كتاب عربي 21

أزمة سياسية مصطنعة في تونس لكنها الكاشفة

1300x600
لم تكن تونس محتاجة أزمة إضافية فـ"ما فيها كان كافيها"، لكن هناك من رغب في المزيد. وقد جر البلد بلا سبب وجيه إلى شفير هاوية لا تتبين سبل النجاة منها، فالذي أحدث الأزمة لا يرغب في حلها وإلا ما كان أحدثها. نحاول هنا تصويب النظر إلى الأزمة المختلقة وما قد ينجز عنها لاحقا، ولن نزعم قدرتنا على توقع حل خارج المعجزة ولو أنها ستكون معجزة مصطنعة بدورها.

ليست أزمة فهم للدستور

القوانين السارية في البلد بما فيها الدستور ليست غامضة بحيث تؤدي الى تأويلات متناقضة. هناك مهام محددة بالدستور لكل مكونات الحكم (أو الرؤوس الثلاثة كما سادت التسمية منذ أرسي النظام الجديد). وقد سار الأمر بسلاسة منذ تكليف الرئيس للسيد المشيشي، وشكل الرجل حكومته وصادق البرلمان، وظننا أننا تجاوزنا العراقيل التي ظهرت مع حكومة الفخفاخ، فإذا عدد من الوزراء يتجاوزون عهدتهم فتم عزل بعضهم وسقط آخرون في قضايا فساد سيمثلون من جرائها أمام القضاء. وكان هذا سببا للتعديل الوزاري الأخير، لا شيء خارج عن مألوف الحكم في أعرق الديمقراطيات.
ما لم يُقل علنا وإن تتبعه المواطنون بانتباه هو أن التعديل اتجه إلى رفع يد الرئيس وفريقه عن الحكومة. بصيغة أخرى، إيقافهم عند حدهم الذي رسمه الدستور، وهذا هو السبب الحقيقي لغضب الرئيس

لكن ما لم يُقل علنا وإن تتبعه المواطنون بانتباه هو أن التعديل اتجه إلى رفع يد الرئيس وفريقه عن الحكومة. بصيغة أخرى، إيقافهم عند حدهم الذي رسمه الدستور، وهذا هو السبب الحقيقي لغضب الرئيس. لقد انكشفت نيته في التدخل في مجال عمل الحكومة ومراقبتها من الداخل، أي أن يجعل من رئيس الحكومة وزيرا أول في أفضل الحالات يأتمر بأوامر الرئيس وينفذ سياساته. لقد رفض المشيشي ذلك بل استقوى بألد خصوم الرئيس (حزب النهضة وحزب غريم الرئيس قلب تونس) ليتمرد عليه ويرسم له خطوطا حمراء. ولم يتقبل الرئيس ذلك، وأحدث الأزمة بذرائع لم يقدم عليها دليلا يرجح رأيه في الوزراء الذين اتهمهم بتضارب المصالح وليقنع الناس بهذا الرأي.

وكي لا تظهر المسألة كخصام حول التسيير اصطنع للأزمة غلافا من خلاف حول تأويل النص الدستوري، وذهب الرئيس في قراءة أحادية بأن أداء اليمين ليست جائزة دستوريا، فتوسع الخلاف بين الحكومة والبرلمان من جهة؛ والرئيس وأنصاره الجدد من ناحية أخرى.

وأجدني مضطرا لتوضيع قولي بالأنصار الجدد للرئيس. لقد حدثت هجرة جماعية إلى الرئيس فأصبح فجأة قائد تيار الحداثة والتقدمية، بعد أن كان داعشيا متخلفا وفي بعض الروايات زمن الحملة الانتخابية بيدق حزب النهضة في السباق الرئاسي.
حدثت هجرة جماعية إلى الرئيس فأصبح فجأة قائد تيار الحداثة والتقدمية، بعد أن كان داعشيا متخلفا وفي بعض الروايات زمن الحملة الانتخابية بيدق حزب النهضة في السباق الرئاسي

كل المثقفين الذين صوتوا لخصومه في الدور الأول، وخاصة أنصار المرشح الزبيدي، وزير دفاع بن علي، وصوتوا للقروي في الدور الثاني ضد قيس سعيد النهضوي الداعشي؛ صاروا الآن من أنصاره ويدفعونه إلى تصعيد الأزمة مع البرلمان ومع الحكومة. لقد تغيرت المعركة في الواقع من خلاف حول أمر شكلي إلى صراع استقطاب/ استئصال، على أمل أن يذهب فيه الرئيس حتى النهاية، ويبدو أنه يفعل ذلك بحماس ربما لم ينتظره أنصاره الجدد.

لسنا في أزمة تأويل نص دستوري ليكون واضحا، بل في فصل جديد من حروب الاستئصال التي يصب خراجها لصالح فرنسا وأنصارها في الداخل. (وجب الربط هنا مع زيارة الرئيس إلى فرنسا وتقبيله كتف رئيسها، ونفيه لاحقا أن يكون الاحتلال الفرنسي احتلالا وعدوانا وإنما هو عهد حماية قانوني). عودا على بدء إذن، كلما قلنا إننا خرجنا من حروب الاستئصال أضيف إليها موسم جديد.

