قضايا وآراء

الانقلاب والانغلاب.. قيس سعيد والتمدد في الفراغ

1300x600
1- هل انقلب قيس سعيد على المسار الديمقراطي؟

الانقلاب عادة يكون ممن أبدى انسجاما مع مسار معين ثم ارتد عليه، وهنا علينا أن نراجع خطاب قيس سعيد الذي تقدم به للانتخابات الرئاسية في 2019 وخطاباته بعد توليه الرئاسة.

قيس سعيد لم يتكلم عن الديمقراطية ولا عن انتخابات، بل إنه يحمل رؤية أخرى للسياسة وللحكم، فلا يؤمن بالأحزاب ولا بالبرلمان ولا بانتخابات بطريقتها الحالية، ولا يفصل بين الشرعية والمشروعية، إنما يؤمن بحكم الشعب عن طريق مجالس محلية وانتخابات تقوم على الأفراد لا على القوائم الحزبية. وهو منذ توليه الرئاسة لم يخاطب البرلمان ولم يتحاور مع الأحزاب ولم يستشرها في اختياره رئيس حكومة إلا بطريقة مهينة؛ حين دعاها إلى وضع مقترحاتها في مكتب الضبط خارج بناية القصر، ولم تصادف اختياراته هو أي اسم من الأسماء المقترحة من كل الأحزاب.

قيس سعيد ظل يتكلم عن السياسيين والأحزاب والحكومة والنواب بصيغة "هم"، ويجعل بينه وبينهم مسافة بل وقطيعة حين يقول: "لست منهم وليسوا مني"، بل ولا يكف عن نعتهم بـ"المنافقين" و"الفاسدين"، ولم يتردد في إرسال تهديداته لهم صريحة واضحة وحادة حين قال: "اليوم صبرٌ وغدا أمر"، أو حين قال: "سنقاتل وننتصر"، والدستور عنده هو "ما يكتبه الشباب على الجدران".

لم يكن قيس سعيد وجها من وجوه حراك 2011 ولا أحد مُنظّري المسار الديمقراطي، رغم أنه المستفيد الأول من الديمقراطية ومن الدستور ومن الانتخابات؛ حين فاز في الدور الثاني لانتخابات 2019 بنسبة عالية جدا تجاوزت السبعين في المائة.
ما حدث بتونس هو حالة "غلبة" وقتية حققها قيس سعيد على رموز منظومة الحكم وعلى رأسها حركة النهضة. نحن بصدد معادلة حديّة: "انقلاب" قيس سعيد، أم "انغلاب" منظومة الحكم؟

ما أقدم عليه قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو، من تجميد للبرلمان وعزل لرئيس الحكومة ومحاولة السطو على النيابة العمومية - لولا تصدي القضاة ودفاعهم عن استقلاليتهم - يبدو منسجما جدا مع شخصيته وبنيته النفسية والذهنية، فقد كان واضحا في خطابه وفي عدم انسجامه مع فلسفة الحكم القائمة، ناهيك عن تعاليه الدائم عن السياسيين حكاما ومعارضين واتهامهم - في المطلق - بالفساد، وبعدم الاهتمام بالفقراء والمحرومين، وهي مفردات يشتغل عليها قيس سعيد كونه يتأسى - كما يقول - بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ولما كانت السياسة أداء وجدوى لا نوايا ووعودا، ولما كان التداول على السلطة في التاريخ الإسلامي قائما على الغلبة، فيمكننا القول بأن ما حدث بتونس هو حالة "غلبة" وقتية حققها قيس سعيد على رموز منظومة الحكم وعلى رأسها حركة النهضة. نحن بصدد معادلة حديّة: "انقلاب" قيس سعيد، أم "انغلاب" منظومة الحكم؟

ونقرأ لعالم الاجتماع التونسي عبد الرحمن بن خلدون: "إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر.. وتم عمران العالم بهم، فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض.. فيكون ذاك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك" (ابن خلدون في المقدمة: ص72).

