قضايا وآراء

في رثاء القيادي الإسلامي الجزائري عبد القادر بوخمخم

1300x600

"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"..
  
إن أول ما تبادر إلى ذهني لحظة  تلقي نبأ وفاة الزميل الرفيق السابق والصديق الودود اللاحق الأستاذ  عبد القادر بوخمخم رحمه الله في المجاهدين الأوفياء الصادقين الشرفاء والصالحين الأتقياء... قلت إن أول ما خطر ببالي هذه الآية الكريمة التي استهللت بها تلكم الكلمة الرمزية (العربونية) المسطرة على عجل في حق هذا الرجل الكبير والمجاهد الصامد في الصفوف الأولى للجهادين المتواصلين ضد الاحتلال المباشر  الأصغر  السابق ثم الاستحلال الأكبر والأخطر الماكر اللاحق دون انقطاع من أواخر  الخمسينيات إلى يوم الناس هذا... 

ومن خبرتي الطويلة للرجل الذي عرفته في مدرج الجامعة ومحراب الجامع  في الستينيات أيام ندوات أستاذنا مالك بن نبي والشيخ الشعراوي وفتحي عثمان وبديع الكسم وشكري فيصل رحمهم الله جميعا في السابقين.. ولم  نفترق عن بعضنا بعضا إلا أيام ابتلائه (اليوسفي) مع أعز رفاقه في السجن الذي كان أحب إليه مما كان يدعى إليه وأصحابه  من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فاستعصم وإياهم بإباء الرجال وشموخ الجبال...

ومنذ ذلك التعارف والتآلف أشهد أنني لم أختلف معه في أية نقطة تهم الوطن ومصير الأمة وكأننا مازلنا  نستلهم نور قلوبنا وغذاء أرواحنا من مشكاة واحدة مثلما كنا شبابا في صفوف جيش التحرير الوطني لا تتجاوز أعمارنا العقد الثاني من حياة الغرور (هو في الولاية التاريخية الثانية وأنا في الولاية التاريخية  الثالثة...)

لقد كان رحمه الله رجلا نوفمبريا قرآنيا يسير على الأرض سلوكا ناطقا وموقفا صادقا ومبادئ صلبة لا تتزعزع أمام العواصف الهوجاء العاتية والأمواج المتلاطمة العالية... مما جعلني أضعه بكل جدارة  واستحقاق في زمرة كل من أعرف من قادتنا الكبار الذين عاصرناهم ورافقناهم حتى آخر أيام حياتهم الفانية وودعناهم ثابتين إلى الدار الباقية كصديقنا المشترك الرئيس بن يوسف بن خدة. وعميد  المجاهدين العقداء سي ناصر (السعيد محمدي) وفقيه المجاهدين الأوفياء الصادقين والزاهدين الرائد إبراهيم مزهودي وأستاذنا القدير في السياسة والخبير في اللباقة والكياسة عبد الحميد مهري وغيرهم رحمهم  الله جميعا بعد أن زالت أجسامهم كبشر ولم يبق منها إلا الذكر الطيب والأثر الصامد  كالنقش  فوق الحجر!!....

فمن تلك العشرة الجهادية للفقيد طوال عقود ثم جواري له في سكنه الجديد ببرج الكيفان، حيث كنا نلتقي أسبوعيا عدة مرات حتى بعد وضعه تحت الإقامة شبه الجبرية في العقد الأخير من عمره كما هو معلوم!؟ 

 

كان رحمه الله رجلا نوفمبريا قرآنيا يسير على الأرض سلوكا ناطقا وموقفا صادقا ومبادئ صلبة لا تتزعزع أمام العواصف الهوجاء العاتية والأمواج المتلاطمة العالية... مما جعلني أضعه بكل جدارة واستحقاق في زمرة كل من أعرف من قادتنا الكبار الذين عاصرناهم ورافقناهم حتى آخر أيام حياتهم الفانية وودعناهم ثابتين إلى الدار الباقية

 



