قضايا وآراء

ثورتنا لا تسحق الأفكار يا فارس الحلو

1300x600
"عهدنا!" يُنادي مدرب الكليّة العسكرية أو مسؤول الطابور في مدارس البعث وثانوياتها، فيُجيب العساكر والطلاب على الفور: "عهدُنا أن نتصدّى للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة".

نعم، تربّت أجيال سورية بأكملها على الأدبيات والأفكار التي كان يغرسها النظام في عقولنا جميعاً منذ الصِغر، فعموم الشعب السوري (إلا من رحم الله) نتاج السياق الذي عاشوا فيه، وكانوا في بعض الأحيان ضحيّته وفي بعضها الآخر سبباً من أسبابه. لكننا ثرنا يا قوم! نعم ثرنا على ذلك كلّه، وضحيّنا بالغالي والنفيس وما زلنا نضحي من أجل اقتلاع جذور هذا النظام الظالم الدموي.

كنّا نعتقد في باكورة الثورة أنّها ستُسقط النّظام في وقت قصير لأنّ الكل عانى ويُعاني من ظلمه، لكننا اكتشفنا أنّ لهذا النظام الأسدي مؤيدين، منهم من هو مقتنع بروايته، ومنهم من تربى عليها تربية عميقة حتى صارت قدره وبات من الصعب أن يعيش خارج الفقاعة التي رُسمت له. لكنّنا مع مرور الوقت نكتشف أنه حتى في صفوف الثوار من تشرّب الأدبيات الأسدية فباتت تخرج من لسانه وقلمه طبيعية منطقية، بل وقد يدافع عنها بضراوة. آخرها منشورٌ مُستفز للممثّل السوري فارس الحلو قال فيه إنّ السوريين الأحرار سيسحقون الفكر الإخواني، كما سُحقت النازية، في إشارة مستهجنة غريبة تضع أمام أعيننا الهتاف الشبيبي الأسدي الذي قد يكون الحلو قد ردده (ربما) في طفولته والحرب العالمية الثانية بدمويتها واستئصالها للحكم النازي آنذاك.

لا يخفى على أحد كيف يُمكن للّغة أن تُعبّر عن مكنونات الفكر والعقل الباطن لدى الشخص المتكلّم والكاتب، خاصة إذا كان هذا الكاتب يحمل رمزية المقاومة أو الثورة أو الفن في بيئة تأمل منه أن يكون موجهاً ودافعاً للأفكار الثورية البناءة، وشخصية تحمل احتراماً بين شريحة واسعة في المُجتمع الذي يُعبّر عنه. وتظهر هذه اللّغة في أوضح صورها عندما يُصبح الكلام عاطفياً عن طرف مُخالف أو فكرة مُخالفة، فتنكشف المعادن على حقيقتها ويكتب المرء ما تُبطنه الأفكار وتتستر خلفه الكلمات، وتُساهم مواقع التواصل الاجتماعي في تغذية هذه الأفكار إذ باتت وسيلة يسهل فيها القيل والقال والنشر والجدال.

أظهرت الآونة الأخيرة هشاشة بعض المحسوبين على الثورة ممّن نتأمل منهم القدرة على توليد الأفكار والتمثّل بها، ورفع لواء الوطنية التي ينطوي تحته الفرقاء والشركاء ضمن أولويات الثورة ومبادئ العمل الثوري، لكنّ الثورة السورية كاشفة بحق، لا تُجامل أحداً ولا ترفع أحداً فوق قدره، ولا تُبرّر لأحد غير الشهداء.. إنّها الثورة التي علّمتنا الحق والعدل والكرامة والوقوف في وجه الظلم، سواء تمثّل الظلم في هيئة دول كروسيا وإيران، أو أحزاب كحزب الله وحزب البعث، أو شخصيات أو هيئات. لم يختر الأسد مُفردة "سحق" اعتباطاً، ولا يمكن لنا لا في السياق التاريخي ولا اللغوي ولا السياسي أن نتعامل معها كمصطلح لغوي منعزل عن كل السياقات التي ذُكرت سابقا.

مُفردة "سحق" في اللغة العربية تعني: الإبادة والاجتثاث والاستئصال، مثال ذلك في المُعجم الوسيط: السحق هو القتل، وسحقه أي دقّه أشدّ الدق. وكذلك في معجم الغني؛ السحق هو الطحن والهلاك. من أجل ذلك ساهمت هذه التصريحات المُستفزة في صنع حالة انتقاد واسعة بين شريحة من شباب الثورة الذين تختلف مشاربهم وتتعدّد أفكارهم وتتباين منطلقاتهم، لكنّهم لا يختلفون حول مبادئ الثورة التي وحدّتهم جميعاً ضمن إطار العمل الثوري الوطني، بعيداً عن ثقافة السحق والتصنيف.

نحن لا نُريد لأحد أن يسحق أحداً، شباب الثورة لا يُريدون من الإسلامي أن يسحق العلماني، ولا يُريدون من العلماني أن يسحق الإسلامي. ما الفرق بيننا وبين النظام إن قمنا نحن (معاشر الثوّار) برشق بعضنا البعض بمخلفات أدبياته أو حتى باستئصاليته التي قد تكون بقصد أو بغير قصد؛ ما زالت متجذرة فينا؟ إذ لا يُمكن بحال أن يكون المرء ثورياً مُنحازاً لثورة قامت ضد نظام دموي تشبيحي كنظام الأسد في سوريا، ثم يقبل على نفسه أن يكون أداة لسحق الناس واجتثاثهم واضطهادهم، في لغة تعكس أنظمة الاستبداد لا صوت الثورة.

