قضايا وآراء

"كان 2019" بين الرياضة والسياسة

1300x600
بداية لا بد من الإشارة إلى أن "كان 2019" (بطولة أمم أفريقيا الحالية) كان يجب أن تقام في الكاميرون"، غير أن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم رأى في كانون الثاني يناير الماضي أن ياوندي غير جاهزة، فطلب من الدول الأفريقية تقديم عروضها كانت الأولوية للمغرب، غير أنه لم يُبد حماسة أو رغبة، فقررت مصر بعد تمنّع استضافة البطولة ضمن حسابات سياسية واقتصادية وإعلامية للنظام وأذرعه المختلفة.

بداية أعلن عضو اتحاد كرة القدم المصري مجدي عبد الغني (لم يكن ينطق عن الهوى) أن الظروف الاقتصادية والأمنية غير مؤاتية، لكن فجأة غيّر النظام العسكري رأيه، وقرر استضافة البطولة لتبييض صفحته، ولفت الانتباه عن إخفاقاته، وتحقيق عوائد اقتصادية لشركاته وأذرعه، دون أي اعتبار للجوانب الفنية، كون المنتخب لم يكن مهيأ للفوز بالبطولة، بعدما تم التعاقد مع المدرب المكسيكي خافيير أجيري لبناء وإعداد فريق جديد من أجل التأهل إلى كأس العالم 2022، واعتبار البطولة الأفريقية محطة استعدادية، على اعتبار أنها ستقام تلعب في الكاميرون طبعا.

حسب اللوائح المنظمة، فإن خُمس عائدات البث التلفزيون البالغة 45 مليون دولار تذهب للدولة المستضيفة. ورغم زيادة عدد الفرق المشاركة إلى 24 بدلا من 16، كما كان معمول به في السابق، إلا أن رئاسة الاتحاد الأفريقي الفاسدة لم تتفاوض مع الشركة المعنية لزيادة حقوق البث إلى 100 مليون، وقبِل رئيس الاتحاد المصري هاني أبو ريدة ومشغلوه في الشركة الراعية للاتحاد، المملوكة للعسكر (كما هو الحال في البلد الآن)، بذلك، أي التضحية 11 بـ"مليون دولار" للخزينة العامة، مقابل حصول قناة تايم سبورت اللقيطة (المملوكة للعسكر طبعا) على حق البث الأرضي بشكل غير مشروع، علما أن هذا حق أصيل للقنوات الحكومية الرسمية.

القناة الجديدة تم تأسيسها على عجل من قبل قناة "أون تي في" (المملوكة للعسكر) قبل البطولة بأيام قليلة، وفي عصر التكنولوجيا العالية والجيل الخامس للاتصالات، باعت الشركة أنتينات وتجهيزات قديمة خاصة لاستقبال البث الأرضي الحصري، واستفادت طبعا من العائد الضخم للدعاية والإعلان أثناء البطولة بشكل عام، ومباريات المنتخب المصري بشكل خاص.

النظام لم يسعَ إلى جلب الجمهور للمدرجات، لذلك لجأ لرفع أسعار التذاكر من قبل الشركة المعنية (تذكرتي) المملوكة أيضا للعسكر، وتم توزيع الدعوات على الموظفين في الشركات التابعة لهم أي جرى خلق جمهور مصطنع لا يشبه الجمهور الحقيقي الذي يحارَب من قبل النظام والممنوع من حضور المباريات طوال الموسم، واعتبار ذلك بمثابة القاعدة، والحضور هو الاستثناء، ولولا لوائح البطولة والحرج؛ لأصر النظام على لعب المباريات دون جمهور، أو بالحد الأدنى منه كما يفعل في المسابقات المحلية.

كان لافتا كذلك عدم بذل النظام (وأذرعه) أي جهد لتشجيع السياحة وحث الجماهير العربية الأفريقية على حضور المباريات؛ لأن الهدف كان العنوان فقط (أي استضافة البطولة)، وتحقيق عوائد سياسية إعلامية ومالية دون أي مجازفات أمنية، ودون الاهتمام حتى بتحقيق اللقب نفسه.

