قضايا وآراء

التجاذب السياسي في تونس: أزمة أم تكتيكات انتخابية؟

1300x600
ينقسم الشارع التونسي في توصيفه للتجاذب الحاصل في الساحة السياسية منذ الانتخابات البلدية، بين من يعتبرها أزمة حادة قد تعصف مسار الانتقال الديمقراطي، ومن يعتبرها تكتيكات انتخابية الهدف منها هو إضعاف المنافسين واستمالة الناخبين للتصويت في الانتخابات القادمة، وأنها ستنتهي بمجرد تشكل المشهد إثر ذلك.

تعيش تونس منذ أكثر من سنة؛ على وقع تجاذبات سياسية تنوعت الأطراف فيها وتعددت، ولم يبق من الأطراف والشخصيات السياسية من لم ينخرط فيها. ويعتبر التجاذب السياسي من الظواهر العادية الطارئة على تونس بعد ثورة الحرية والكرامة، إلا أن الجديد في الحراك الأخير هو أن انطلاقته كانت بين رئيس الحكومة وحزبه، ثم تطورت لتصبح بين رأسي السلطة التنفيذية. وما زاد الوضع تعقدا هو استعمال كليهما لمؤسسات الدولة في هذه المعركة.

زاد المنخرطون في هذه المعركة بفعل تطورها، وذلك عبر محاولة كل من طرفي النزاع تحشيد ما أمكن من أنصار لصالحه، واعتبارا للسياق التي انطلقت فيه هذه المعركة، حيث انطلقت في الشوط الثاني من المرحلة النيابية الحالية، وفي لحظة الاستعداد للزمن الانتخابي المقبل، فكان هاجس التموقع حاضرا بقوة في حسابات مختلف الأطراف، بل كان هو المحرك الأساسي لمختلف مراحل التجاذب.

نداء تونس والردة على التوافق

يعيش حزب نداء تونس، منذ تشكيل حكومة حبيب الصيد الأولى، على وقع ارتدادات خياراته، انطلاقا من خيار إدماج حركة النهضة في الحكومة والتوافق معها، مرورا بتصفية الحزب من بعض العناصر الأساسية، وصولا إلى سيطرة حافظ قائد السبسي على الحزب.. خيارات - كما أسلفنا - كانت لها ارتدادات سلبية، حيث ساهمت في تفكك الحزب وإضعافه. فقد شهد الحزب صراعات بلغت درجة الاشتباك بين قياداته بالعصي؛ في مشهد هز من صورته وساهم في نفور العديد من الأنصار منه، وهو ما جعله يخسر الانتخابات الجزئية في ألمانيا، ثم الانتخابات البلدية، وهو ما جره أيضا إلى إعلان الردة عن التوافق مع حركة النهضة، رغم ما وفره هذا التوافق من استقرار واستمرارية.

أعلن حزب نداء تونس عن مرحلة جديدة في التعامل مع حركة نهضة، حيث أسس استراتيجية عمله للمرحلة القادمة على أرضية "المشروع الوطني العصري نقيض مشروع حركة النهضة"، بما يعنيه ذلك من اعتماد لنفس الحيلة التي انطلت على الشعب التونسي سابقا؛ من عودة إلى مربع الاستقطاب والتشكيك في مدنية حركة النهضة، ومحاولة إلصاق تهم العنف والإرهاب بها، وهو أسلوب اعتمده قبيل انتخابات 2014 وساهم في فوزه بالانتخابات التشريعية والرئاسية حينها.

يوسف الشاهد وفرصة التمايز

يعتبر يوسف الشاهد خيار حافظ قائد السبسي لرئاسة الحكومة عوضا عن حبيب الصيد، بعد أن أقنع والده بهذه الشخصية الشابة والقريبة من العائلة والطيّعة، خاصة بعدما أظهره في رئاسة لجنة الإعداد لمؤتمر سوسة من ولاء، ومساهمته في تصعيد حافظ في قيادة الحزب.

