قضايا وآراء

العراقيون والأدباء والبناء الفكريّ

1300x600

من روائع ما قاله الأديب العربيّ توفيق الحكيم: "إنّ الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجدّ بل إنّه عندها شيء وهميّ لا وجود له، ولا حساب".

والأدَب كلّ ما أنتجه العقل الإنسانيّ من ضُروب المعرفة الإنسانيّة المتنوّعة.

 

قوة تغيير

والأدباء بأقلامهم وأفكارهم وعقولهم يمثلّون قوّة تغيير كبيرة ذلك لأنّهم يغيّرون العقول والأفكار بالإقناع، وليس بالترهيب والتخويف، ومن هنا تأتي قوّتهم، وتخوّف بعض الحكومات من دورهم المحوريّ.

فئة الأدباء الملتزمين بمبادئهم وقيّمهم من أكبر قوى البناء للإنسان والمجتمع ذلك لأنّ الأديب يمتلك القدرة على توصيل فكرته عبر فنّه، مرّة بالنصّ المسرحيّ، وأخرى بالشعر، أو الرواية، أو القصّة القصيرة، أو غيرها من فنون التأثير الأدبيّ المميّزة.

تقع على عاتق الأدباء مسؤوليّة كبيرة في مراحل تطوّر أفكار الشعوب، وبالذات في مثل أوضاع الكثير من أوطاننا، ومن بينها العراق، فدورهم دور ناظم للحقوق، وباني للعقول، ومبيّن للمواطنين ما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات.

الأدب الإنسانيّ يقوم على مفاهيم وقيّم عظيمة، ومنها احترام حرّيّة الإنسان وفكره، وحقّه في الحياة، والإنصاف، والتعليم.

الأديب مثل (عالم الدين) حينما يقف بباب الحكومة يستجدي عطفها وكرمها وعطاءها هنا تنتهي رسالته، وتمحى قيمته، ويذوب علمه لأنّ الأدباء والعلماء لا يليق بهم أن يميلوا إلى مضمار الركض وراء إرضاء الحكومات والحكّام، والسعي لكسب ودّهم، والحصول على فتات موائدهم، لأنّهم في تلك  اللحظة يقبروا أقلامهم، ولم تعد ذات قيمة إنسانيّة، أو تأثيريّة!

 

الأدب الإنسانيّ يقوم على مفاهيم وقيّم عظيمة، ومنها احترام حرّيّة الإنسان وفكره، وحقّه في الحياة، والإنصاف، والتعليم.


الأدب المتملّق، أو الزاحف نحو مقار الحكومات الهمجيّة، والفاشلة هو أدب تخريبيّ، بل لا يحقّ لنا تسميته "أدباً" لأنّ الأدب رسالة، ولا يمكن للرسالة أن تكون في عداد الآليّات المدمّرة للإنسان والمجتمع.
الأدباء الراكضون بلهفة وراء الشهرة المزيّفة، والبريق الإعلاميّ، والثناء المزوّر هؤلاء لا يمكن أن يبنوا أفكار المجتمع لأنّهم - وإن كانوا ربّما من المشاهير ـ ليسوا أهلاً للقيام بهذه المهمّة الكبرى القائدة للفلاح، والظفر بالحرّيّة والحقوق والسلام.

 

أدب إنساني


الأديب الذي لا تهزّ ضميره، ولا تحرّك قلمه، ولا تشغل فكره وقلبه مشاهد الدم، ودموع الثكالى واليتامى وأنين المهجرين وصرخات الأطفال المهمّشين ومآسي الفقراء، فهذا لا يمكن قبوله في أكاديميّة الأدب الإنسانيّ، لأنّ الأديب هو إنسان يرسم صور إنسانيّة راقية بقلمه وفكره، ويجعل من قلمه صرخة مدويّة في وجه الفقر والظلم والقتل والتهجير والترهيب، وإلا فهو مجرّد كاتب يسترزق بقلمه!

الأدباء الرجال كانت مواقفهم واضحة في الثبات على مبادئهم، وهذا ديدنهم منذ عصور الجاهليّة وحتى يومنا هذا، ولقد حدّثتنا كتب الثورات العربيّة والغربيّة عن العديد من كبار الأدباء والشعراء الذين شاركوا في ثورات بلدانهم ضدّ الظلم والطغيان ومنهم الأديب الفرنسيّ (فكتور هيغو) والإنكليزيّ جون ملتون، وغيرهما من عمالقة الفنون والآداب الغربيّين، وكيف أثرت كتاباتهم في بناء نهضة بلدانهم، بل وفي تغذية الثورات الأوروبيّة ـ وربّما الإنسانيّة ـ بروح الرفض لتدمير الإنسان والحياة.

 

العصا والترهيب والاستبداد السياسيّ كلّ هذه المطبّات ستبيد الدولة، وتجعلها دولة فرعونيّة قاتلة للأدب والحياة


وهيغو ـ على سبيل المثال ـ لا يمكن نكران أثر كتابه (العقد الاجتماعيّ) ودوره في إنضاج الثورة الفرنسيّة في العام 1789م، وهذا الكلام ينطبق على شعراء ثورة العشرين في العراق، ومنهم محمد مهدي البصير، وعيسى عبد القادر، وكاظم السوداني، وبعد ذلك الشاعر (معروف الرصافي)، وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم من عمالقة الأدب العراقيّ الذين سعوا لتغيير أحوال البلاد عبر أقلامهم.

كتابات هؤلاء الأدباء ركّزت على الحرّيّة وحقوق الإنسان وكرامته، وحبّ الوطن، والعدل والنظام، ومقت الكذب والخيانة والتملّق وعدم المساواة، وضرورة أن تدرّس هذه المفاهيم لعموم المواطنين.

إعطاء النخب الأدبيّة حرّيّتها الضرورية في أداء واجبها سيجعلها تُنير الطريق لأبناء الوطن  لبناء غد خال من التطبيل والتملّق والركون لضفّة الشلل الفكريّ والجرب العقليّ.

فهل ستسمع الحكومة هذه الصيحات وتكف عن إهدار طاقات العراق الأدبيّة والفكريّة في الداخل والخارج، وتحترم الحرّيّات العامّة وتحافظ على كرامة الشعب، أم ستبقى تعيش في غيبوبة الجمود؟

العصا والترهيب والاستبداد السياسيّ كلّ هذه المطبّات ستبيد الدولة، وتجعلها دولة فرعونيّة قاتلة للأدب والحياة والجمال والسلام والمحبّة والتعايش، فهل سنجد قرارات فاعلة على أرض الواقع؟

نأمل أن يكون الجواب بالعمل، وليس بالأقوال.