والحقيقة، أنّ الناس لهم الحق في إبداء خلافهم مع أي مكوّن أو تنظيم أو هيئة وانتقادهم، واستخدام كل الوسائل السلمية والقانونية لفعل ذلك، لكن أن يتحوّل هذا الاختلاف لدعوات بالسحق، حتى لو كانت سحقاً للأفكار (على حد وصف فارس الحلو) فتلك حالة جمهوريات القهر والطغيان وسياستهم في إبادة الأطراف المعارضة. والتاريخ أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الأفكار لا تُسحق، بل يُساهم الإقصاء والسحق في إمداد أفكارها بالحياة. ومنشور فارس الحلو (الذي أسعدنا في انحيازه للثورة أوّل الأمر) يأتي ضمن سياق مُتكامل لثقافة الإقصاء وعدم تقبّل الآخر؛ في صورة سريالية تعكس الحاجة الماسّة لتثبيت مفهوم العمل المشترك، والتخلّص من مُضاعفات التربية الأسدية في عقول بعض أبناء الشعب السوري، وفي مُقدّمتهم النخب والمثقفون والفنانون.

في المُقابل، تابع الناشطون في ذات السياق تصريحات الأستاذ ملهم الدروبي (أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمون وقيادي سابق فيها) التي انتقصت من قدر السوريين، والتي آذت عدداً كبيراً من أبناء الشعب السوري، وخاصة أولئك القاطنين في تركيا، وتعرّض على إثرها لموجة انتقادات حادّة تُطالبه بالاعتذار، وقد قام الرجل بكل شجاعة بتقديم اعتذاره قائلا: "أعلن اعتذاري لمن لم تسعفني كلماتي بإيصال رسالتي لهم، ولكل من شعر أنني أسأت له، واللهَ أشهدُ أنني لم أقصد إلا الخير، وأطلب من جميع من يستطيع أن يصنع معروفا في مساعدة السوريين لتجاوز محنتهم ألا يترددوا بذلك، وسأبقى أتشرف بخدمة أبناء وبنات سوريا في كل مكان أستطيعه". كما قامت جماعة الإخوان المسلمون في سوريا باستنكار تصريحاته في بيان صريح وواضح ترفض فيها ما جاء على لسان الدروبي، بل سارع شباب الإخوان لانتقاده على تصريحاته وفي لهجة حادة تجاذبتها وسائل التواصل الاجتماعي.

احترمت الأستاذ ملهم الدروبي لاعتذاره وشعرت بشيء من الأمل تجاه الشخصيات الثورية المؤثرة، فتوسمت بالحلو خيراً، ذلك أن يقوم كالدروبي بتحمل مسؤولية تصريحاته والإعتذار عنها. طالبته بتقديم اعتذار عن هذا السقوط الذي صنع شرخاً كبيراً بينه وبين شباب الثورة، ولكن بدلاً من القيام بذلك أصرّ على مقولته وبرّرها في إطار سطحي غير مقبول، وكان دليلاً آخراً على تهافت هذه التصريحات وشعور داخلي لديه بالعجز عن الدفاع عن مقولته السيئة تلك.

والحقيقة المُرّة أنّ الدروبي الذي (بلا شك) أخطأ في تصريحاته حينما انتقص من قدر السوريين في منشوره ثم اعتذر بعد ذلك، تبعه فوراً تصريحٌ يدعو لسحق الإخوان ويُشبههم بالنازيين ويُقارب فكرهم من فكر الأسد في إصرار على مفردة "السحق" التي تحمل توقيع نظام البعث الدموي، ومن فنان سوري يدّعي أنّه يدعو للديمقراطية والحرية ينبغي منه الانتماء للثورة وأن يكون على مسافة واحدة ومتساوية من الجميع، بكل الانتماءات والمرجعيات. كيف تأمن الأطراف السياسية غداً من غدر النخبة السياسية والثقافية إذا كان السحق هو الأداة المُثلى للتعامل مع الاختلافات؟ وهل صندوق الاقتراع هو الفيصل حقاً في اختيار الشعوب لمن يُمثّلها أم السحق والإجتثاث وفق منشور فارس الحلو؟ وهل اللغة الإقصائية هي الخطاب الأسمى الذي يلزم أن يكون عنوان السوريين الأحرار أم خطاب المشاركة والحوار والعمل الوطني؟ وكيف يتمثّل الفنان في رُقيّه وفنّه إن كان يُطالب بسحق الأطراف الثورية من حوله؟ وهل فعلاً يلزم الإخوان اليوم أن يُقدّموا مراجعات وإصلاحات، أم بات ذلك مطلبنا تجاه النخبة المُثقّفة والفنانين الذي يتحدّثون بلغة السحق ومُفردات حزب البعث؟ وهل سوريا اليوم على مشارف استحقاق سياسي وانتخابي لتخرج هذه التصريحات المُستفزّة في غير زمانها ولا مكانها، والتي تُفرّق ولا تُوحّد وتشق الصف وتدعوا لثقافة التصنيف والتقسيم؟