كتب

كيف يمكن التصدي لعلمانية "جديدة وزائفة" في فرنسا؟

جون بوبيرو يدعو لعدم تحويل اللائكية (العلمانية الفرنسية) من احتفاء بـالعقل إلى آلهة- (فيسبوك)

الكتاب: "العلمانية المزيفة"
المؤلف: جون بوبيرو
ترجمة: عبدالله المتوكل
الناشر: مركز نهوض للدراسات والنشر، 2020

 

 

عاد مفهوم العلمانية الفرنسية للبروز مجددا مع السياسات التي اتجهت إليها باريس في التعاطي مع الأقلية المسلمة، وطرح عدة أسئلة عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف نزوع اليمين الفرنسي إلى تشديد القيود على المؤسسات الإسلامية بما فيها المساجد والمدارس والمؤسسات الخيرية.

 

كتاب عالم الاجتماع الفرنسي جون بوبيرو الصادر في نسخته الفرنسية قبل ثمانية أعوام والمنقول إلى العربية نهاية العام الماضي، يرصد المنطلقات الفكرية التي تحدد من خلالها السلطات الفرنسية مفهومها للعلمانية.. 

 

ولقد كنا في "عربي21" قد نشرنا قراءة أولى لهذا الكتاب، قدمها الكاتب التونسي "سليم حكيمي"، ركز فيها على توظيف اليمين الفرنسي للعلمانية، وننشر اليوم قراءة جديدة لذات الكتاب للكاتبة الأردنية "عبير فؤاد"، تسلط فيها الضوء على النتائج الفعلية للاستخدام السياسي الخاطئ للعلمانية. 

 

 

ما الذي يحصل للعلمانية في فرنسا؟ ما الانحرافات التي أنتجت الوضع الراهن؟ وكيف يمكن استعادة المبادرة؟

هذه هي الأسئلة التي كثيرا ما طرحت على المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جون بوبيرو. وعبر تشخيص وتحليل "التوظيف" الحالي للعلمانية واقتراح آليات "لإعادة بناء دينامية علمانية"، يحاول بوبيرو الإجابة عنها في كتابه "العلمانية المزيفة"، الذي صدرت طبعته الأولى في العام 2012 وصدرت مؤخرا ترجمته العربية عن مركز نهوض للدراسات والنشر.

بوبيرو مدرّس لعلم الأديان، وهو مؤسس علم اجتماع العلمانية، وله نحو عشرين مؤلفا من بينها رواية تاريخية، وساهم في صياغة الإعلان الدولي حول العلمانية، الذي وقعه 250 باحثا من 30 دولة، وقد عمل مستشارا سياسيا للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران. لذلك كله فإن ملاحظاته حول محاولات ترسيخ مضمون "جديد" للعلمانية من قبل التيارات اليمينية، وما يتبع ذلك من تضييق على المسلمين في أوروبا وفي فرنسا بشكل خاص، تكتسب أهمية وحيوية استثنائية، سيما أنه عبر عنها أكثر من مرة برسائل علنية إلى القيادات السياسية. 

كما فعل عندما رد على مقالة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي نشرها في جريدة"لوموند" في أيلول من العام 2009، يخاطب فيها "مواطنيه المسلمين" مطالبا إياهم بتفادي "كل تباه وكل استفزاز" في إشارة إلى مآذن المساجد والصلاة في الساحات الخارجية، ليذكّره بالمواقف الإيجابية والمنفتحة لـ "آباء" العلمانية في فرنسا من بناء المساجد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية كافة، ما انعكس التزاما من الدولة بتقديم الدعم المالي لأصحابها الذي يضمن تحقق ذلك. 

وكما فعل مؤخرا في رسالته إلى الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، التي "يتوسل" فيها إليه ألا يسير على نهج ساركوزي واليمين بعدما عبر عن نيته اتخاذ مجموعة من الإجراءات تمس بشكل أساسي المسلمين في فرنسا. 

