تقارير

الفلسطينيون من رواد صناعة الترجمة والتواصل الحضاري

أعلام فلسطينيون أثروا المكتبة العربية بإبداعاتهم وبكتب مترجمة من لغات أجنبية إلى العربية (عربي21)

تعتبر عملية الترجمة أداة للتواصل الحضاري بين الأمم والشعوب؛ وهي وسيلة للإطلالة على ثقافات الشعوب والاستفادة منها في مجالات العلم والمعرفة والفن والعمارة، وغير ذلك من صنوف الإبداع الإنساني بشكل عام. وفي هذا السياق أسهم الشعب الفلسطيني بنصيب لا بأس به في حركة الترجمة عن لغات مختلفة. 

وقد أشارت موسوعة الترجمة الصادرة عام 1982 في قسمها الأول إلى أن حركة الترجمة في فلسطين قد بدأت منذ عام 1860 ميلادي؛ ومن بين الترجمات المهمة في ذلك التاريخ ما قام به يوسف دباس اليافي حول كتاب "مرشد الأولاد" لفرنسيسكو سوافيواس. وأخذ هذا النشاط يتقدم بتقدم المجتمع الفلسطيني في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على الرغم من المعوقات الاستعمارية الاحتلالية.

الترجمة عن الروسية والألمانية بدايةً


نشأ مناخ ملائم لجهة تطور حركة الترجمة، حيث أخذت الصحف والمجلات بالظهور في المدن الفلسطينية المختلفة منذ وقت مبكر، ومن بين تلك المجلات، مجلة "النفائس العصرية" لخليل بيدس الذي بذل جهدا كبيرا في الترجمة عن اللغة الروسية ،التي نقل عنها أربعة كتب بين سنتي 1898 و1899، فضلا عن ستة كتب بين عامي 1908 و1919، هذا إلى جانب كثير من الروايات القصيرة التي كان ينشرها في أعداد مجلته. 

وبرزت أسماء جديدة في إطار حركة الترجمة عن الروسية جنبا إلى جنب مع خليل بيدس، مثل أنطوان بلّان أحد مدرسي المدرسة الروسية في الناصرة، الذي ترجم رواية "سبيل الحب" عن الروسية عام 1912، وحكايات قصيرة منها "سياحة في عالم الخيال" و"خواطر من طريق الخيال" لتولستوي وغيرها. وبرزت أسماء أخرى مثل لطف الله الخوري الصراف والسيدة كلثوم العودة وفارس نقولا مدور وعبدالكريم سمعان. 

وكما كانت مجلة "النفائس العصرية" بيئة نشطة لحركة الترجمة عن اللغة الروسية في فلسطين بسبب ثقافة مؤسسها وبعض رفاقه، كانت مدرسة "سيمنار" الروسية للطلاب في الناصرة ومدرسة "سيمنار" الروسية للطالبات في بيت جالا في الضفة الغربية، بيئتين نشطتين في ميدان الترجمة عن اللغة الروسية أيضا، إذ ترجم بعض الطلاب في المدرستين المذكورتين حكايات عن الروسية ونشروها في مجلة النفائس.

 

ومن الذين ترجموا بكثرة عن الروسية سليم قبعين ونجاتي صدقي. فقد كان لقبعين نشاط خصب في الصحافة المصرية، وشارك في إنشاء بعض الصحف في مصر، وعرَّف القارئ العربي بكتّاب روس مثل ترغنيف وبوشكين ومكسيم غوركي وتولستوي وغيرهم، ومن أهم ترجماته للصحف المصرية عن الروسية "أنشودة الحكم" لترغنيف، إضافة إلى كتب متنوعة أخرى. ومن جهته ترجم صدقي أمهات الكتب الروسية إلى العربية، فنشر في سلسلة "اقرأ" في عام 1945 أعمالا عدة للشاعر الروسي بوشكين. 

ولم تنحصر آثار مجلة "النفائس العصرية" في إتاحة الترجمة عن اللغة الروسية فقط، بل تعدت آثارها ذلك، إذ نقل العديد من الحكايات والقصص الألمانية إلى العربية ونشرها على صفحات المجلة المذكورة. فقد ترجم جبران مطر عددا لا بأس به من القصص والحكايات الألمانية إلى العربية، وشارك في النقل عن الألمانية بندلي الجوزي وإلياس نصر الله، الذي ترجم رواية "ناثان الحكيم" للكاتب الألماني لسنغ وطبعها في مطبعة الأيتام في القدس.

