كتاب عربي 21

من أجل الديمقراطية.. لا من أجل النهضة

1300x600
أحدثت القرارات التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد رجة قوية داخل تونس وخارجها، وكاد البعض أن يعتبرها كافية للقضاء نهائيا على هذه التجربة الديمقراطية الناشئة.

من حيث الشكل بدت وكأنها البيان رقم واحد ألقاه رئيس الجمهورية الذي كان محاطا بعدد من الجنرالات والقيادات الأمنية. أما من حيث المضمون فكان محتواها صاعقا، حيث تم تجميد البرلمان، وإقالة رئيس الحكومة، ورفع الحصانة عن جميع أعضاء المجلس النيابي، والإعلان عن تولي سعيد مهمة النيابة العمومية التابعة للمؤسسة القضائية. وعلى إثر ذلك تم نشر الجيش في محيط البرلمان، ومنع الحكومة من الانعقاد. كل هذه القرارات دفعت بالعديد من الأطراف إلى توصيف الحالة بأنها انقلاب على الشرعية، وتحويل النظام السياسي من نظام برلماني معدل إلى نظام رئاسي مطلق، يجمع فيه الرئيس كل السلطات ويتمتع بكامل الصلاحيات.

في ضوء ذلك، ماذا بقي من الثورة؟ وماذا بقي من الديمقراطية التي جسدت أهم إنجاز تحقق نسبيا خلال العشر سنوات الأخيرة؟ وماذا بقي من دستور 2014 الذي تضمن معظم الحقوق ونص على مختلف الحريات؟
في ضوء ذلك، ماذا بقي من الثورة؟ وماذا بقي من الديمقراطية التي جسدت أهم إنجاز تحقق نسبيا خلال العشر سنوات الأخيرة؟ وماذا بقي من دستور 2014 الذي تضمن معظم الحقوق ونص على مختلف الحريات؟

الغريب أنه بعد الإعلان عن ذلك تحركت جموع في مختلف الولايات للتهليل والترحيب بما حدث، في مظاهر احتفالية لافتة، وكأن هؤلاء التونسيين قد تجمعوا في تلك الليلة للاحتفال بإجهاض الديمقراطية، والترحيب بـ"المنقذ". فماذا حدث؟ وما الذي جعل عددا من التونسيين الذين سبق للعديد منهم أن أطاحوا بدكتاتورية ابن علي؛ يعبرون عن فرحهم في تلك الليلة بهذه الطريقة؟

الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس لم تحقق الكثير من وعودها، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. فالتونسي مثل غيره في مختلف شعوب الأرض يعطي الأولوية لقُوته، ويحلم بتحسين أوضاعه المعيشية، ويتعاطف مع كل من يحقق له جزءا من ذلك. لهذا عندما يقارن التونسي بين مرحلتي ما قبل الثورة وما بعدها، يكتشف أن أوضاعه تراجعت كثيرا، وأنه ماديا واجتماعيا فقد الكثير، ولم يربح سوى القليل. لهذا وجد المناهضون للثورة والمتعلقون بالماضي القريب فرصة لاستثمار هذه الحالة التراجعية للطعن في الثورة، وفي مصداقية الأحزاب التي تقدمت الصفوف وجادت بعشرات الوعود سواء خلال الحملات الانتخابية أو بعدها، دون أن تكون قادرة عمليا على تحقيق الحد الأدنى منها.

من بين هذه الأحزاب حركة النهضة التي اهتم بها خصومها، وتابعوها عن قرب، ورصدوا نقائصها، وفككوا تصريحات قادتها، وركزوا عليها بطريقة خاصة، ليحملوها في النهاية جميع المصائب ويعتبرونها المسؤولة كليا على خداع المواطنين، وسرقة أموالهم وأحلامهم. ومما زاد في ترسيخ ذلك الاعتقاد أن الحركة سعت دائما لتكون في مقدمة المشهد، واستعملت كل الوسائل حتى تبقى في الحكم أو قريبة من السلطة، ولهذا السبب تم اتهامها بالتغول وحملوها المسؤولية الكاملة لهذه الفشل الذريع.
من بين هذه الأحزاب حركة النهضة التي اهتم بها خصومها، وتابعوها عن قرب، ورصدوا نقائصها، وفككوا تصريحات قادتها، وركزوا عليها بطريقة خاصة، ليحملوها في النهاية جميع المصائب ويعتبرونها المسؤولة كليا على خداع المواطنين، وسرقة أموالهم وأحلامهم

هذه صورة حركة النهضة لدى جزء واسع من الرأي العام المحلي، وهي صورة استغلها الرئيس سعيد وأنصاره وحتى خصومه بشكل مكثف من أجل إضعافها وتدميرها سياسيا. بناء عليه، تعتبر الأجواء الاحتفالية بقرارات سعيد لا تدل فقط على تأييد له، وإنما أيضا هي تعبير عن رفض النهضة، وهو رفض يصل حد السقوط في "خطابات الكراهية".

الأهم في المشهد التونسي الراهن هو عدم الخلط بين المصير السياسي لحركة النهضة وبين المسألة الديمقراطية التي تبقى أكبر وأكثر أهمية من الحركات والأشخاص. فالمتضرر الرئيسي مما يجري حاليا في تونس وجود من يريد أن يضحي بالديمقراطية تحت غطاء التخلص من الإسلام السياسي، وهي مراوغة يجب الكف عنها والتحذير من الوقوع فيها. الديمقراطية تبقى الأساس، فهي التي تحدد قواعد اللعبة، ومن خلال المحافظة عليها وعلى مؤسساتها وأدواتها وقيمها يمكن أن تموت أحزاب وتيارات (وأشخاص)، أو تتجدد وتتطور. فالأحزاب والأفراد أجساد تتحرك، في حين أن الديمقراطية هي بمثابة الروح التي إن سكنت جسدا مكنته من القدرة على العطاء والبناء والتضامن وتغيير الواقع، وتحديد السلوك بين الأفراد والجماعات.
وجب التمييز بين الأهداف والمعارك، فما يجري في تونس يتجاوز قصة الانتصار لحزب على حزب او جماعة على جماعة، أي أن جوهر الصراع ليس الانتصار لحزب النهضة وإنما هو انتصار للديمقراطية. وهذا الأمر لم تفهمه للأسف كثير من النخب

في تونس الآن جهود تبذل من قبل أطراف متعددة، وبالأخص من نشطاء المجتمع المدني من أجل أن يعدل الرئيس من إجراءاته الصادمة على أرض الواقع، وذلك دفاعا عن الحريات والحقوق والمؤسسات والدستور والقانون. هؤلاء يسعون نحو الدفاع عن الحالة الديمقراطية التونسية باعتبارها الاستثناء الوحيد في البلاد العربية، وهو استثناء يجب أن يستمر ويصمد ويتغلب على الصعوبات والمؤامرات والارتجال والفقر، ليصبح مثالا يحتذى.

لهذا وجب التمييز بين الأهداف والمعارك، فما يجري في تونس يتجاوز قصة الانتصار لحزب على حزب أو جماعة على جماعة، أي أن جوهر الصراع ليس الانتصار لحزب النهضة وإنما هو انتصار للديمقراطية. وهذا الأمر لم تفهمه للأسف كثير من النخب التي لا تزال مستعدة في دول عربية كثيرة للتضحية بالحقوق والحريات من أجل تحقيق انتصار ظرفي على خصم سياسي!!