بوبيرو اتهم في رسالته هذه، التي نشر موقع "الجزيرة نت" مقاطع منها، الرئيس بالتناقض، بسبب "رغبته في حظر كل أشكال التعليم خارج المدرسة العمومية (التعليم المنزلي) من أجل حماية الأطفال من الفكر الانفصالي" مشيرا إلى أن فرنسا "سمحت منذ 1977 بتدريس بعض المواد لعدد من الطلاب في المدارس العمومية، على يد مدرّسين تدفع أجورهم حكومات أجنبية، وهو برنامج أثار الجدل وتمت المطالبة بمراجعته منذ 2003، لكن الرئيس لم يشر إليه بتاتا في سياق حديثه عن حظر التعليم المنزلي.. فالمسؤولون الفرنسيون لا يتحدثون عن قيم الجمهورية وخطر تقسيم الدولة إلا عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين والدين الإسلامي" بحسب بوبيرو. 

ويتوقف بوبيرو عند أمثلة أخرى من الإجرات الجديدة التي يعتقد أنها تكرس منهجا شموليا في فرنسا وتعمق الفجوة بين فئات المجتمع، كالقانون الجديد الخاص بالجمعيات الذي يلزمها باحترام مبادىء الجمهورية وقيمها معتبرا أنه "يخفي" الكثير من التفاصيل التي قد تشكل عقبة أمام ممارسة الكثير من الحريات، وكمشروع "توسيع نطاق التزام الحياد في الوظيفة العمومية" الذي يرى أنه سيمنع المسلمات من ارتداء الحجاب في أماكن العمل. 

ويلفت بوبيرو في رسالته إلى "ضرورة ألا تتحول اللائكية (العلمانية الفرنسية) من احتفاء بـالعقل إلى آلهة، وضرورة التحلي بالواقعية البراغماتية، واستخلاص الدروس من الماضي، إذ احتفظت فرنسا بالأعياد الكاثوليكية مع أنها اختارت فصل الدين عن الدولة". 

زعم باطل

يبدأ بوبيرو كتابه باستعراض مجموعة من الأحداث بين عامي 2010 و2011 يرى أنها غيرت وضعية العلمانية في فرنسا بشكل كبير. في هذه الفترة صعد نجم ماري لوبان التي قدمت نفسها باعتبارها"بطلة العلمانية" التي "ستنقذ" قانون 1905م الذي يفصل بين الديانات والدولة. يقول بوبيرو أن هذه الأحداث تبيّن "كيف نجحت زعيمة حزب الجبهة الوطنية في احتلال الحقل الإعلامي حول موضوعة العلمانية، وفي إنتاج معتقدات اجتماعية خاطئة".  

وبالإضافة إلى ذلك يشير إلى النقاش الذي نظمه حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية حول العلمانية والذي كان موجها ضد الإسلام، والذي رغم فشله أحدث انقساما في صفوف اليمين نفسه، وجاء تتويجا لتقرير أنجزه فرانسوا باروان، القيادي في حزب "الجمهوريون" يثني فيه على "علمانية جديدة غير متلائمة مع حقوق الإنسان"، علمانية يرى بوبيرو أنها تزعم" باطلا" الانتساب إلى علمانية 1905م لكنها في الحقيقة "علمانية مزيفة". 

ويتساءل: "ألا تصبح العلمانية التي كانت أداة سياسية، علامة على الانكماش الهوياتي وذريعة له لدى بعض القوى السياسية اليوم؟ ألا يستعيد اليمين المتصلب واليمين المتطرف، باسم العلمانية قوالب نمطية ضد الأجانب كان خصوم العلمانية بالأمس هم الذين يصدرونها؟".

 

هناك نوعان واضحان من أنصار العلمانية، يقول بوبيرو، الأول يتحرك في إطار الفهم الواعي لثقافة علمانية تاريخية، والثاني اختزالي وتضخيمي في آن واحد، يتناسب ارتباطه المعلن بالعلمانية مع عداء للإسلام والمهاجرين. 


