قضايا وآراء

هل يمكن لهذه الحكومة أن تكون حكومة "الإصلاح"؟

1300x600
لفهم تعقد المشهد السياسي التونسي، سنبدأ من المفارقة التالية: حكومة يختار رئيس الجمهورية "الشخصية الأقدر" من خارج الترشيحات الحزبية، ثم يختار رئيس الوزراء المكلف (بتنسيق واضح مع القصر) أن يُشكّل حكومة "كفاءات مستقلة" هي في الحقيقة لا تملك من الكفاءة والاستقلالية إلا الدعوى، ولكنها تملك من الخزان البشري للمنظومة القديمة (وبعض ورثتها من المتحزبين) الكثير.

لقد أراد رئيس الجمهورية استثمار حالة الأزمة البرلمانية واهتراء مصداقية الأحزاب لتمرير حكومة يكون هو "الشخصية الأقدر" على التحكم فيها، بدءا من رئيس وزرائها (الذي سيتحول واقعيا إلى وزير أول) وانتهاء بباقي الوزراء الذين أكّدت بعض الوقائع أن قائمتهم من صنع رئاسة الجمهورية؛ أكثر مما هي خيار حر لرئيس الوزراء المكلف.

ولمّا كانت المفارقة المؤسسة لسياق تشكيل الحكومة جزءا من سيرورة مفارقات أصلية؛ انطلقت منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وهيمنت على مسار الانتقال الديمقراطي في استحقاقاته المختلفة (السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، فقد كان من الطبيعي أن نشهد ظهور مفارقة جديدة تمثلت في بروز خلافات عميقة بين رئيس الجمهورية و"الشخصية الأقدر" التي كلفها بتشكيل الحكومة. وهي خلافات دفعت بالحزب الأبرز في خندق الرئيس (حركة الشعب) إلى تغيير موقفه من الحكومة 180 درجة، إذ انتقل من الدعم المطلق إلى رفض تزكيتها في غضون بضعة أيام.

ولكن المفارقة الأعمق التي تكشف محدودية العقل السياسي عند الرئيس تبقى هي التالية: كيف يمكن أن تفرض على الأحزاب حكومة تؤكد إمكانية الاستغناء عنها في إدارة الشأن العام؟ أو كيف يمكن أن تضمن لهذه الحكومة حزاما سياسيا من خارج الأحزاب التي لم يخف الرئيس عداءه لها (خاصة حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة)؟

حسابات القصر وبيدر مجلس النواب و"الشخصية الأقدر"

لقد راهن الرئيس قيس سعيّد (قبل تصدع العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء المكلف) على حتمية تمرير هذه الحكومة أمام البرلمان المهدد بالحل في حال عدم منح الثقة لـ"حكومة الرئيس". وتشهد تركيبة الحكومة الجديدة على أن همّ الرئيس كان موجّها أساسا إلى ضمان ولاء "الإدارة العميقة" والاتحادَين (اتحاد العمال واتحاد الأعراف) لضمان أكثر ما يمكن من شروط نجاح عمل الحكومة. ولم يكن الرئيس يتوقع أن يتجه رئيس الحكومة المكلف إلى البحث عن "تحالف حقيقي" مع الأحزاب، فهو حسب تقدير الرئيس غير محوج إليه. ذلك أنّ لسان حال الرئيس كان يقول لـ"رئيس وزرائه" المكلف: سيمررون "حكومتي" رغم أنوفهم؛ لأنهم لن يخاطروا بانتخابات مبكرة تعطي للرئيس الحق الدستوري في إدارة المرحلة القادمة بالمراسيم مع مواصلة حكومة تصريف الأعمال القيام بمهامها لأشهر قادمة.

