قضايا وآراء

ابتسامة عشماوي

1300x600
طبع قبلة رقيقة على خدها، تيقنت أنها قبلة الصباح، افترق جفناها المتلاصقان فظهرت لؤلؤتان ناصعتان أضاءت الحجرة. طبعت ابتسامة ماكرة على وجهه، ثم أغمضت عينيها، وألقت برأسها فوق وسادتها، وتمسكت بأطراف لحافها الوردي، وغطت به وجهها. وجدت أصابع دافئة تنساب بهدوء إلى جسدها، فتداعبها، وتشد الغطاء عن وجهها، فأمسكت بطرف اللحاف تشده حتى اختفى وجهها الصغير، بينما هو يجذبه بيد ويداعبها باليد الأخرى، حتى غلبها فطبع قبلة ثانية على خدها، ثم حملها فوق كتفه، وطرحها مرة أخرى على السرير.

علت ضحكاتها وخرج صوتها الملائكي من غرفة النوم ووصل إلى المطبخ، حيث توجد أمها التي جرت بسرعة كي تشاهد جزءا من المباراة اليومية بين جنة وأبيها عبد الرحمن، والتي عادة ما تنتهي بأن يسقط هو على الأرض لتمتطي ظهره فيسير بها نحو الحمام.

وهنا تبدأ معركتان جديدتان الأولى بين جنة وأمها، والثانية بين عين جنة والصابونة، والأب يمارس هوايته في الإيقاع بينهما، فيدعو جنة كي تداعب أمها بالمياه، فتخرج جنة بملابسها الجميلة وتخرج الأم بملابسها المبللة، فيلتقطها الأب سريعا بعد طبع عدة قبلات على وجهها، بينما تحتمى هي بذراعيه لتستشعر دفئهما، وتنساب يديه بين خصلات شعرها يضع عليه الكريم ويمشطه برفق حتى لا يُغضب محبوبته الصغيرة، فيلفه لها كما كانت تصنع أمه مع أخواته الصغيرات، فتغضب منه وتتركه شاكية لأمها، فيلاطفها ويدللها ويحملها بين يديه ويلقى بها في الهواء مرة ثم مرات، حتى تضحك وتعود لها ابتسامتها التي تحيى بقلبه الحياة، ويصنع لها تسريحتها التي تحبها، فينظر إليها فيعجب من جمالها الرباني، ويضعها أمام المرآة فتنظر كيف صارت على يد أبيها، وهنا ينتقل هو وزوجته إلى معركة جديدة مع الصغيرة جنة حول الإفطار.

انسابت دمعة من دفقات الدموع التي غطت وجه عبد الرحمن ولحيته حتى سقطت على يده اليسرى، انتبه من غفوته فوجد نفسه على الأرض في غرفة مظلمة تعلوها كوة من فوق باب حديدي تتسرب منه أشعة ضوء خافت يأتي من الخارج، وأنين وآهات مكتومة تأتى من كل مكان، تذكر أين هو، فانقطع شريط الذكريات مع صغيرته، وعاد إلى واقعه الأليم، فنظر إلى الدمعة التي سقطت على يديه فوجدها قد انفجرت من فرط حرارتها وانسابت على ملابسه الحمراء، رفع يده اليمنى يجفف بها خديه، ويمسح بها لحيته، آلمه وجهه من كثرة ما به من جراح، وجد نفسه في حاجة إلى الراحة. أمسك بدلو الماء وغرف منه غرفات توضأ بها وراح بين يدى ربه يناجيه.

جاءه صوت غليظ يهدر من بعيد يقول له: أتصلي يا إرهابي، يا خائن يا بائع بلدك للأعداء يا عميل، لن تُقبل منك صلاة ولا توبة، جهنم وبئس المصير أنت وكل الخونة أمثالك.

طارت تلك الكلمات في وجه عبد الرحمن كأحجار من سجيل، فقطعت عليه لحظات وجد مع ربه، وأنهت دموعا غزيرة سقطت في رحابه، وأوقفت مناجاة قلب لجأ لربه ويأمل في القبول. إنه حجاج.. ذلك العتي الذي يعرفه كل نزلاء المعتقلات، وتركت يداه علامات في وجوههم، وطبعت أصابعه أختاما سوداء بكل أجسادهم.

فتح حجاج الزنزانة الحديدية، استغرق وقتا طويلا في فك أقفالها. أنهى عبد الرحمن صلاته، فأقبل عليه السجان والتقطه من الأرض بيد واحدة، بينما التفت يده الأخرى حول عنقه كحية تملكت من فريستها، ثم رفعه لأعلى وتركه يسقط على الأرض، قائلا له: "الضرب في الميت حرام"، وأنت أصبحت من الأموات.

ألهبت تلك الكلمات جراح عبد الرحمن وزادت من آلامه، فغفا من شدة الإعياء، وراح يلتقط من الذكريات، ويلوذ بالأحلام مرة أخرى، فرأى جنته تلبس فستانها الأبيض وحولها قريناتها، وتعلو الزغاريد طوابق البيت فتحمل البشرى إلى الشوارع المجاورة، والأم تدور في كل مكان، والدنيا حولها تكاد ترقص طربا لليلة زفاف جنة على فارس الأحلام. علت الزغاريد أكثر وأكثر مع قدوم العريس ومعه مأذون القرية. حان وقت كتب الكتاب، التف الجمع حول العروسين، الكل حاضر إلا الأب أين ذهب؟ ولماذا اختفى؟

عاد صوت حجاج مرة أخرى، كلماته هذه المرة كانت أشد عنفا وأكثر قسوة، تتطاير معها شظايا لعابه المتدلي على شفتيه ولا يمنعها إلا شاربه الذى يشبه ليف النخيل، قائلا لعبد الرحمن: هيا أمامي، الحمد لله البلد هتنضف من الخونة أمثالك، فأمسك بتلابيبه يدفعه بكلتا يديه تارة ويركله أخرى، مكملا وصلة الردح والسب، بينما يقول عبد الرحمن ربح البيع أبا جنة، ربح البيع أبا جنة.

هنا سقطت دموعها فألهبت مشاعر الحاضرين، فتلقفتها أمها بين أحضانها، فعادت لها لحظات من الطمأنينة.

ألقى به الجلاد أمام جمع من زبانية فرعون، وتلا أحدهم قرارات الاتهام، وأعلنه بحكم هامان عليه بالإعدام شنقا، وهو في عالم آخر لا يسمع سوى صوت جنة.

اقتادوها إلى المأذون، بعدما طلبت منها أمها أن تلبى نداء عرسها ولا تفضح أباها في غيابه، فوافقت على مضض، وتابع المأذون إجراءات الزواج، فعلت زغرودة شقت حالة الصمت التي غطت الوجوه، فصرخت جنة قائلة: توقفوا حتى يعود أبي.

وضعوه في المكان والموعد المحدد، رافعا رأسه إلى أعلى، ورباط عينيه لا يمنعه من أن يرى ابتسامتها.

أعطاها المأذون القلم كي توقع عقد الزواج، فأمسكت به على مضض، بينما لا تفارق عينيها صورة أبيها.

مد يده يصافح عريسها، والمأذون يضع المنديل فوق يديهما، وصورتها لا تفارق خياله.

وضعوا حبل النهاية في عنقه.

ألقت جنة بالقلم، وسقطت دموعها فبللت عقد الزواج.

كتب عشماوي مبتسما نهاية أبيها، فغابت عن عينيه ابتسامتها وإلى الأبد.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع