قضايا وآراء

الرد الصريح على خلفيات فتنة الترسيم في دستور التقسيم!

1300x600

لقد كان احتفال الجزائريين بعيد ثورتهم التحريرية الذي يصادف الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) هذا العام مختلفا عن سابقيه، ليس فقط لأن الجزائر تواجه مثلها مثل باقي دول العالم وباء كورونا المستجد، الذي لازال يفتك بأرواح الآلاف من بني البشر، ولكن لأن هذا العام يمر على الجزائر وهي بصدد تمرير مشروع دستورها (الجديد ـ القديم) المعدل الذي ستحكم الجزائر بموجبه مستقبلا إن قدر له أن يطبق على الرغم من أن أكثر من ثلاثة أرباع الجزائريين قد عارضوه بشدة لما يحمل في طياته من أخطار على وحدة الوطن (ترابا وشعبا) على غرار واقع العراق والسودان في العقدين الأخيرين..

وكما يذكر القراء الكرام أنني كنت واحدا من الذين حذروا في منشور سابق هنا، في "عربي21"، منذ شهور من عواقب بعض مواد مسودته عندما عرضت للنقاش في حينه. وما دامت لم تؤخذ بعين الاعتبار فسأتحدث عن خلفيات وحيثيات هذه الفتنة (الوطنية) بالتفصيل لكل المعنيين بشؤون وحدة الأمة (مشرقا ومغربا) من القراء ذوي العزم وأصحاب النفس الطويل الذين يهمهم وحدة المصير الذي تتمحور حوله كل مخططات الأعداء لاستكمال حلقات (سايس بيكو) إلى آخر مدياتها بالاستحلال من الداخل بنواب الفاعل بعد أن فشلوا في تحقيقها بالاحتلال العسكري المباشر المكشوف في الميدان والظاهر للعيان ..

وإن وكيلا أو عميلا واحدا للعدو داخل أو خلف الصفوف أخطر في الحرب من جيش عرمرم مكشوف!!؟

ازدواجية السيادة اللغوية

ومن أخطر المواد المثيرة للجدل في مشروع الدستور المذكور هي المادة الرابعة المتعلقة بازدواجية السيادة والهوية الوطنية المتمثلة في اعتماد لغتين وطنيين ورسميتين في آن واحد لشعب يقال إنه واحد وهو ما لا يستقيم على الإطلاق مع الخطاب المعلن لإللهاء والاستهلاك المحلي والمرحلي (لا وطنيا ولا سياسيا ولا اجتماعيا ولا تاريخيا ولا "نوفمبريا") في وطن دفع شعبه أغلى ثمن بوحدته المقدسة والمكرسة لقرون من أجل استرجاع سيادته المغتصبة من عدوه اللدود المتوارث والمتعاقب عليه  لعشرات العقود!!

ولتوضيح خلفيات كل ذلك نقول ماذا بعد ترسيم (تامازيغت)، كما هي موسومة في الدستور الجديد وهي حتى الآن غير مكتوبة بحرف موحد، وغير موحدة في الاستعمال، كلهجات محلية منذ عهد الملك ماسينيسا الذي لم يٌكتب بها حتى اسمه على ضريحه بمدينة الخروب بقسنطينة، فلأي منها سيكون الترسيم، وبأي منها سيبدأ هذا الترسيم؟

وهل يتم ذلك قبل التوحيد أو بعد التوحيد أم تبقى هكذا بلا توحيد وهو ما سينتهي إليه الأمر في راينا  بالتاكيد!؟

لأن ذلك هو ما يخطط له الاستحلال لتطبيقه منهجيا ومرحليا بعد أن كان مجمدا منذ وجوده في مواد  هذا الدستور ذاته الممرر بمحتواه الحالي دون استفتاء الشعب عليه سنة 2016!