ولكنّ هشام المشيشي (رئيس الحكومة المكلف) كان يطمع في تمرير "حكومته" هو لا حكومة الرئيس، إذ يبدو أنه لم يستسغ وضع "الوزير الأول" فتوجّه إلى البحث عن أغلبية برلمانية تعيد إليه "نظريا" صفة "رئيس الوزراء"، رغم أنه واقعيا لن يستطيع ملء منصبه إلا بالتحرر (قدر المستطاع ) من إملاءات الرئاسة وأحزاب الحزام السياسي على حد سواء.

إننا أمام وضعية مفارقة لا يمكن أن نحمّل مسؤوليتها للرئيس قيس سعيد بمفرده. فهي محصول منطقي لجملة من المفارقات السابقة التي بدأت باعتماد منطق استمرارية الدولة (بالمعنى الذي فرضته المنظومة القديمة وحلفاؤها)، ثم استمرت بهيمنة السردية البورقيبية على الجمهورية الثانية، والانحراف بالصراع السياسي عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدارات ثقافوية هوياتية بائسة؛ مهّدت للعودة الظافرة للمنظومة القديمة بعد انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية.

فليس الرئيس قيس سعيّد إلا لبنة في بناء التناقضات والمفارقات، وقد لا يكون بالضرورة أخطرها أو أكثر قدرة على صناعة الأحداث وتوجيهها، رغم تضخم أناه وغلبة "أحادية الصوت" على خطابه وممارساته، ورغم تخليه عن أغلب وعوده الانتخابية، وتحوّله إلى "ظاهرة صوتية" صدامية لا تزيد المشهد السياسي إلا توترا وضبابية.

هل تمتلك هذه الحكومة مقومات النجاح؟

لعلّ ما يزيد من تشاؤم التونسيين من إمكانيات الخروج من المأزق السياسي الحالي (ومن انكماش فرضيات الاستثمار الخارجي في بلادنا)، هو استمرار نبرة التصادم وعبارات "التنافي" ومفردات "الحرب الوجودية"، وغياب إمكانيات التلاقي والتعاون بين رئيس الجمهورية وبين الحزام السياسي المشكل لحكومته "المعدّلة" (بعد تمرد رئيس الوزاء المكلف).

ولعلّ ما يؤكد ذلك كلمة الرئيس عند إشرافه على أداء الحكومة الجديدة القسم. فالرئيس قد أوجد "مفارقة" جديدة لا يبدو أنها ستساعد على تجاوز الأزمة الحالية. فهو يؤكد أنه هو من اختار رئيسها، ولكنها ليست حكومة الحزام الحزبي الذي منحها الثقة (رغم إقرار الرئيس بأن الحكومة ليست مسؤولة أمامه بل أمام البرلمان).

ولكن، كيف سيتعاون الرئيس مع هذه الحكومة دون حزامها السياسي الذي لم يدّخر جهدا في ترصيف كل النقائص لوصفه (الغدر، الخيانة، العمالة للخارج، الكذب، الجهل.. الخ.. الخ)؟ وكيف يمكن لرئيس الحكومة ألاّ يتحول إلى "وزير أول" وأن يستمر في منصبه (فضلا عن تمرير إصلاحاته الموعودة) إذا تعاون مع رئاسة الجمهورية بمنطق تهميش الأحزاب المشكّلة للحزام السياسي لحكومته؟ وما هو أفق "الإصلاح" السياسي والاقتصادي إذا تواصلت خطابات "التنافي" و"التخوين" و"أحادية الصوت" و"الثنائيات اللامتكافئة" (خطابات المانوية السياسية المتمركزة على الذات) سواء صدرت عن رئاسة الجمهورية أم عن خصومها السياسيين، خاصة أحزاب الحزام السياسي للحكومة؟

إنها أسئلة لا يبدو أن النخبة المهيمنة على إدارة الشأن العام (برئاستها وبرلمانها ومنظماتها) مشغولة بتجاوز شروطها الموضوعية والنفسية والفكرية، بقدر ما هي مشغولة بترسيخها رغم كل ادعاءاتها الوطنية والإصلاحية.

twitter.com/adel_arabi21