تمكن يوسف الشاهد من تولي رئاسة الحكومة بعد تزكيته من النداء والنهضة في البرلمان، واختار ضمن الفريق العامل معه في قصر الحكومة شخصيتين سياسيتين أثارتا بعض اللغط لاحقا، وهما مهدي بن غربية وإياد الدهماني، إلا أنه ورغم الانسجام الحاصل بين رئيس الحكومة ومستشاريه، ورغم ما أظهراه من نجاعة في عملهما لصالحه وصالح الحكومة، فقد أثار وجودهما حفيظة حافظ قائد السبسي وبعض قيادات النداء؛ الذين هاجموا رئيس الحكومة وطالبوه بتنقية محيطه من غير الموالين للحزب، كما طالبوه بأحقية الحزب كجهة حسم في التعيينات والتسميات في مختلف الوظائف.

لم يستجب يوسف الشاهد لرغبات حافظ قائد السبسي وجماعته، منطلقا من حالة الضعف التي أصبحت عليها مؤسسات نداء تونس وخسارته في الانتخابات الجزئية في ألمانيا ثم في الانتخابات البلدية؛ ليطلق العنان لأحلامه وطموحاته، وينطلق في مسار تمرد بلغ به درجة اعتبار حافظ قائد السبسي سبب فشل نداء تونس، وذلك في كلمة موجهة للشعب عبر التلفزيون العمومي.

مكن التمايز الذي حصل بين يوسف الشاهد وحافظ قائد السبسي من بروز كتلة برلمانية جديدة داعمة ليوسف الشاهد وحكومته، وتدعي التنسيق معه، وهي كتلة الائتلاف الوطني. ذهب بعض أعضاء هذه الكتلة النيابية لإعلان إمكانية تأسيس حزب جديد قد يكون يوسف الشاهد زعيمه لخوض الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وهو ما انطلقت فيه فعلا منذ يومين، بعد إعلانها إطلاق مسار بناء حزب جديد قد يبنى جهويا ومحليا بالغاضبين من قيادة نداء تونس، وقد يبني استراتيجيته الانتخابية على أرضية التنافس مع حركة النهضة.

رئيس الجمهورية يصارع دستور 2014

تولى الباجي قائد السبسي رئاسة الجمهورية إثر انتخابات 2014، وإن حاول تجسيم مهامه الدستورية حسبما أقرها الدستور الجديد، إلا أنه وحسب ما يظهر للعيان من سلوكات وما تطلق مؤسسة رئاسة الجمهورية من مبادرات؛ يعيش صراعا كبيرا مع دستور 2014 الذي حد بشكل واسع من صلاحيات رئيس الجمهورية، مقارنة بدستور 1959.

يحاول رئيس الجمهورية منذ توليه منصب الرئاسة؛ الظهور في صورة رئيس كل التونسيين الذي يحفظ وحدة الوطن، وقد أبلى منذ البداية في عدة مواضيع البلاء الحسن، وخاصة حينما واجه كل الإغراءات الداخلية والخارجية لإبعاد حركة النهضة عن الساحة باعتماد وسائل غير ديمقراطية، كما ظهر أكثر من مرة في صورة الرئيس المجمع والحكيم، إلا أن عامل السن، وما أحاطه بنفسه من مستشارين، لا يُعلم عن أغلبهم تشبعا بثقافة الديمقراطية واحترام مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى محاولات نجله الاستقواء به وبمؤسسة رئاسة الجمهورية في معاركه السياسية، جعلته ينزلق أكثر من مرة إلى محاولة تجاوز الدستور، ليعدل في آخر اللحظات بسبب من انتصبوا حراسا للدستور الجديد وأحكامه، وهم أساسا حركة النهضة ويوسف الشاهد، مما جعله يدخل في خصومة معهما ويحاول رد الفعل بأكثر من طريقة، في حدود ما يسمح له الدستور القيام به. وربما إصراره على تمرير قانون المساواة في الإرث، واستقباله لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وعرض ما يدعون من اتهامات لحركة النهضة على أنظار مجلس الأمن القومي، وتلويحه بإمكانية استعمال هذا الملف في معركته مع النهضة.. يُعد في هذا الإطار.

