قضايا وآراء

قطر: حاصروها سياسيا فحاصرتهم أخلاقيا

1300x600
بعد مرور هذا الوقت على الأزمة الخليجية، بات من الواضح أن هناك جهودا دبلوماسية كبيرة تُبْذَل من أجل تذليل العقبات التي لا زالت تقف عائقا أمام حلها. وكان أبرز هذه الجهود، جهود الوساطة الكويتية والموقف الأمريكي الداعي لإيجاد حل لهذه الأزمة بين دول الخليج التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية علاقات استراتيجية.

كان هذا الحدث ولا زال هو الأبرز خلال الأيام الماضية، وأربك الكثير من حكومات دول العالم، وشغل الرأي العام، حيث انقسمت المواقف بين من أيد خطوة حصار دولة قطر أو عارضها أو وقف محايدا بدون التعبير عن أي موقف تجاه هذا الحصار الذي لا زال يسبب أزمة حقيقية بين دول الخليج؛ التي انقسمت على نفسها بين مؤيد لهذه الخطوة، وهي الدول التي تبنتها والمتمثلة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وبين من عارضها، مثل سلطنة عمان التي حرصت على الوقوف إلى جانب دولة قطر، حيث ضاعفت إمداداتها من المواد الغذائية حتى تغطي العجز الناجم عن هذا الحصار، كما أن الكويت حرصت على أن تقف على الحياد وتلعب دور الوسيط لما لأميرها من مكانة اعتبارية كبيرة بين قادة هذه الدول الخليجية.

يذكر أنه تم الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر من عدة دول خليجية وعربية وغيرها من دول العالم الصغيرة، ترافق ذلك مع هجوم إعلامي وسياسي شرس، وقطع الاتصالات بكل جوانبها، وحظر الطيران، ووضع شروط استسلام، وإغلاق وحظر مواقع وقنوات ومنابر إعلامية، وإعلان قائمة إرهابية في سياق استكمال الخطوات المباغتة التي ترافقت مع هذه الخطوة غير المسبوقة، وذلك من أجل تطويع وتركيع دولة قطر لضمان جلبها لحظيرة الدول الخليجية الأخرى بزعامة المملكة العربية السعودية.

لكن بالرغم من قوة الهجوم الذي ترافق مع هذه الخطوة السياسية الشرسة التي يجد أطرافها بأن لها مبرراتها التي تتوافق مع تحديات المرحلة القادمة، كان رد قطر على ذلك هادئا ومتماسكا، مما ضمن لها حشد قوة الحلفاء وخاصة تركيا وإيران وسلطنة عمان ليصطفوا إلى جانبها في هذه الأزمة، وبالتالي أفشلت هذه العوامل الاستفراد بها، وهذا أدى إلى فشل حقيقي للمحاولات التي هدفت إلى خلق زخم إقليمي ودولي يشرعن خطوة عزل دولة قطر أو فرض وصاية عليها.

كما أنه كان واضحا منذ البداية بأن الدبلوماسية القطرية أجادت التعاطي مع هذه الأزمة، وحرصت على عدم الانزلاق في الجدل السياسي والإعلامي الذي لا زال يرافق هذه الأزمة، وركزت على تفكيك الهجمة الناجمة عنها وإفشالها بهدوء، وهذا مهد إلى نجاح الجهود الإعلامية القطرية التي بدأت تفند حقيقة أبعاد هذا الحصار وتحشد تعاطفا دوليا، مما خلق حالة من التعاطف الشعبي مع الموقف القطري بشكل غير مسبوق، وهذا جعل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يلجأ لتخفيف حدة اللهجة السعودية في وصف الأزمة القائمة، حينما غير من وصف الإجراءات التي تم اتخاذها ضد دولة قطر، وذلك خلال لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في العاصمة الأمريكية واشنطن، حينما وصف الوضع القائم مع قطر بأنه ليس حصارا، ولكنه مقاطعة في سياق غضب سعودي ورغبة بتحقيق متطلبات خليجية تتعلق بمصلحة هذه الدول مجتمعة، وذلك من خلال ضمان توقف قطر عن دعم بعض الجماعات "الإرهابية" والتساوق مع الاستراتيجية الخليجية العامة وعدم الخروج عنها.

هنا لا بد من الإشارة إلى أسباب وأهداف نشوب هذه الأزمة:

أولا: تسريب أحاديث منقولة عن أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والتي زعمت بأنه أشار فيها إلى أمور اعتبرتها دول الخليج الأخرى بالغة الخطورة، وتمس بأمنها وباستراتيجيتها ومصالحها في المنطقة.

ثانيا: هناك حاجة لضمان دخول دولة قطر إلى حظيرة الدول الخليجية بزعامة المملكة العربية السعودية، والالتزام برؤيتها حيال التحديات التي تواجه المنطقة وعدم التشويش عليها.

ثالثا: رغبة السعودية والإمارات ومصر بتحجيم تأثير الإخوان المسلمين داخل دولة قطر، وبالتالي شل حركتهم ودورهم في المنطقة، وذلك لضمان عدم وجود أي معارضة ذات تأثير فيما يتعلق بالترتيبات الجديدة للمنطقة.

