قضايا وآراء

العرب وبوابة المتاهة الكبرى

1300x600
مثلت الأزمة الخليجية الراهنة نقطة فارقة في مسار السياسة العربية المعاصرة، تلك النقطة التي قد تدفع بالمنطقة إلى مرحلة اللا عودة والقطيعة مع المرحلة السابقة، وكل ما تحقق خلالها من تراكم -ولو صوري- فيما يتعلق بالدولة ورؤيتها رغم فشل مشروع الدولة الوطنية القطرية، التي أفرزتها تفاهمات سايكس بيكو، قبل مئة عام من الآن.

ما تشهده المنطقة اليوم، هو فصل جديد من فصول التحضيرات لمرحلة جديدة، سيغيب فيها العربي ككل، مرة كفاعل رئيس فيها، وسينوب عنه خصومه الذين يتحينون الفرصة مرة أخرى، لإعادة تشكيل المنطقة، وفقا لمكونات طائفية وقبائلية لا رابط بينها سوى الفوضى والاقتتال القبلي والمذهبي الدائم، مرحلة واضحة عناوينها من الأزمة الخليجية الأخيرة التي يتم بموجبها شيطنة كل القوى الحية، والدفع بها نحو الزوايا الضيقة، والاتهامات والتصنيفات الجاهزة والمفبركة.

كانت منطقة الخليج هي الاستثناء العربي الوحيد والأخير واحة للاستقرار السياسي النسبي، لكن هذا الاستقرار لم يكن نتيجة للاستقرار سياسي حقيقي، إنما للاستقرار المالي الذي يقوم على الاقتصاد الريعي لا الإنتاجي، بمعنى أن الاستقرار ليس استقرارا حقيقيا يمكن الركون عليه في مواجهات تحولات المنطقة وتحدياتها الكبيرة التي يأتي في مقدماتها الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه المنطقة كانعكاس لطبيعة أنظمتها العشائرية. 

عدا عن الفراغ الذي تركه سقوط بغداد، وتتالي السقوط لعواصم الطوق العربي دمشق وبيروت وصنعاء، وتراجع القاهرة، بفعل الانقلاب، وملء هذا الفراغ من قبل المشروع الإيراني، الذي يرى أنه الأولى بنفط المنطقة ومقدساتها.

مع تشكيل ما سمي بالتحالف العربي الذي أعلن عنه فجر الـ26 آذار/ مارس 2015م، تفاءل الجميع بإمكانية لملمة المنطقة جراحها، وتعيد ترتيب أوراقها لمواجهة التحديات التي تهدد وجودها، واصطف الجميع خلف قيادة المملكة لهذا التحالف، حيث تمثل المملكة آخر دعائم معادلة الاستقرار العربي بعد سقوط العراق وسوريا ومصر واليمن في أتون الفوضى وعدم الاستقرار، الذي بات يهدد هذه البلدان بالتقسيم والاقتتال الدائم بين مكوناته القبلية والمذهبية والطائفية.

بعد أكثر من عامين من تشكيل التحالف العربي، الذي فشل في تحقيق كامل أهدافه المعلنة من استعادة الشرعية اليمنية ومحاصرة النفوذ الإيراني والقضاء عليه، بدا أن العكس تماما هو الذي تحقق فلم يتم استعادة الشرعية، وإنما تم تشكيل مليشيات أخرى بديلة عن الشرعية في المناطق المحررة، خاصة في جنوب اليمن، حيث لم تتمكن الشرعية من العودة لبسط سيادتها ونفوذها هناك.

وملء ذلك الفراغ من قبل مليشيات ذات ولاءات غير وطنية وقبلية ومناطقية يجعلها تمثل تهديدا للأمن والسلم الاجتماعي في هذه المناطق فضلا عن أمن واستقرار المنطقة كلها، لما لهذه المليشيات من ارتباطات بعناصر متطرفة ذات صلات بأجهزة مخابرات خارجية توظف ورقة الإرهاب في تصفية حسابات وعداوات سياسية.

كشفت الأزمة الخليجية الراهنة عن حجم البون الشاسع بين هذه الأنظمة وشعوبها، وتمثل ذلك بالتشريعات الارتجالية التي تجرم تضامن أبناء هذه البلدان مع بعضهم وبعضا، وتحاسبهم على مجرد البوح بالمشاعر، ما يعكس حالة من الضياع وعدم الانسجام بين هذه الأنظمة وشعوبها، وتحولهم إلى أشبه بحكام منتدبين على هذه المجتمعات للأسف.

في إحدى الندوات السياسية التي أقيمت قبل شهرين من الآن في مدينة إسطنبول التركية، دار نقاش حاد بيني وبين الأكاديمي الكويتي الدكتور عبد الله الشائجي، حول جزئية مهمة استبقت هذه الأزمة ومفادها قول الدكتور بأن الخليج العربي أصبح قائدا للمنطقة العربية، وأنه بما لديه من إعلام ومال واستقرار أصبح يمتلك قوى ناعمة لإدارة المشهد العربي كله، فبادرته بالقول معقبا علي ما طرحه.