قلت بناء على تلك العشرة الطويلة كنت أضعه في عداد أولئك الرجال الأفذاذ القلائل المتبقين ممن  ذكرت وخبرت كشهداء أحياء غير مبدلين ولا مغيرين حتى أتاهم اليقين مما يبرر استحضاري العفوي لنص الآية الكريمة المذكورة التي استهللت بها هذه الأسطر العربونية أعلاه..!؟

لقد زاملت المرحوم في الجامعة منذ سنة  1968 كما اسلفت وبقينا على قلب رجل واحد ألى أن فرقتنا الجغرافيا (وليس التاريخ) في بداية مؤامرة (المروحة البوشناقية الثانية) في مطلع التسعينيات من القرن الماضي والبقية  معروفة  للجميع وهي مفصلة  بكل منعرجاتها ومنحنياتها الماساوية والخيانية المثبتة  في كتابه "للحقيقة والتاريخ"، الذي يحمل صورته الجسدية في شكله وروحه العقدية والوطنية في صلبه  ونصه...!؟  

وأحمد الله الذي وفقني أن أساعده على إصداره في سنة 2016 والذي يشهد هو على ذلك بقلمه في مقدمة الكتاب ذاته، وهي شهادة أعتز بها كعربون وفاء وصداقة في الله والوطن وأمانة الرفقاء الشهداء المحظوظين الذين سبقونا إلى رضوان ربهم، وهو أعلم بمن اختاره منهم لجواره في عليين وترك  بعض الشهود الأحياء مثلنا لاختبارهم بالفتن والمحن المتلاحقة عبر السنين وتوفيقهم في وصل الأولين بالآخرين.. ومن ذلك هذا الكتاب الشاهد (للحقيقة والتاريخ) الذي يتحدث فيه المرحوم عن كل جذور مأساة الجزائر من إرهاصات البداية إلى ما بعد النهاية الحالية من خلال تجربته الشخصية الثورية  كأبرز المثقفين المجاهدين (غير المندسين) في قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ... من الظهور إلى  التنظيم  والفوز الساحق في الانتخابات البلدية والوطنية قبل الانقلاب... إلى السجن ثم (خدعة القرن) المسماة حينها (بالمصالحة الوطنية) التي استخدم فيها الرجل بكل طيبة وحسن نية ( كمفعول به ونائب للتفاعل)..

 

لم تتضح خيوط تلك الخديعة والمؤامرة الماسونية الكبرى الظاهرة والخفية إلا في التتويج العلني الأخير  المتمثل في دستور (التغيير) الجذري السافر في تاريخ الجزائر الذي قلب القيم وبدل الذمم واستضعف  الهمم وعكس (لا) بـ (نعم!!) لإلغاء  نتائج تقرير المصير الأول والأخير الذي تم بنجاح ساحق رغم تنظيم الإدارة  وترصد الدبابة الفرنسية يومها دون حدوث أي تزوير يذكر بإشراف جيش التحرير  الوطني الوفي الأمين في 3 تموز (يوليو) سنة 1962 قبل شهرين فقط من أول انقلاب على إرادة  الشعب الشهيد  وبداية الانحراف المديد!

رحم الله الفقيد في المجاهدين الأوفياء الصادقين وألحقنا بهم أجمعين وألهم ذويه في العائلة الاجتماعية الصغرى والعائلة الوطنية الجهادية الكبرى... ألهمهم جميعا الصبر والسلوان وعوضهم بأحفاد من صلبه النقي الوفي السائر على نهجه القويم في السلسلة الذهبية للمجاهدين الأحياء المتوارثين للخير  والصلاح إلى يوم الدين. في هذا البلد  الأمين رغم تقلب  وانقلاب المرتدين و ظهور الخونة المندسين  وسقوط أقنعة المنافقين المغيرين لجلودهم (في الدنيا قبل الآخرة) في كل حين كالثعابين والحمد لله المدبر الحكيم رب العرش العظيم كاشف الضر ومحقق النصر لعباده المؤمنين كما وعدهم بعد التمحيص  لصدقهم وإخلاص نيتهم بفعلهم قبل قولهم مهما طالت ظالمية الجائرين واشتدت مظلومية الصابرين!!