ويبدو أن النوع الثاني هو الذي تم فرضه في الوقت الحالي بشكل واسع. وتزدهر اليوم "العلمانية الجديدة" أو "الزائفة" بسبب الخلط بين مفهومي العلمانية والدنيوة، يضيف بوبيرو، حيث تلعب ماري لوبين واليمين المتصلب على هذا الخلط بوضعهما الكثلكة مكونا للهوية الفرنسية، ما يسمح لهما باستبعاد هذه الديانة مما يطالب به اليهود والمسلمون، تحت غطاء العلمانية، من انخراط في الدنيوة. 

والاختلاف بين هذين المفهومين يمكن توضيحه بالرجوع إلى المعنيين المتباينين لعبارة "الدين مسألة خاصة". يقول: "العلمانية في معنى أول يقصد بها أن الدين ليس شأن الدولة، ولا مؤسسة عمومية أو سلطة يمكنها أن تقمع أو تعاقب، ولكل واحد أن يختار بنفسه ويرتبط بدين أو عقيدة كما يشاء. فالعلمانية هي الضامن للاختيار الإرادي والحر. 

أما التأكيد في المقابل على أن الدين لا يمكن أن يعاش إلا داخل الدائرة الخاصة بمعنى "الدائرة الحميمة" ورفض حق الفرد في إظهار معتقده الديني في الفضاء العام، وإرادة تحييد هذا الفضاء وإخلائه من كل تعبير ديني فهو خلط بين العلمانية والدنيوة"، والأهم من كل ذلك أنه لا ينبغي وضع قوة الدولة في خدمة معركة من هذا النوع. عدم الخلط هذا يراه بوبيرو شرطا من شروط مجابهة "العلمانية الزائفة" من قبل جبهة جمهورية يتمنى أن تضم طيفا واسعا من التيارات الفكرية والسياسية، ابتداء من الحزب الجديد المناهض للرأسماليةNPA إلى وسط اليمين، مرورا بأقصى اليسار وانتهاء باليمين الديغولي المناهض لكراهية الأجانب. مايريده بوبيرو هو حوار بين مختلف التصورات حول العلمانية، من دون أن يتخلى أي أحد كان عن قناعاته الخاصة، "فالخطأ في اختيار الخصوم يصب في مصلحة الأعداء الحقيقيين".

مقاومة الهيمنة

أمر آخر يجب أن تعمل عليه هذه "الجبهة" يتمثل في "فضح" الهيمنات القوية والتصدي لها. إن نقد المجتمع الشامل أولوية ضرورية حتى لا يتم اختزال معارضة الحركات المتطرفة في السخط الأخلاقي على المترفين والخاضعين لنظام التسويق والفرجة الإعلامية وسلطانهما، والراغبين في فرضه على الجميع، بحسب بوبيرو. لذلك فإن "الجبهة" المرتقبة ينبغي ألا تردد الحديث الممجوج عن "قيم الجمهورية" دون الالتفات إلى هيمنة القيم التجارية التي تُخضع قيم المعنى لقوانين فظة. ويتابع: حين يبدو الهامش الاجتماعي عنيفا في ردود فعله، فإن ذلك يتم ، في أغلب الأحوال، في إطار تفاعله مع هذه الهيمنة الكليانية.

يلفت بوبيرو إلى خطأ الخطاب الذي يروج لفكرة مفادها أنه بقدر ابتعاد المرء عن المعتقدات والشعائر الدينية بقدر ما يكون علمانيا. ويوضح أن هذا الخطاب يعززه الانطباع بوجود تنازعات بين العلمانية والعقائد الرسمية للأديان، وهذا غير صحيح، إلا في حال رغبت الأديان في فرض قواعدها على المجتمع بأسره. 

يقول: إنه من غير المناقض للعلمانية أن تطلب الأديان من معتنقيها عدم تبني أساليب عيش( محددة) شريطة عدم السعي إلى منعها على المجتمع برمته. لكن من جهة أخرى، فإن التجربة السوفيتية، ومواقف بعض الملاحدة في فرنسا، تذكرنا كذلك بأن ثمة أحيانا سعي إلى فرض نوع من إلحاد الدولة تحت غطاء العلمانية.