2- هل كان قيس سعيد شعبويا؟

"الشعبوية" تيار عالمي طارئ لا يقوم على العقل ولا على الرؤية ولا على الحكمة، إنما يقوم على المغامرة وعلى الصدمات والاصطدام ومواجهة الكل، وهو نفس التيار الذي جاء بالرئيس الأمريكي السابق ترامب.. التيار الشعبوي يشتغل على الإثارة وعلى مهاجمة الجميع، وكأنه تيار طهوري يمتلك الحقيقة ويتفرد بالصدق والنقاوة ويتهم من سواه بالفساد.
دائرة المحاسبات كشفت عن أموال طائلة وثمة تسريبات عن حسن اشتغال بدعم خارجي على الفضاء الاجتماعي بمختلف منصاته، من فيسبوك وتويتر وغيرهما، لصناعة رأي عام وتشكيل مزاج شعبي ينجذب بكثافة - ودون معطيات علمية مقنعة - نحو المرشح المستقل أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد

قيس سعيد يقول إنه خاض حملته "التفسيرية" - وليس انتخابية - بقارورة ماء وفنجان قهوة، بلا معلقات ولا مهرجانات ولا احتفالات في النزل.. دائرة المحاسبات كشفت عن أموال طائلة وثمة تسريبات عن حسن اشتغال بدعم خارجي على الفضاء الاجتماعي بمختلف منصاته، من فيسبوك وتويتر وغيرهما، لصناعة رأي عام وتشكيل مزاج شعبي ينجذب بكثافة - ودون معطيات علمية مقنعة - نحو المرشح المستقل أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد.

الشعبويون يدركون أن الانتخابات ليست حسما نوعيا، إنما هي حسم كمي باعتبارها احتكاما للأغلبية. والأغلبية هي عادة ممن تقودهم العواطف والعصبيات والمصالح والخوف، وليس القناعات والمبادئ والقناعات، هذه الأغلبية هي نفسها التي جاءت بحركة النهضة في انتخابات 2011 وجعلتها دائما في صدارة المشهد، فلا يمكن لمن أسعدته تلك الأغلبية يومها أن يذمها حين تنتصر لقيس سعيد وتجعل منه رئيسا رغم حداثة عهده بالسياسة.

3- حركة النهضة: الاطمئنان للصناديق وإغفال بطون الناس

كنت كتبت في شهر حزيران/ يونيو: "الأستاذ راشد الغنوشي إما أن تحكم وإما أن تنسحب أنت وحزبك معتذرا قبل أن تخرجكم ثورة الجياع، سارِع بإعلان حكومة سياسية تتخذ قرارات سريعة وفعالة ضد الفقر والوباء والفساد بكل أشكاله وكل أسمائه. لماذا تنتظرون ما سيقرره سعيد وحلفاؤه وتتوجسون من انقلابات وتتبعون خيوط تسريبات وتضيعون وقتا على الناس وعلى تونس وعلى أنفسكم؟ أنت رئيس برلمان وعلاقاتك إقليميا ودوليا ممتدة، استثمر علاقاتك لخدمة الناس ولا تنتظر أحدا..

الناس لا يعنيهم أنك إسلامي ولا يعنيهم أن سعيد ضد الديمقراطية، الناس يعنيهم من يمهد لهم مسالك العيش ودفع الفقر وتشغيل أبنائهم وحماية كرامتهم وكرامة وطنهم. لم يعد مقنعا القول بأنكم تتعرضون لتعطيل وبأنكم حكمتم بوزير واحد، أنتم منتخبون لتحكموا وليس لتجلسوا في البرلمان تشرفون على مجالس الخصام والتهريج والاستعراضات الشعبوية.

عموم التونسيين وجمهور حركتكم ذاته ليسوا أرقاما في صناديق الاقتراع، بل مواطنون لهم إرادتهم وكرامتهم، ولهم حاجاتهم التي هي حقوقهم يرونها تسلب من بين أيديهم، ويرون من يبالغ في الترف والتبذير والتباهي بالمال والجاه والممتلكات. لن تشفع للمستكرشين هويتهم العقدية والحزبية حين يغضب الناس.. التونسيون عموما وفيهم جمهور النهضة يعتبرون معركة الهوية محسومة دستورا وواقعا، ويعتبرون الحرية واقعا ممارسا لا مطلبا يشتاقون إليه، ويعتبرون المعركة الحقيقية هي المعركة الاجتماعية وسينتصرون وينصرون من يخوضها معهم وبهم ولأجلهم. لقد افتتحتم الحملة الانتخابية في 2019 بكونكم تقودون معركة المستضعفين.

