مقابلات

الجبالي لـ"عربي21": سأترشح للرئاسة دون شقّ "النهضة"

حمادي الجبالي: الحريات ضامن للخبز ومحاربة الفساد والاستبداد (صفحة الجبالي)

قال رئيس الوزراء التونسي السابق حمادي الجبالي: "إن الثورة التونسية حققت مكاسب على الصعيد السياسي والديمقراطي، لكنها لم تصل بعد لتحقيق الأهداف المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية".

وأضاف الجبالي في حوار شامل مع رئيس تحرير "عربي21": "إن الثورات الشعبية العربية لا تزال مستمرة، وإنها ستستمر ما دامت أسبابها موجودة، وحتى تحقيق أهدافها".

ودعا الجبالي ما أسماها قوى الثورة إلى التوافق في تيار واحد لمواجهة تيار الـ"لا ثورة"، معتبرا أن الخلافات الأيديولوجية بين القوى المنضوية في هذا التيار لا معنى لها، وأن الأولوية الآن لتحقيق مطالب الناس في حياتهم اليومية، وتحسين الاقتصاد ومستوى المعيشة.

وأكد الجبالي أنه لن يقدم على تشكيل حزب سياسي جديد، لكنه سيترشح للرئاسة لخدمة الناس وتحقيق أهداف الثورة.

وفيما يلي الجزء الأول من الحوار:


س ـ في البداية، كيف ترى تونس بعد 8 سنوات من الثورة؟ أين نجحت في تحقيق أهدافها وأين أخفقت؟


 ـ كانت الثورة ببساطة مطلبا شعبيا أساسه اجتماعي واقتصادي، هدفه إنهاء الفوارق بين الجهات والفئات، والمطالبة بمصلحة الشعب في طعامه وفي الصحة والتعليم والنقل، ولكن الوضع السياسي والاستبداد وقمع الحريات أعطى الثورة شحنة أخرى وبعدا إضافيا.

الثورة قامت على النظام وكذلك على النخبة التي تساند النظام، وأغلبية النخبة كانت تقف في صف النظام إلا قلة قليلة جدا.

 

 

من الأشياء التي تحققت ـ على الأقل بالنسبة للتجربة التونسية ـ هي هذا الوعي بالحرية وأننا لابد أن نصنع مستقبلنا بأنفسنا ونقرر فيه،

 
ولكن النحب ـ ونحن منها ـ ارتكبت خطأ كبيرا وهو أنها أوقفت الثورة، وجاءت النخبة بدهائها وقالت للشعب: "ارجع بيوتك سنأخذ عنك هذه المهمة".
 
ومعنى هذا الخطأ، ونحن الآن نُقيّم تجربتنا، هو أنه لا يمكن بعد الثورة أن يكون رئيس الوزراء هو محمد الغنوشي رئيس حكومة بن علي. استفاق الشعب بعد فترة من تعيين الغنوشي رئيسا للحكومة، ولكنه لم ينجح باستعادة الثورة بسبب ضعف قيادة ونخبة الثورة وتشتتها، وغياب برنامج، لأن الثورة فاجأت الجميع.

أُعيدت الكرة من جديد وبنفس الأسلوب من الدهاء وأتوا لنا بوزير أول من "الدولة القديمة" وهو الباجي قايد السبسي، وشكّلوا لنا مجلسا "لحماية مكاسب الثورة"، ووضعوا لنا ضوابط وقانون الثورة، وهذه كلها أخطاء فادحة. لذلك سرقت القوى القديمة الثورة من النخبة بما فيها النهضة.

س ـ لكن ألا توجد بعض الأهداف التي حققتها الثورة؟

 


 ـ كلامي لا يعني يأسا أو ما إلى ذلك. أنا ضد فكرة أن الثورة انتهت أو أنها نجحت في اليوم الأول، وبخصوصية تونس أنا أقول بدأت هذه الثورة، وهي الآن في مراحلها الأولى ثم الثانية وربما تتواصل لعقود، لأنها عقلية وثقافة لم نكتسبها بعد تماما كنخبة أو كمجتمع، لذلك نحن بدأنا الثورة وستتحقق أهدافها عاجلا أم آجلا لأن أسبابها لا تزال قائمة، بل تفاقمت هذه الأسباب وازدادت إلحاحا.