الترجمة عن لغات أخرى

لم ينحصر نشاط الترجمة في فلسطين في ترجمات أدبية عن الروسية والألمانية فقط؛ بل أتاحت الظروف للطائفة الارثوذكسية في القدس للاتصال باللغة اليونانية، وكان لجورجي زيدان حنا السكسك جهد في هذا الميدان. وترجم توفيق اليازجي من مدينة يافا قصيدة مهمة للشاعر اليوناني يوانس بوليتي. فضلا عن ذلك كان من الطبيعي اتصال فلسطين باللغة التركية، فترجم عبدالله مخلص كتاب نامق كمال "سيرة الفاتح السلطان محمد الثاني" بعربية صافية، وترجم حسن صدقي الدجاني رواية "حذار" الاجتماعية عن التركية، في حين نقل عارف العزوفي إلى العربية "ترانتا بايو، من رسائل شاب حبشي إلى زوجته" وهي للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت.

ولم تقتصر حركة الترجمة في فلسطين على الألمانية والروسية واليونانية والتركية، بل عرفت فلسطين نشاط ترجمة عن اللغة الفرنسية أيضا، فترجم عادل زعيتر بحثا مطولا لماكس نوردو بعنوان "روح القومية" ونقل إسحاق موسى الحسيني والأب أسطفان سالم الفرنسيسي كتاب "فن إنشاء الشعر العربي" وطبعاه في مطبعة الآباء الفرنسيين في القدس عام 1945. 

ولعل من طليعة المترجمين الأصلاء عن اللغة الفرنسية عادل زعيتر الذي يعتبر من أعلام النهضة العربية في شكل عام، إذ ترجم عن الفرنسية ما يزيد على سبعة وثلاثين كتابا من أمهات الكتب في الثقافة الفرنسية، وذلك بلغة عربية صافية جدا وناصعة. 

أما حركة الترجمة عن الإنجليزية، فكان لها النصيب الأكبر، بسبب الاستعمار البريطاني المباشر لفلسطين في عام 1920. وبرزت عشرات الأسماء في مجال الترجمة عن الإنجليزية في فلسطين، ومن المبكرين في الترجمة عن الإنجليزية في فلسطين إبراهيم حنا وروز حسون وبولس صدقي من مدينة القدس. كما عرفت أسماء وأعلام فلسطينية كثيرة في مجال الترجمة عن الإنجليزية، وفي المقدمة منهم خيري حماد الذي ترجم أكثر من خمسين كتابا عن الإنجليزية والفرنسية تراوحت بين الأدب والفلسفة والاستشراق والاقتصاد. 

وبعد نكبة عام 1948 واحتلال القسم الأكبر من مساحة فلسطين وطرد أكثر من (60) في المائة من مجموع الشعب الفلسطيني؛ وتشتت طاقاته، تراجعت حركة الترجمة بسب الاحتلال الصهيوني وسياساته العنصرية التهويدية لمناحي الحياة كافة، التي مازلنا نشهد فصولها عبر إصدار رزمة قوانين عنصرية، والتي كان أخطرها "قانون القومية ".

حركة الترجمة بعد النكبة 

رغم التشتت الفلسطيني بعد النكبة الكبرى في عام 1948 مرورا بنكسة 67 واحتلال باقي الأراضي الفلسطينية، لم تتوقف حركة الترجمة بين الأقلية العربية داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنها تراجعت بشكل ملحوظ. 

في مقابل ذلك، برزت أسماء فلسطينية كثيرة في المهاجر الفلسطينية القريبة والبعيدة، نشطت إلى حد كبير في عملية الترجمة عن الإنجليزية، ومنهم الكاتب الراحل ناجي علوش، ونقولا زيادة وإبراهيم مطر وجبرا إبراهيم جبرا وعمر يمق وبكر عباس والشاعر الراحل إحسان عباس. 