حركة النهضة وتغيير قواعد الاشتباك

ظلت حركة النهضة منذ الانتخابات التشريعية لسنة 2014 محافظة على نفس الخط والمنهج، وعنوانه الكبير هو التوافق مع رئيس الجمهورية، وهو خيار جلب لها هي الأخرى جملة من الانتقادات، حيث يعتبر بعض المنتسبين لها، وحتى قياداتها، أنه في تنزيل هذا الخيار جعل النهضة في أكثر من محطة في تبعية لرئيس الجمهورية وحزبه، وهو ما لا يليق بحركة في حجم النهضة وتاريخها، على حد تعبيرهم. ورغم ما جناه هذا التوجه من ثمار، على غرار تعميق تطبيع الحركة مع مؤسسات الدولة، وحفاظا على استقرار علاقتها بها، فقد ظل المعارضون لهذا الخط ينبهون من نتائجه على الرصيد الانتخابي للحركة، وبالتالي على أدوارها المستقبلية. كما استشعرت قيادة النهضة خطورة مواصلة الاستجابة لطلبات رئيس الجمهورية ونجله، رغم انعدام معقوليتها وتعارضها أحيانا مع الدستور، ووقفت على ذلك إثر الانتخابات البلدية، حيث خسرت الحركة، برغم سياسة الانفتاح التي اتبعتها ومحافظتها على العلامة المميزة لها في الساحة السياسية باعتبارها الحزب الأكثر انضباطا وتنظيما، أكثر من 500 ألف ناخب مقارنة بنتائج 2014، وهو ما جعلها (إثر ما لاحظته من إصرار لرئيس الجمهورية على طرح مبادرة المساواة في الإرث بين الجنسين، وإثر الصراع الأخير بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية) تغيّر في قواعد الاشتباك مع حزب نداء تونس وورئيس الجمهورية، وتسعى لبناء خط جديد تراعي فيه مواصلة تطبيعها مع مؤسسات الدولة ومطالب أنصارها في عدم خرق الدستور، والمحافظة على الاستقرار، حيث انتصرت فعلا لاستقرار الحكومة برئيسها، ومعارضة رئيس الجمهورية وحزب نداء تونس اللذين طالبا بتغيير حكومي واسع يشمل رئاسة الحكومة، بالإضافة إلى تمسكها بعدم التصويت لمبادرة المساواة في الإرث، وهو ما تسبب في إعلان رئيس الجمهورية للقطيعة مع حركة النهضة، والعودة إلى مربع ما قبل 2014 ولكن باستعمال مؤسسات الدولة هذه المرة.

المعارضة ومحاولة الاستفادة من اللحظة

كان الصراع الأخير بين أطراف الحكم فرصة للمعارضة في الاستفادة من اللحظة لحسابها، وسعت مختلف أطرافها في ذلك كل بطريقته وأسلوبه، لتعتمد الجبهة الشعبية سبيل الاستثمار في الدم المعهود، وينزلق التيار الديمقراطي إلى أسلوب الاستعراض و"الشعبوية" الذي دأب عليه، ويجنح حزب نداء تونس، المنتمي للمعارضة حديثا، إلى التملص من سلبيات حكمه، ومحاولة الاستفادة من تواجده في بعض مؤسسات الدولة لاستهداف خصومه.

نلاحظ من خلال ما تقدم أن منطلقات التجاذب في الحياة السياسية في تونس هي بالأساس تكتيكات انتخابية؛ يحاول كل طرف من أطراف النزاع فيها تحصيل ما أمكن من نقاط تكون له رصيد في الحملة الانتخابية القادمة، وتمكنه من مواقع تكون وسيلة للعب أدوار متقدمة في العهدة المقبلة، وهو ما يعتبر طبيعيا في تجربة ديمقراطية ناشئة؛ المطمئن فيها هو التمكن من إقامة مؤسسات وقوانين ضامنة لعدم العودة لمربع الدكتاتورية، على غرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمجلس الأعلى للقضاء، فضلا عن حيوية المجتمع المدني الديمقراطي في البلاد ومراهنة القوى الدولية على استقرار البلاد، آملا بأن يتم التخلي لاحقا عن الأساليب غير الديمقراطية في التنافس من قبل الجميع، وأن تكون المنافسة على أساس برامج تتقدم بالبلاد، وتهدف لتوفير مقومات العيش الكريم للشعب التونسي.