ومن الأشياء التي تحققت ـ على الأقل بالنسبة للتجربة التونسية ـ هي هذا الوعي بالحرية وأننا لابد أن نصنع مستقبلنا بأنفسنا ونقرر فيه، ولن يمر في تونس بسهولة أي قرار يضرب هذه الحريات، وهذا مكسب هام جدا، وستبنى عليه بالتراكم مكاسب أخرى، وخاصة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي لا نزال نعيش مخاضها، ولكننا حققنا شوطا كبيرا على مستوى الوعي السياسي والحريات والمكاسب والحقوق في تونس. 

س ـ ألا يمكن اعتبار الفترة الانتقالية التي تمر بها الثورة التونسية طويلة نسبيا، أم أنها في سياق طبيعي لدولة لم تشهد ديمقراطية منذ تأسيسها بعد الاستقلال؟


 ـ هذا أمر طبيعي؛ فتاريخ بناء الشعوب والحضارات لا يُقاس لا بالشهور أو بالسنوات. الأهم لدينا هو هذا المسار وهذا الخط البياني المتصاعد. وأعتبر الآن أن التجربة التونسية على الطريق، ولا خوف عليها رغم التحديات.

نقطة الضعف لدينا، وهذا المدخل الذي يستغلونه لضرب الثورات هي المسائل الاجتماعية والاقتصادية؛ فهي أمور حساسة، خاصة في ظل ضعف إمكانياتنا المادية؛ فليس لدينا بترول أو غاز.

نحن نعاني من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وأعداء الثورة أرادوا بخطاب خبيث أن يحملوا الثورة السبب في ذلك ليترحم الشعب على نظام بن علي، وليتساءل البعض: ماذا فعلنا بهذه الثورة؟ وماذا فعلنا بالحرية؟ وليصل الشعب لدرجة يرى فيها أنه كان من الأجدر أن نأكل الخبز بدلا من الثورة، إلا أن ضمان الخبز يكون بالحرية، لأن الدكتاتوريات وأنظمة الاستبداد تغيب فيها الحرية والمحاسبة وحرية الرأي، وهو ما يؤدي إلى نهب الثروة والخيرات والحقوق والقضاء على كل المكاسب الاجتماعية والاقتصادية.

س ـ إلى أي مدى تراهنون على وعي الناس بأهمية الحرية لتحقيق مكاسبهم الحياتية وأهمية التضحية لأجل مكتسباتهم السياسية؟ 


 ـ هذا أمر ليس باليسير، خاصة في ظل وجود منظومة إعلامية وسياسية فاسدة ومدعومة ماليا، وبالفعل نجحت إلى حد ما في جعل الحريات والديمقراطية في المراتب الأخيرة لمطالب الشعوب بعكس قضايا الأمن والصحة والعمل والنقل. ولكن يبقى هذا الأمر طبيعيا، فالثورة الفرنسية مثلا استغرقت حوالي مائتي عام حتى نضجت، وأدرك الناس بعدها أنه بدون حرية لا يمكن الحديث عن مكاسب اقتصادية واجتماعية، بل إنها تنسفها من الأساس، وهذا هو الوعي، ولذلك لابد أن يكون لكل ثورة ثقافتها ومفكروها وطليعتها.

ومع ذلك، لا بد من التوازن بين الحديث عن الحرية والاقتصاد، لذلك نقول إن الانتخابات القادمة مُفترق طرق. ويجب على السياسيين الذين سيتم انتخابهم أن يضعوا نصب أعينهم أنه لابد من المحافظة على الحريات والمكاسب والدولة الديمقراطية وفي نفس الوقت -وربما بأهمية أكبر- أنه لا بد من تلبية مطالب الناس؛ فلا تناقض بين الحرية والتنمية، وليس مطلوبا أن نضحي بواحدة من أجل الأخرى. 

