكرية الدكتاتورية في الدول العربية تعمل في كنف وتحت رعاية دول ديمقراطية مُستعمِرة لنا، وتخوض حرباً ضد بذور الديمقراطية في بلادنا.

أمّا "التمدن" كنقيض للتخلف أو البدائية أو الهمجية، فلا أعتقد أيضا أن من المنطق أن يكون هو المستهدف من قبل مروجي مصطلح الدولة المدنية في بلادنا. فشعوبنا العربية في مقدمة شعوب العالم ثقافة وتعليماً، وتكتنز حضارة وفكرا وعلما وضَع الأساس وفتحَ الطريق لحضارة الغرب الحالية. والهمجية نراها في سلوك الصهيونية والرأسمالية الإمبريالية إزاء الآخر، فهي منتوجهم الذي يصدرونه للعالم ولنا أولاً.

بقي أمامنا "الدين" كمدلول سياسي يستخدم كضد أو مقابل للمدنية أو للقانون المدني، وهناك مؤشرات على أن هذا الدين هو المستهدف من استخدام وترويج مصطلح "الدولة المدنية"، بينما الأصل دخول البيوت من أبوابها المعروفة والابتعاد عن التسلل، والشبهات، وباستخدام المصطلح السياسي الدقيق والمتبع، وهو مصطلح "الدولة الديمقراطية" ونظام الحكم الديمقراطي، وليس المصطلحات الملتبسة.

ولعل أهم ما أثارني أن تتكلم الأوراق النقاشية الملكية عن الدولة المدنية، بينما تتجنب الحديث عن إخراجنا من الحكم الاستبدادي أولاً، والغوص بالملكية الدستورية الديمقراطية. أمَّا هذه المؤشرات التي تدلل على أن الإسلام هو المستهدف بمصطلح الدولة المدنية، فهي:

1- عانينا من حملة أوروبية "فكرية مزيفة"، وسياسية هادفة، ابتدأت بمقولة "صدام الحضارات" التي جاءت في مؤلفات. وهي مقولة تخفي خلفها المُصطلح الحقيقي المقصود، وهو "صدام الثقافات". والمستهدف هنا هو "الدين" كمكون أساسي في ثقافة العرب. وقد جسّدوا هذه الحملة على الأرض بوسيلة صنع الإرهاب ولصقه بالإسلام والمسلمين، والحرب عليهم. وسنمر على هذا في سياق البند التالي.

2- نتذكر جميعنا الضجة الأمروصهيونية التي انبثقت عن "الحرب على الإرهاب" باتجاه لوم ثقافتنا الإسلامية وتحميلها مسؤولية الفكر الإرهابي وممارساته، ونتذكر الضغوطات على أنظمتنا من أجل مراجعة المناهج المدرسية الدينية والتاريخية وتشكيل اللجان لهذه المهمة. وهنا، فإن كل مثقف أو متابع يعلم بأن الأمرو صهيوني هو صانع الإرهاب و"داعش" ومشايخها بالذات، وهو من دمر دولا عربية على نفقتها. ويعلم كذلك بأن العهد القديم الذي نحترمه من واقع احترامنا لمعتقدات الآخرين، يكتنز ماكينات تفريخ للإرهاب بما يتضمنه من عبارات التمييز العنصري وإنكاره للآخر ولحقه في الحياة إلا عبداً، ومن تحريض على التدمير والقتل بلا تمييز.

3- نتذكر بأنه قبل نشوء الأنظمة الديمقراطية في أوروبا، كانت الأنظمة الدكتاتورية من ملكية وإمبراطورية تتخذ من الدين ممثَّلاً بالكنيسة؛ وسيلة لا تناقش لإضفاء شرعية سماوية أو غيبية على حكم الدكتاتور للشعب. بمعنى كانت السلطة الدينية هي الحاكمه أو المؤثرة في الحكم، وليست السلطة الزمنية أو المدنية.

ومن هنا ربما استُنبِطَ مصطلح الدولة المدنية حديثاً على عجل مع تصاعد الإسلام السياسي والرغبة في الوصول للسلطة.. أقول استُنبط كوصفة لنا تطلقها جهات أجنبية بأفواه وأقلام محلية لتصطاد عصفورين بحجر واحد؛ الأول إفشال فكرة الديمقراطية بتجربتها الأولى في تونس ومصر وفرض خيار آخر علينا لطمس وسلب حقنا في وضعنا لخياراتنا، والثاني هو الاستهداف الناعم والمبرمج للإسلام والمسلمين.

وفيما سبق نقول بوضوح إن الإسلام رسخ القيم الإنسانية في إطار مفهوم الأمة، ومنها المشار إليها أعلاه، وترَك الحديث عن الدولة وشكل الدولة شورى لجمهور الناس كأمر سياسي واجتماعي يتعامل مع المتغيرات وتعددية المشارب والرؤى. ومع أن الديمقراطية قد تكون من صياغات تنفيذ الشورى، إلا أن للسياسة دنساً وفيها خداع وافتراس وأيدولوجيات تنأى عنها القيم الإسلامية والأخلاقية.

كما أنها عمل دولي مشترك له مساراته القانونية ومبادئه واتفاقياته وتفاهماته، نتعامل معها كمسلمين دون إقحام الدين في أدواتها، بل نبقيه على سموه ونقائه كمُلك للبشرية. ومن هنا لم يتخذ الضمير الإسلامي من مكة يوماً عاصمة ولا حتى من القدس؛ كمدينتين عربيتين تمثلان العنوان لقدسية ومقدسات الإسلام.

لكن، ونضع تحتها خطا، ليكن معلوماً بأن العبث بالدين أو بحرية المتدينين كحق أصيل للإنسان وعهد الروح والنفس الإنسانية مع الله جل في علاه؛ هو أمر دونه والشهادة. فكيف إذا كان المسلمون يُستَقْصَدون بالإساءة لدينهم وحقوقهم، ويُحرَّم على حكامهم إقامة الاعتبار للدين، بينما في أمريكا زعيمة الديمقراطية لا يُنصَّبُ رئيسها إلا في طقوس دينية. ودولة الكيان الصهيوني ودول الغرب الديمقراطية تحترم أحزابها الدينية وتدمجها في الحياة الديمقراطية، وبعض رؤسائها يعلنون عن حروب صليبية. بل إن الغرب كله والصهيونية اليهودية يستندان لسردية دينية منافية لخطاب العصر وقوانينه ومفاهيمه لاحتلال وطن وتشريد شعب، وما كان الوعد في كتابنا الكريم إلا عبرة للناس من سلوك الجاحدين للفضل ومن يسكن الكفر في قلوبهم، وقضت العبرة وطرها وباؤوا بغضب من الله.

وفي ختام هذا المُختصر، لا نلوم أعداءنا ولكن نلوم أبناء جلدتنا من الأردنيين المجتهدين بتسويق مصطلح الدولة المدنية على غير محمله، بعيدا عن مسألة التحول الديمقراطي والملكية الدستورية، متجاهلين بنيتنا السياسية والسيادية المُدَمرة، في وطن مستباح، وبمواطن فاقد لاعتباراته القانونية والإنسانية والنفسية، وبدولة مكبلة باتفاقيات استسلامية مذلة مع الصهيونية.

وبناءً على ما تقدم، فإني أهيب بكل عربي وأردني ومسلم أن يتجنب استخدام أو تقبّل مصطلح الدولة المدنية الملغم والملتبس، ويتمسك بالدولة الديمقراطية، والتي تحافظ على قيمنا وثقافتنا الدينية وتحميها.