كل المؤشرات تؤكد أنكم أنتم تحديدا - أعني قيادات النهضة - على قائمة الاستهداف الشعبي بتوجيه وتحريض قد، بل ربما يجد له دليلا. إذا جاع الناس فلا مال لأحد ولن يحكم أحد، فاحكموا وادفعوا الجوع عن الناس والتهمة عنكم".

4- وعود الإسعاد وشبح الاستبداد

الذين خرجوا للشوارع يوم 25 تموز/ يوليو لم يكن لهم مشكل إيديولوجي مع حركة النهضة، والذين خرجوا مبتهجين بقرارات قيس سعيد ليلتها لا يطمحون في مناصب ومواقع، وإنما يأملون أن يحقق لهم رئيس الجمهورية قدرا من سعادتهم الاجتماعية في المعاش والصحة والشغل وانخفاض الأسعار.

تلك الطموحات قد لا تتحقق في أمد قريب بسبب صعوبة الظرف الاقتصادي، أيضا بسبب ما قد تجده الإجراءات الاستثنائية من استحالة التنزيل على الواقع في زمن يريده الناس قصيرا ويحتاجه الفعل طويلا. وإذا طال انتظار الناس فسيصابون بخيبة كما أصيبوا بها بعد أن رفعوا سقف أحلامهم عشية هروب ابن علي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، دون فهم للواقع ودون وعي بمفهوم الثورة ومقتضياتها، بل حتى دون تقدير لحرية فاضت عليهم بأكثر مما حلموا.

غير أن طيفا واسعا من المجتمع السياسي ومن المدونين والحقوقيين والإعلاميين يخشون أن ينزاح قيس سعيد بـ"الإجراءات الاستثنائية" نحو حكم استبدادي، ويخشون اشتغال غريزة الانتقام ممن عبروا عن مواقفهم مما حدث ومن سيرة قيس سعيد السياسية.
على حركة النهضة، وهي المستهدفة، ألا تخوض معركة الشرعية والدستور لوحدها كما خاضت معارك سابقة مع بورقيبة وابن علي، يجب تحميل المجتمع السياسي والمدني كله مسؤولية التصدي لأي محاولة تفرد بالسلطة وتعدّ على الحريات العامة والخاصة

ثمة ما يبرر تلك المخاوف بعد إعلان تجريد نواب البرلمان من الحصانة، وما تبعه من إيقاف بعضهم واستعجال فتح ملفات ضد بعضهم الآخر، وبعد تدخل في إدارة بعض وسائل الإعلام وخط تحريرها.

تلك المخاوف عبر عنها مختصون في القانون الدستوري وحقوقيون وإعلاميون وسياسيون؛ ممن اعتبروا ما حدث انقلابا مكتمل الأركان.

تعبير بعض الأطراف الخارجية مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي وحتى بعض جيران تونس عن "قلق" أو "انشغال"؛ لا يجب التعويل عليه ولا الدعوة إليه حفاظا على سيادتنا الوطنية وتعويلا على المجتمع المدني والمنظمات الوطنية في الدفاع عن تجربتنا وحريتنا. وهنا على حركة النهضة، وهي المستهدفة، ألا تخوض معركة الشرعية والدستور لوحدها كما خاضت معارك سابقة مع بورقيبة وابن علي، يجب تحميل المجتمع السياسي والمدني كله مسؤولية التصدي لأي محاولة تفرد بالسلطة وتعدّ على الحريات العامة والخاصة، وكذلك جعل الأولوية المطلقة لحل المشاكل الصحية والاجتماعية ضمن سياق تُحترم فيه الحقوق والحريات ويحرص فيه الجميع على السلم الأهلي.

twitter.com/bahriarfaoui1