س ـ يرى البعض أن معظم الأحزاب التونسية ضعيفة، وبعضها مثل نداء تونس يعاني من التفكك.. كيف يمكن أن يؤثر هذا الضعف الحزبي على الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة؟


 ـ هذه معضلة في حد ذاتها، وأدت لعزوف نحو 72% من الشباب عن الانتخابات السابقة، فالنظرة إلى الأحزاب ورجال السياسية نظرة سيئة جدا. ولعل الناس لهم الحق في ذلك إلى حد ما، فقد تم ضرب الأحزاب والديمقراطية والإساءة لصورتها. ولذلك لابد للنخبة السياسية المؤمنة بقيم الثورة، وعلى رأسها النهضة وأحزاب وشخصيات أخرى أن تتوحد في كيان جامع، وأنا أتحدث عن أحزاب تقول إنها مع الثورة، وليس عن الشق الآخر من منظومة "مناهضة الثورة"، والذي سوف يتحد غالبا حول رجل واحد، هو يوسف الشاهد، وربما يخرجوا الباجي قائد السبسي من الباب الخلفي.

س ـ هل تعتبر ما يسمى اليسار الراديكالي من المجموعة التي يمكن التوافق معها؟


 ـ مع الأسف هذا التيار نجده الآن يدعم الشق الآخر المناهض للثورة، لأنه يرى مشكلته الآن مع حركة النهضة لأسباب أيديولوجية، وهو لذلك مستعد أن يتحالف مع أي طرف لإسقاط النهضة. هؤلاء يعيشون في ماض ممتد لقرون بعيدة، ويريدون إسقاط تجربة الثورة الفرنسية واللاّئكية الفرنسية على المجتمع التونسي، على الرغم من اختلاف الظرف السياسي والاجتماعي بين الثورة الفرنسية والثورة التونسية.

س ـ لكن الدستور التونسي حسم القضايا الأيديولوجية والهوياتية، فما هو مبرر استمرار الصراع؟ وكيف يمكن حله؟


 ـ هذا هو الخطأ الكبير الذي وقعت فيه النخبة، وبصراحة النهضة تصرفت تصرفا عقلانيا في هذا المجال، بل إن البعض يتهمها بأنها تنازلت إلى درجة كبيرة في قضية الهوية رغبة منها في الهروب من اتهامها بأنها حركة دينية.

 

 

لي ضابط أساسي في عملي وهو أن "النهضة" لن تؤتى من جانبي، ولن أشكل حزبا يشق "النهضة" ويقسمها.. ليس هذا دوري


وفي الواقع فقد أثيرت القضايا الأيدولوجية من قبل رئاسة الجمهورية والأحزاب اليسارية، عبر قضية الميراث ونصيب المرأة من الإرث. هذه قضايا غير مهمة وغير ضاغطة، ولكنهم يطرحونها لتغيير الأولويات، ولأنهم غير واثقين من حكم الشعب ولا من قرار الشعب. هؤلاء فشلوا فشلا ذريعا في ثلاثة انتخابات، وليس لهم مصلحة لا في الديمقراطية ولا في التعددية ولا في الانتخابات القادمة.

س ـ إذن، من هي الأطراف التي تدعو للتوافق بينها؟

 


 ـ جميع أبناء الثورة ومن يدافعون عن قيمها وأهدافها. علينا أن نترك هذا الاستقطاب الأيديولوجي الذي ليست هناك أي مصلحة فيه، ولن يوصلنا إلى نتيجة.