الجواب في باريس

والجواب عند المعني بالأمر وهو صاحب هذه الفتنة المحضرة لنا هناك في فرنسا وعلى أرضها منذ سنوات، بناء على ما سبق أن فعلته في حرب الخليج الثانية باستصدارها للقانون الدولي المسوغ لحق التدخل في البلدان المستقلة عنها، لحماية أقلياتها (الدينية واللغوية والعرقية المستخلفة لها والموكلة عنها...).. مثلما فعلت في شمال العراق وسوريا.. لتصل اليوم إلى فردوسها المفقود الجزائر، وهو بيت القصيد والهدف الأساسي الذي ما انفكت تخطط له منذ أكثر من نصف قرن، لتحقيق وصية الرئيس الجنرال شارل ديغول، لخلفه من بعده، كما قال في كتابه (الأمل) الصادر سنة 1968 (ص49) وهو في الحكم عن استقلال الجزائريين بقوله حرفيا: "وهل هذا يعني أننا إذا تركناهم يحكمون أنفسهم، (يعني حكم ذاتي لانه لم يقل يستقلون!!) يترتب علينا التخلي عنهم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا"، فيجيب نفسه بقوله "قطعا لا"، ـ ويعلل ذلك النفي القاطع بإضافة شرح واضح دون اية مواربة قائلا: "فالواجب يقتضي منا مساعدتهم، لأنهم يتكلمون لغتنا ويتقاسمون معنا ثقافتنا"، وهي الفقرة التي ورد فيها قوله وفي الصفحة ذاتها "ستبقى الجزائر فرنسية" ونتساءل هل ستبقى الجزائر فرنسية بغير اللغة الفرنسية!؟

علما أنه هو المتنبي مع أهله لمقولة أن اللغة هي الجنسية وهي الهوية وهي مرآة السياسة وعنوان السيادة قولا وفعلا كما هي مطبقة عند كل خلفائه حتى هذه اللحظة بكل صرامة على أرضه وحتى من وراء بحره المتوسط سابقا !! 

 

من أخطر المواد المثيرة للجدل في مشروع الدستور المذكور هي المادة الرابعة المتعلقة بازدواجية السيادة والهوية الوطنية المتمثلة في اعتماد لغتين وطنيين ورسميتين في آن واحد لشعب يقال إنه واحد وهو ما لا يستقيم على الإطلاق مع الخطاب المعلن لإللهاء والاستهلاك المحلي والمرحلي

 


 
ومما يؤكد ذلك أنه قال أيضا أثناء المفاوضات العسيرة مع قادة الثورة في إفيان، عندما احتدم الصراع  حول الوحدة الترابية والشعبية للجزائر المستقلة، وخاصة حول إلحاح الوفد الفرنسي المفاوض (بتوجيه مباشر منه) على جعل اللغة الفرنسية، لغة رسمية في الجزائر المستقلة، فوجد رفضا شديدا وقاطعا من أبناء نوفمبر الحقيقيين، برئاسة ابن حزب الشعب الجزائري الموحد، بلقاسم كريم، وتوجيه من رئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خدة، كما قاله لي شخصيا ووثقه في كتابه عن مفاوضات إفيان وكذلك وزير خارجيته سعد دحلب في كتابه (مهمة منجزة) ليتركوا الدور والمسؤولية الٱن تقع على عاتق أغلبية الشعب الجزائري للمحافظة على هذا المكسب العظيم الذي يتناقض جوهريا مع الأهداف القريبة والبعيدة المنتظر تحقيقها من وراء هذه المادة (الوظيفية) المذكورة أعلاه والمقحمة بدهاء واحترافية فائقة في صلب الدستور الجديد (كمادة صماء) لغاية في نفس يعقوب الفرنسي وحده وأهله دون سواه كما سنبين للقراء الكرام لاحقا أولا بأول ضمن هذه السلسلة من المقالات التي سنلقي فيه الأضواء الكاشفة على جميع الجوانب والزوايا المظللة و(المضللة) في هذا الموضوع الجدلي المعقد محل التشريح والتوضيح بكل مايستحق من تبيان للجميع قصد إسقاط الحجة عن الجميع وتحميل كل واحد مسؤوليته أمام تاريخ الوطن ووطن التاريخ الذي لا يرحم أحدا من العلماء أو الجهلاء على حد سواء!؟