رغم المعطيات السابقة، بذل مدير البطولة التنفيذي الشاب، محمد فضل، جهدا رائعا في التنظيم والترتيبات، ولولا قيود وجشع النظام لكانت البطولة مثالية، خاصة مع الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها المحروسة، وشغف الناس بكرة القدم، ومشاركة أكثر من فريق عربي أفريقي؛ ممن يتمتعون بثقل جماهيري وتاريخي في كرة القدم وبطولاتها على مستوى المنتخبات والأندية أيضا.

فنيا، لم يكن المنتخب المصري جاهزا للمنافسة، وتم الضغط على المدرب أجيري لتغيير الهدف والأجندة؛ من بناء فريق شاب جديد إلى السعي للفوز بالبطولة، علما أن التعاقد معه حمل أصلا علامات استفهام كبيرة في الشكل والمضمون.

المكسيكي جيد فنيا، ولا شك في أن يملك تاريخا لا بأس به، لكنه متورط في قضية مراهنات وتلاعب في إسبانيا؛ لم تغلق حتى الآن. هذا كان سبب إقالته من تدريب منتخب اليابان (شباط/ فبراير 2015). وبالتأكيد، فإن مدرب تحوم حوله شبهات أخلاقية واحترافية ما كان يجب أصلا المغامرة والتعاقد معه.

بعد الخروج المهين من كأس العالم (2018) وإقالة المدرب السابق هيكتور كوبر، قرر اتحاد الكرة تشكيل لجنة برئاسة حازم إمام لاختيار وترشيح مدرب جديد. حازم النزيه والمهني قام بعمله على أكمل وجه، فأجرى اتصالات ومفاوضات مع مدربين كبار، وانتهى إلى الاتفاق مع البوسني الفرنسي وحيد خليلوزيتش، صاحب التجربة الكبيرة في أفريقيا، والذي قاد منتخب الجزائر إلى دور الـ16 بكأس العالم 2014 (خرج بصعوبة أمام حامل اللقب الألماني بهدف متأخر)، وبشروط مالية مناسبة معقولة، لكن رئيس اتحاد السماسرة كان قد اتفق أصلا مع أجيري حتى قبل تكليف حازم بالمهمة. وكان لافتا، بل مريبا، أن يتحول السمسار ميشيل سالجادو الذي تولى ترتيبات التعاقد مع أجيري؛ إلى مساعد له، بعد ذلك في خطوة كانت وما زالت تثير الريبة في القصة كلها.

فنيا أيضا، ظهر المنتخب المصري بالبطولة دون هوية، فغيّر أجيري طريقة اللعب من (4-3-3) إلى (4-2-3-1)، مع اختيارات مريبة ومشبوهة لقائمة المنتخب. النتيجة أن المنتخب ظهر دون معالم جماعية واضحة دفاعا وهجوما، ولم يراع المدرب إرهاق محمد صلاح الذي لعب 60 مباراة الموسم الماضي. وكان المنتخب محظوظا في دور المجموعات، حيث لم يستحق الفوز في المباريات الثلاث. والخروج على يد منتخب جنوب أفريقيا المتواضع والعادي لم يكن مفاجئا أيضا، قياسا لما شهدته المباراة نفسها من سيطرة شبه كاملة لمنتخب بافانا.

فنيا أيضا، كان عادلا أن يصل أقوى فريقين إلى النهائي، رغم أن السنغال تضم الفريق الأفضل والأقوى على مستوى الأفراد، لكن ينقصهم الحماس (كما قال سباستيان مينييه، مدرب كينيا وتلميذ الأسطورة كلود لورا، صاحب التجربة الأفريقية الطويلة)، كما أن الفريق لا يمتلك مدربا كبيرا صاحب خبرة وهوية.

أما الجزائر، فإن فريقها هو الأفضل على المستوى الجماعي، ويبدو متكاملا دفاعيا وهجوميا ويلعب بانسجام. ورغم وجود النجم رياض محرز، إلا أن العمل الجماعي هو الغالب، وتشعر بحجم تأثر المدرب جمال بلماضي بالعبقري بيب جوارديلا، خاصة عند فقدان الكرة والضغط الجماعي المكثف لاستردادها بسرعة.