س ـ وهل يمكن أن يشمل هذا التوافق أحزاب اليسار الراديكالي؟


 ـ بالطبع إذا ما أرادوا ذلك. لنترك القضايا الأيديولوجية، وهناك قضايا أخرى للشعب الآن ولنركز في التعليم والصحة، والنقل، ومحاربة الفساد، ورفاهية الشعب. هل رأيت مواطنا تونسيا حينما يصبح في الصباح يقول هل سأصلي أم لا؟ وأين سأصلي؟ أم أنه يفكر في معاناته في النقل والصحة والتعليم والبطالة. هل هناك أحد أغلق المساجد أو أجبر الناس على الصلاة.. اتركوا الشعب وهويته. هذه هوية مغروسة في الأرض والنفوس. نعم نحن ضد الغلو في الدين وما يسمى بالفتنة الجهادية والتقتيل، وهذا نحن متفقين عليه جميعا في الدستور، فلماذا نفجر هذه الصراعات التي تؤخر قضايانا الحقيقية؟

س ـ ما هو دورك كحمادي الجبالي؟ هل تسعى لتشكيل حزب جديد؟ وهل يمكن أن تقود مبادرة لعمل توافق بين الأحزاب المنتمية للثورة؟


 ـ ليس همي السلطة على الإطلاق، فلو أردت السلطة لبقيت فيها، وكان لي الحق الدستوري في ذلك. كان يمكن أن أشكل الحكومة ثم أذهب إلى البرلمان، وكنت سأنال تأييد أصوات المعارضة كلها إلا "النهضة" وحزب المرزوقي، ولكنني اعتبرت أن هذا الخيار سيكون كارثة بالنسبة لي، لذلك فضلت الانسحاب فلا يمكن أن أكون بهذا الشكل؛ فقضيتي ليست الحكم، ونحن مع هذا الشعب ومن أجل هذه الحرية والعدالة للجميع، والديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.

لن أشكل حزبا يشق "النهضة"

أنا لي ضابط أساسي في عملي وهو أن "النهضة" لن تؤتى من جانبي، ولن أشكل حزبا يشق "النهضة" ويقسمها.. ليس هذا دوري، هذا مُضر ليس بالنهضة فقط بل بالبلد كلها، وهمي الآن ليس الحزب. في المرحلة الديمقراطية يصبح المشروع ليس مشروعا حزبيا، بل مشروعا وطنيا، وكيف يمكن أن ننقذ الوطن وتحقيق السلم المجتمعي والتوافق والعدالة والحرية، وهذا ممكن، ليست هذه مثالية؛ فلدينا ثروة رهيبة جدا، وهي ثروة بشرية نريد أن نبني بها، وأول شرط للبناء أن تعطيها حريتها، لأن الإنسان لا يمكن أن ينتج وهو مُكبل الفكر واليدين.

إنشاء حزب الآن سيكون إضافة رقم آخر، أو دكان سياسي آخر في الشارع السياسي على حساب النهضة والمجتمع. لقد قضيت حياتي كلها في التنظيم، حوالي 40 عاما في التنظيم، وأعرف ما هو الحزب. وأؤمن أن الأحزاب هي عجينة تتكون تدريجيا لسنوات أو عقود حتى تصبح حزبا حقيقيا، ولذلك لن أقدم على تأسيس حزب.

 

 

سأكون رئيسا فوق الأحزاب، إذا اختارني الشعب. لأن التجربة واضحة عندي

 


أما بالنسبة للترشح في انتخابات الرئاسة، فسأقدم عليها باعتبار أنها يمكن أن تكون منطلقا للإصلاح والتوازن، لأن الرئيس سيُنتخب من الشعب، وسيكون قدوة، وسيكون هو المُجمّع لكل الأطراف، وسيكون صوت من لا صوت له، والملجأ للمظلوم، وسيفجر الطاقات البشرية والكفاءات التونسية في الداخل والخارج.

أنا أدعي إنني سأكون رئيسا فوق الأحزاب، إذا اختارني الشعب؛ لأن التجربة واضحة عندي، فكل من دخل مؤسسة الرئاسة في قرطاج أدخل حزبه وعائلته وعصابته، وصار يحكم ليس من أجل الشعب، بل من أجل مصالحه الذاتية والعائلية والحزبية والعصبية واللوبيات الفاسدة. الرئيس التونسي لا بد أن يكون فوق جميع الأحزاب وفوق هذه اللوبيات، وهذا هو الطرح المثالي الذي أؤمن به. هذه قضية نضالية ولا بد أن أخوضها.