لن يقف الأمر عند رفض قسم الوزراء

كيف ستحل الأزمة؟ لست قادرا على التوقع السليم، فالوسطاء والخيرون يسعون في حل دستوري ولكنهم يصطدمون بمزاج الرئيس الذي لا يعرف حدود حركته ولا نتائجها المتوقعة. (التسريبات عن الوساطات الأولى تؤكد فشلها) وقد وضع ضده كل أساتذته من فقهاء القانون الدستوري الذين أثبتوا عليه الجهل بالقانون، وحرموه امتياز التأويل الذي احتكره لنفسه باسم المنصب لا باسم الكفاءة العلمية والقانونية. (تصدر نصوص ساخرة الآن في السوشيال ميديا عن جهل الرئيس بالقانون الدستوري).

رفض الرئيس استقبال الوزراء في حفل القسم جعل رئيس البرلمان يصرح ولا يكتفي بالتلميح أنه يمكن المرور إلى وضع نظام برلماني بالقوة (أمر واقع)، وهذا يعني اتساع الشرخ بين الحكومة والرئيس. بحيث لن يكون ممكنا للحكومة أن تعمل مع الرئيس الذي يعتبرها غير دستورية. وكل نص قانوني تقترحه الحكومة ويصادق عليه البرلمان لن يحظى بإمضاء الرئيس فلا يصدر في الجريدة الرسمية، فتجد الحكومة نفسها عاطلة، إلا إذا اشتغلت بالمناشير الوزارية بما يربك علاقتها مع البرلمان.
رفض الرئيس استقبال الوزراء في حفل القسم جعل رئيس البرلمان يصرح ولا يكتفي بالتلميح أنه يمكن المرور إلى وضع نظام برلماني بالقوة (أمر واقع)، وهذا يعني اتساع الشرخ بين الحكومة والرئيس

هذا الوضع لا يمنح الرئيس صلاحيات حل الحكومة وإعادة التكليف، وهذا الحكومة يمكنها العمل مكتفية بالشرعية التي منحها إياها البرلمان. سيكون هناك خطابان يزعم كل منهما أنه الشرعي الدستوري. وكل المؤشرات تدل على أن الحكومة ذاهبة في هذا الاتجاه (ويسندها البرلمان)، ولن تسقط الوزراء الأربعة الذين قال عنهم الرئيس إنهم في وضعية فساد وتضارب مصالح؛ لأن أي تراجع أو مجاملة ستسقط اعتبار الحكومة وتفقدها شرعيتها أمام أنصارها وحزامها البرلماني الذي بلغ ثلثي البرلمان.

مؤشرات اتساع القطيعة تزداد، ودلائل عناد الرئيس أيضا.، والخروج الإعلامي الأخير لرئيس البرلمان تؤكد قيام حلف الحكومة مع البرلمان ضد الرئيس.

الحدود تتضح والمسؤوليات تحدَد، والجمهور العريض رغم قرفه من كل المشهد يتكلم بلسان فصيح. وعلى ألسنة الأغلبية سؤالان: من هذا الرئيس؟ وماذا يريد؟ أما حادثة التسمم فقد كشفت الكثير، ولأنها فضيحة كاملة فقد خجلنا من توضيحها، خاصة وقد صدقها السيسي.

البلد لم يعد يحتمل كل هذا العبث

لكن لا منتصر في الحقيقة، بل المنتصر هنا مهزوم أمام قضايا الشعب التونسي التي تتجاوز شكليات تأويل الدستور، ووحدهم أعداء الثورة الذين يعددون صور فشلها يضحكون في هذا المشهد القاتم الذي تنتعش فيه الفاشية. لقد صار البعض يتمنى قرصة أذن تأتي من الخارج لإلزام الرئيس، ولكن هذا الحل وإن حصل لن يزيد الأمر إلا سوءا لأنه العلامة الفاضحة على فقدان السيادة وكسر القرار الوطني.

لقد تحرك الشارع الغاضب ولم يسكته إلا تفطن شباب غاضب إلى الذين قفزوا إلى رأس التحرك لقطف ثمرته، فتراجع الشارع الحقيقي مؤقتا ولم تبق الا فئات خلطت مطالب الفقراء بمطالب تحرير تجارة المخدرات والحرية الجنسية. وهي مطالب تنتعش في مثل هذه الأزمات لأن أصحابها لا تمسهم الأزمات الاقتصادية، فهم ينزلون المظاهرات بكلابهم المدللة التي تأكل أكثر من عائلة تونسية متوسطة.

أزمة عميقة لكننا محّصنا الرئيس، وهذا مكسب ووضعنا علامات على المتظاهرين بكلابهم المدللة، ونظن رغم سوء الأحوال في الجملة أن غربال الثورة شغال، لقد سقط الرئيس ولن يسقط الدستور.