ونتيجة لذلك الرفض القاطع والصارم من الثوار على طاولة المفاوضات تحت دوي المدافع والطائرات  فقد استمرت الحرب بين جيش التحرير الوطني والعدو الفرنسي العسكري رفضا لمطلبه التقسيمي  (عزل الصحراء عن الشمال) والترسيمي لمسمار الاستحلال (اعتماد اللسان الفرنسي بعد الاستقلال) على غرار كل الدول الفرنكوفونية التي حصلت على استقلالها (الورقي) بفضل جهاد الجزائر ذاتها للاحتفاظ بها (فرنسية) لولا قادة الثورة الأمجاد الذين رفضوا ذلك التقسيم والترسيم وواصلوا الحرب لما يقارب السنة بكل ويلاتها وشهدائها وأنا شاهد على ذلك من قلب جيش التحرير الوطني بجبال جرجرة الشامخة حتى أذعن العدو لكل بنود بيان نوفمبر كاملة بالنسبة لبنود السيادة (وحدة التراب الوطني وهوية الشعب الواحد الذي قرر مصيره بالاستفتاء لصالح الاستقلال بعد شهور من مواصلة القتال من نيسان (أبريل) 1961 إلى آذار (مارس) 1962، من أجل كامل الوحدة الترابية والشعبية، وعدم قبول ترسيم الفرنسية في الدولة الجزائرية المستقلة حسب موكلي الشهداء الاوفياء...!؟

 

الاستحلال بدل الاستعمار

وأمام هذا التمسك المبدئي لأولئك القادة بكامل السيادة الوطنية (الترابية و للسانية) قال مفاوضهم  الجنرال ديغول حينها كلمته الشهيرة كرجل دولة وطني يدافع عن مصلحة بلده بصدق وإخلاص يحسد عليه، ولو كنت مكانه لحققت لوطني مثلما حقق هو لوطنه حيث قال: "لو يتعين علي أن أختار بين بترول الصحراء واللغة الفرنسية، لاخترت اللغة الفرنسية". 

وقد واصل خطته في الاستحلال ليحصل فيه وبه دون قتال ما عجز عنه هو وكل أسلافه، طوال عقود الاحتلال، حيث نرى خلفاءه الأوفياء اليوم هنا وهناك يحاولون أن يحصلوا عليه بالرشوة والتزوير للانتخاب من أجل تغيير دستور الشهداء (بيان نوفمبر) الذي عكسوا أهدافه راسا على عقب بتحقيق هذا الهدف الغالي لفرنسا كخطوة أولى لترسيم اللغة الفرنسية لاحقا تحت ذريعة توحيد الشعوب والقبائل (غير المتحدة،) كما ظلوا وما يزالون يخططون سرا وينفذون جهرا منذ غزوهم الغادر للجزائر سنة 1830.. 

 

هذا الدستور من أخطر هذه الطرق (الأخرى) التي تريد أن تحقق بها ما عجزت عن تحقيقه طوال قرنين من العمل المتواصل بالحرب والتدمير ثم بالانقلاب والتزوير!!؟؟

 



وهو ما أكده رئيس وزرائهم يوم 20 آذار (مارس) 1962 (أي في اليوم التالي لتوقيف القتال مع جيش التحرير الوطني الأصيل قبل السليل...) في خطابه أمام أعضاء المجلس الوطني الفرنسي يطمئنتهم فيه بقوله "ولئن توقفت الحرب هناك.... فإننا سنواصل ما بدأناه سنة 1830 بطرق آخرى!؟". وهذا الدستور من أخطر هذه الطرق (الأخرى) التي تريد أن تحقق بها ما عجزت عن تحقيقه طوال قرنين من العمل المتواصل بالحرب والتدمير ثم بالانقلاب والتزوير!!؟؟ 