كان ابن خلدون أبو علم الاجتماع يقول إن العرب لهم قلب وأطراف فقلبهم هي بغداد ودمشق والأطراف هي بقية الحواضر العربية، فإذا ما مرض القلب ماتت الأطراف، وإني لأجد مقولة ابن خلدون هذه أكثر انطباقا اليوم على واقعنا العربي من أي وقت مضى، فبسقوط بغداد ودمشق لم يجد العرب سبيلا للاستقرار والراحة، وأن أي حالة استقرار قد تلوح في الأفق فليست أكثر من وهم وسراب خادع، مضيفا بالقول  ما عمر الأطراف صارت قلبا يا دكتور.

رد علي الدكتور عبد الله محتدا بانفعال، بالقول إننا كعرب لا زال عندنا عقدة نقص بالنظر إلى الإخوة في الخليج، وأننا لا زلنا ننظر لهم أنهم لا زالوا مجرد مجاميع من البدو الغارقين في الثراء والمتعة، ولم ندرك بعد أن الخليجين صاروا قادة للمنطقة العربية كلها. 

رددت عليه إننا كعرب والخليجين في مقدمة هذه الأمة عربا، ليس عندنا مشكلة في من يقود هذه الأمة التي تتقاذفها الأخطار والأزمات والحروب التي تعيد تركيب المنطقة على أسس طائفية ومذهبية مقيتة، ليس عندنا مشكلة بمن يقود، ولكن كيف يقود.

فالمنطقة في ظل القيادة الخليجية ذاهبة للضياع والفوضى والاقتتال والانقسام الطائفي والمذهبي، وكل ذلك بفعل بعض المال الخليجي الذي تحول إلى ما يشبه خزينة تدر أموالا تشعل حروبا وانقلابات عسكرية لمواجهة إرادة الشعوب التي هبت مع ثورات الربيع العربي، وقطعت شوطا، كأن له أن يأتي أكله لولا هذه الأموال التي تتدفق لإشعال الحرائق والانقلابات من مصر إلى ليبيا إلى اليمن وقبلها سوريا والعراق.

واهم من يظن أنه سينجو من العبث بالنار من حوله في منازل جيرانه وإخوانه، وهذا ما نراه اليوم بكل وضوح من أزمة خليجية توشك أن تشعل المنطقة حربا عالمية لن تبقي ولن تذر، إذا لم يتدارك عقلاء الخليج حماقة تفكير البعض وتحوله للعب دور الشرير في كل مشاكل المنطقة.

بسقوط بغداد سقطت قلعة البوابة الشرقية للعالم العربي والخليج تحديدا، وسقوط دمشق أيضا كان سقوطا لقلعة أخرى للبوابة الشمالية للخليج، وسقوط صنعاء سقوط بوابة الأمن القومي العربي الجنوبية، ما جعل الخليج يبقى وحيدا بلا أي خطوط دفاعية فاعلة يمكن الاعتماد عليها. 

ولهذا باتت دول الخليج اليوم للأسف في وضع لا تحسد عليه، ورغم هذا كله، لا زال هناك من يعتقد أنه قادر على الخروج من هذا المأزق والتهديد الوجودي لهذه البلدان التي يكمن فيها العديد من الخلايا النائمة التابعة لإيران، عدا عن الصراعات البينية بين أفراد هذه الأسر الحاكمة.

ورغم كل هذا هناك من يدفع ظنا منه أنه سينجو أو سيعمل على تصدير مشاكله الداخلية باختلاق أزمة مع قطر، والدفع بها نحو التصعيد الذي سيؤدي إلى تفجر الوضع في المنطقة، التي تربض على بحيرة من الطاقة والأطماع والمخططات الاستعمارية، في حالة تعكس حالة من الغباء السياسي والمراهقة السياسية التي لا تعي جيدا ما الذي يتربص بالمنطقة كلها، بعد أن سقطت كل العواصم العربية التي ستليها بقية العواصم كأحجار الديمنو لا سمح الله.

إن العرب اليوم في حالة من فقدان الفاعلية والوزن الدوليين والضياع والشعور بالمهانة جراء سياسات عدمية لما أطلق عليها الدكتور الشائجي مركز الثقل العربي الراهن، أي الخليج، وأنها أصبحت تمتلك وتقود المنطقة، وللأسف تقودها للجحيم، وهو ما عكسته حقيقة أزمة قطر الأخيرة، التي ثبت أن قيادتها أكثر حصافة أخلاقية في تعاملها بكل مسؤولية مع هذه الأزمة، بعكس الطرف المقابل الذي حاول بهذه الأزمة الهروب إلى الأمام من مشاكله الداخلية، وفشله في إدارة الحرب والأزمات التي تحيط في المنطقة من العراق إلى سوريا إلى اليمن. 

هذه الحروب التي أسهم المال الخليجي بشكل كبير في تأجيجها، ظنا من أصحابه أنها ستحميها من تداعيات ثورات الربيع العربي التي كانت تمثل طوق نجاة للعرب والمنطقة كلها، وفي مقدمتهم الأنظمة الخليجية التي كانت في أمس الحاجة لإصلاحات سياسية، بدلا من تقديم أنفسها وكيلا للأنظمة الساقطة، التي أسقطتها ثورات الربيع العربي.