عربيا، امتلك المغرب فريقا جيدا ومدربا جيدا ذا خبرة أفريقية واسعة (هيرفى رينار، أيضا أحد تلاميذ لوروا)، لكن الفريق دفع ثمن ارتفاع معدل أعمار لاعبيه، وعدم إجراء تجديد بعد كأس العالم الماضية التي قدم فيها أداء لافتا، مع الافتقاد إلى مهاجم وهدّاف كبير، إلى جانب المشاكل الإدارية، والإجحاف بحق المهاجم الحقيقي والوحيد، الهداف عبد الرزاق حمد الله.

تونس تملك فريقا جيدا مجتهدا، ومدربا جيدا مجتهدا (الفرنسي ألان جيريس)، حسنته الوحيدة ربما امتلاكه خبرة واسعة في أفريقيا، كونه درّب السنغال ومالي من قبل. لم يكن من العدل والمنطق أن يذهب الفريق بعيدا، كما قال فعلا النجم التونسي زبير بية. هو تجاوز دور المجموعات بصعوبة، ثم خدمه الحظ أمام غانا، الأفضل من كل الوجوه، رغم أنه قدم مباراة كبيرة أمام السنغال في نصف النهائي، وكان ندّا قويا لرفاق ساديو ماني، قبل أن يفرض المنطق والواقع نفسه، مع ارتكاب الدفاع التونسي أخطاء كبيرة (تشبه أخطاء دور المجموعات، حيث تعادل ثلاث مرات) كانت حاسمة في مرحلة خروج المغلوب.

لا يمكن تجاهل منتخبات غرب أفريقيا الثلاثة (نيجيريا، كوت ديفوار، وغانا). النسور الخضر ظهروا بشكل جيد، وخسروا بصعوبة بالغة أمام الجزائر (رشحهم كلود لوروا للفوز باللقب). فمنتخب نيجيريا يضم شباب رائعين، يملكون مزيج من المهارة والقوة البدنية، لكن افتقدوا لمدرب كبير ذي رؤية واضحة، رغم أن الألماني جيرونت روهر بذل أقصى ما يستطيع، ولم يعد يملك المزيد لتقديمه للمجموعة الرائعة.

أمر مماثل يمكن قوله عن منتخب أفيال ساحل العاج.. فريق شاب يضم نجوما واعدين، خسروا بصعوبة بالغة من الجزائر (أفضل فرق البطولة) بضربات الحظ. وكما نيجيريا، بات فريق ساحل العاج بحاجة لمدرب خبير قادر على صهر الطاقات الفردية في بوتقة جماعية فعالة ناجعة.

أما غانا، فتمر بمرحلة تجديد وإعادة بناء، وهم مزيج من الشباب والخبرات.. لم يستحقوا الخروج أمام تونس (ضربات الحظ نفسها)، وأعتقد أن مدربهم الوطني (كواسي أبياه) ذو خبرة كبيرة، وقادر على المضي قدما في بناء فريق جديد للنجوم بالاعتماد على الطاقات الشابة الواعدة.

لا يمكن الحديث عن البطولة دون ذكر الحصان، بل الحصانين الأسودين: بنين ومدغشقر؛ اللذين وصلا إلى دور ربع النهائي بلاعبين مغمورين، مجتهدين مع مدربين مجهولين، لكن خبيرين أيضا بالقارة السمراء ودروبها ومزاجها الكروي.

في النهاية وباختصار، فإن البطولة رائعة تنظيميا رغم العزوف الجماهيري، وعادية فنيا. والمشكلة لا تكمن في زيادة عدد الفرق المشاركة، لكن بتراجع مستوى معظم الفرق الكبيرة، ومعاناتها من مشاكل إدارية متعددة وعميقة؛ مرتبطة بوجود اتحادات كروية تعاني كلها تقريبا من الاستبداد والفساد، وعدم أهلية أعضائها لإدارة الرياضة في القارة السمراء؛ الغنية بمواردها البشرية والطبيعية على حد سواء.