وهو ما يجعل ترسيم ما يسمى "تامزيغت" في الدستور أمرا لا يعدو كونه ترسيما للغة الفرنسية كهدية وعربون وفاء للجنرال ديغول في قبره من ورثته الذين قصدهم بقوله أعلاه "ولئن تركناهم يحكمون أنفسهم فهل يعني ذلك إننا تتركم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا.....". وهو الذي فرض استفتاء تقرير المصير على قادة الثورة، فقبلوا مراهنين على وطنية الشعب الجزائري الذي لم يخذل الرجال أبدا وكانت النتيجة كما هو معلوم 97.5% (بنعم) لصالح الاستقلال عن فرنسا، وقد أذعن الجنرال لنتائج ذلك الانتخاب ولم يزورها أو يلغها مثلما فعل خفراؤه من بعده سنة 1992، وهو الإلغاء الذي أوصلنا اليوم إلى الغاء  الاستقلال السيادي ذاته بهذا الدستور الجديد الذي سيرسم الفرنسية المهيمنة اليوم في إدارة الدولة الجزائرية التي وفرت لها 11 مليون متمكن من استعمالها بشهادة سفير فرنسا في الجزائر السيد (بيرنار ايمي) سنة 2015 عند صدور النسخة الأولى من هذه المسودة المتطورة والمتجددة الآن من نفس الفاعلين والمفعول بهم. 

وتجدر الملاحظة هنا أن عدد المستعملين للغة الفرنسية هو أكبر من عدد كل الأميين المتعاملين باللهجات المحلية مجتمعين في الجزائر، بقطع النظر عن خطر هذا المشروع المدمر الذي يقسم الشعب الجزائري الواحد إلي شعبين (عربي وبربري) حسب قولهم في الدستور الجدي!!!؟

فما هي هذه اللغات الشفهية المحلية الجديرة بالترسيم والتعميم بدل اللسان الفرنسي المرسخ بالعمالة الممنهجة عبر السنين. أو اللسان الوطني القرآني العدو الأبدي الغريم للعدو الجديد القديم!؟ 

وبذلك سيتم لفرنسا تحطيم أو اغتصاب أغلى كنزٍ يمتلكه الشعب الجزائري وهو وحدته الوطنية بثوابتها المقدسة في بيان نوفمبر الخالد.. هذا البيان الدستوري الوحيد الذي استرجع الشعب الجزائري بتطبيقه الصارم (وبأغلى ثمن) هذا الاستقلال المتلاعب به الآن بدستور التغيير الجديد بعد تقرير المصير الأخير وهذه السيادة (الإسمية) للدولة الجزائرية (التي يتدخل وزير أجنبي في شؤون انتخاباتها الداخلية اليوم!!) ستصبح حتما عند تحقيق هذا الترسيم الدستوري المفتعل والمخطط له منذ توقيف القتال (كما أثبتنا ذلك  علميا في كتبنا الصادرة تباعا منذ نصف قرن في هذا الخصوص وهي :التعريب بين المبدأ والتطبيق / جهاد الجزائر / فرنسا والأطروحة البربرية / التعصب و الصراع العرقي والديني و اللغوي / الهوية الوطنية الحقائق والمغالطات / مصير وحدة الجزائر...! ؟) ستصبح الجزائر بهذا العمل المخطط له منذ عقود ولايات وطوائف غير متحدة لصالح سيادة اللغة الفرنسية وحدها في التعليم والإدارة مثلما هو حاصل في المغرب الشقيق بعد التخلي عن لعبة ترسيم (تامازيغت) منذ سنين لإلهاء الشعب وتضليله بكل تأكيد لتدشين العهد الفرنكوفوني القديم الجديد بكل سفور تحت غطاء (شرعية) الدستور شاهد الزور!؟

ونؤكد مرة أخرى للجميع أنه لا وحدة ولا سيادة وطنية دون سيادة لغوية عند العلماء كما هي عند الساسة الأصلاء في فرنسا وغير فرنسا ككل الدول المستقلة السيدة المعتبرة في عالم الأقوياء الذي لا يوجد فيه أي مكان للضغفاء والعملاء والوكلاء والبلداء المستفرد بهم بعد غياب أو تغييب وتحييد  وتشويه الشرفاء والأصلاء والنبهاء الشهداء منهم وغير الشهداء..