 

بعد نكبة عام 1948 واحتلال القسم الأكبر من مساحة فلسطين وطرد أكثر من (60) في المائة من مجموع الشعب الفلسطيني؛ وتشتت طاقاته، تراجعت حركة الترجمة بسب الاحتلال الصهيوني وسياساته العنصرية التهويدية لمناحي الحياة كافة، التي مازلنا نشهد فصولها عبر إصدار رزمة قوانين عنصرية، والتي كان أخطرها "قانون القومية "

 



واللافت أن حركة الترجمة أخذت بالتطور السريع، بخاصة بعد أن قصد الآلاف من الشبان الفلسطينيين خلال العقود السبعة الماضية قارات العالم المختلفة للدراسة في جامعات الدول المختلفة، وحصلوا على شهادات وخبرات، ومن ثم لغات وثقافات متعددة، وأخذوا ينقلون إلى المنطقة العربية وفلسطين ثقافاتهم المكتسبة بفعل الدراسة وبلغات عدة، الأمر الذي أعطى دفعة جديدة لحركة الترجمة في فلسطين والوطن العربي. 

واللافت أيضا، ظهور مطابع ودور نشر في العديد من الدول العربية اهتمت إلى حد كبير بالطباعة والترجمة، كما ظهرت مراكز بحث ومؤسسات بحثية، وكانت وماتزال ذات طابع فلسطيني سواء من ناحية الإدارة والإشراف، أو من ناحية الاهتمام بالترجمات الخاصة بفلسطين وقضيتها، مثل المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1969 في بيروت، وكذلك مؤسسة الدراسات الفلسطينية خلال عام 1963 في بيروت، فضلا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1969 في بيروت؛ فضلا عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي أنشئ في بيروت عام 1965، وانتقل بعد إنشاء السلطة الفلسطينية إلى رام الله، بعد أن عبثت إسرائيل في الكثير من مقتنياته الأرشيفية من مترجمات وبحوث بعد احتلالها بيروت في صيف عام 1982 .

ومن أهم المترجمين الفلسطينيين، المترجم صالح علماني الذي ارتبط اسمه بالعديد من الروايات العالمية كـ"مائة عام من العزلة" و"ساعي بريد نيرودا" و"حصيلة الأيام"، ترك دراسة الطب في إسبانيا وقرر خوض غمار الترجمة الأدبية بكل تحدياتها، ونقل ما يزيد عن مائة كتاب للعربية، أبدع في ترجماته بذكر التفاصيل الصغيرة ومزج الوقائع بالشعر. وقد ولد صالح علماني في مدينة حمص وسط سوريا عام 1949. 

وثمة الآلاف من الفلسطينيين وصلوا إلى دول الغرب طلبا للعلم وباتوا قامات في الدراسات الأكاديمية والترجمة من وإلى لغات عديدة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور هنري دياب مدرس الأدب العربي في الجامعات السويدية؛ وقد ترجم عدة بحوث من العربية إلى السويدية وبالعكس. ومن أهم كتبه بالعربية الموجه إلى طلابه في السويد "كان الكون رماديا"، وهي عبارة عن قصص مختارة من العالم العربي؛ حيث ضمّ بين دفتيه مجموعة قصصية متنوعة لعدد من الكتاب العرب، تتناول في مضمونها محاكاة أدبية للمجتمع الإنساني بصورته الاجتماعية وبالتركيبة الأسرية له، من كون الأب والأم هما عماد الأسرة. والدكتور هنري دياب من مواليد مدينة أرض البرتقال الحزين يافا عام 1946، ووصل إلى السويد بعد أيام قليلة من العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في الخامس من حزيران / يونيو 1967، ليستكمل رحلة العلم والبحث والترجمة، ويصبح قامة فلسطينية مرموقة في السويد.

لقد ترجم الفلسطينيون مثل غيرهم من باقي جنسيات العالم، الذين اشتغلوا على تلمس دروب العلم في مختلف مواقعه، مقولة أن العلم لا وطن له، لكنهم مع ذلك أضافوا إليه مسحتهم الإنسانية المتصلة بموطنهم الأصلي فلسطين، الذي حملوه معهم أينما رحلوا. ولذلك كانت هذه الحركات العالمية المناصرة للحق الفلسطيني، التي مازالت تنمو يوما بعد يوم.

*كاتب فلسطيني مقيم بهولندا