رابعا: تجفيف منابع الدعم لحركة حماس الفلسطينية لضمان تطويعها وجلبها للعملية السلمية المنشودة مع إسرائيل، بما يتناسب مع متطلبات الرؤية الجديدة التي تتعلق بالحاجة لتشكيل حلف سني - إسرائيلي في مواجهة الحلف الشيعي - الإيراني.

من هنا برزت عدة تخوفات كانت تمثل سببا رئيسيا في فشل تحقيق أهداف هذه الأزمة بشكل سريع ومنها:

1- فيما يتعلق بالجانب السعودي، الذي خشي من أن ينجم عن أي تصعيد إضافي ضد دولة قطر، مواجهة عسكرية تؤدي إلى إغراقها في وحل تصادم شامل مع كل من تركيا وإيران اللتين دخلتا على خط الأزمة إلى جانب قطر، لتعدلا من حالة التوازن في مواجهة هذا التحالف الذي يتصدر هذه الأزمة، وكان ذلك في سياق متطلبات مصالح كل دولة منهما وتحالفها مع دولة قطر، ومن ثم أصبح هناك خشية من أن ذلك قد يؤدي إلى حصول اختراقات جوهرية في الجبهة العسكرية الجنوبية مع اليمن التي تخوض فيها المملكة العربية السعودية حرب استنزاف، استنزفت مواردها المالية، وذلك مع الحوثيين الموالين لإيران، وما سينجم عن ذلك من تأثيرات سلبية للغاية على الأمن في المنطقة برمتها إن تم فتح جبهات عسكرية أخرى.

2- فيما يتعلق بالجانب القطري، يبدو بأن قطر خشيت من تداعيات الخضوع لمتطلبات السعودية والدول الخليجية الأخرى، وأن ذلك سيجردها من عوامل القوة التي تمتلكها الآن والتي جعلت منها دولة ذات نفوذ وتأثير في المنطقة، بالرغم من صغر جغرافيتها وأنها تعتبر دولة حبيسة، وبالتالي سيجعلها تابعة سياسيا ولربما تصبح تحت الوصاية السعودية، وهذا مالا يريده القطريون انسجاما مع تجارب تاريخية في العلاقة بين البلدين.

3- فيما يتعلق بالموقف الدولي، كان واضحا من المواقف التي عبرت عنها ألمانيا وروسيا وكندا وإسبانيا وفرنسا وعدة دول أخرى بأن هناك ثمة تخوفات من التصعيد الحاصل بين دول الخليج، ولذلك لم تبارك هذه الدول الخطوة السعودية بل دعت إلى إيجاد حلول منطقية من خلال الحوار بين أطراف الأزمة، وذلك خشية من أن تؤول الأمور إلى مواجهة عسكرية تؤثر بشكل مباشر على مصالح هذه الدول مع دول الخليج بشكل عام، وهي التي تتمتع بملكيتها لمخزون هائل من النفط والغاز الطبيعي، وبالتالي سيكون لأي موقف غير متوازن لهذه الدول تداعيات وتأثيرات سلبية ومعقدة للغاية على الاقتصاد الدولي بشكل عام.

4- فيما يتعلق بالموقف العربي، كانت هناك مواقف لعدة دول عربية منها الجزائر وتونس والمغرب التي رفضت جميعها الانسياق مع أهداف هذه الأزمة لصالح طرف ضد الآخر، ورفضت التعاطي مع فكرة حصار دولة قطر خشية من أن تصطف إلى جانب فريق على حساب الأخر، وما سيكون لذلك من تداعيات وتبعات سلبية على العلاقات مع أي طرف منهم لاحقا، لا بل فإن المغرب بادر بإرسال شحنات غذائية إلى دولة قطر لتغطية ما نجم عن هذا الحصار، كما عرض التوسط لحل هذه الأزمة، وذلك رغبة منها بالحفاظ على توازن العلاقات مع كل الأطراف من جهة، وعدم التورط في مثل هذه الأزمات التي تتعلق بمجتمعات ذات خصوصية بدوية وقبائلية تمتلك آلية خاصة بها؛ فيما يتعلق بحل أزماتها ومشاكلها فيما بينهم.

هنا من المفيد التطرق للعوامل التي أدت إلى فشل تحقيق أهداف هذه الأزمة:

أولا: عدم حماسة المجتمع الدولي للتعاطي معها بشكل غير متوازن، أو المساهمة في شرعنة متطلبات تحقيقها التي تمس بسيادة دولة قطر بشكل مباشر.

ثانيا: قوة العمل الدبلوماسي القطري الذي تعاطى مع هذه الأزمة بهدوء وحرفية عالية؛ أدت إلى احتواء تأثيراتها وتسهيل نقل وجهة النظر القطرية حيال هذه الأزمة بكل أريحية.

ثالثا: تقلب الموقف الأمريكي حيال هذه الأزمة وعدم الوضوح في اتخاذ موقف نهائي، إلى جانب أي طرف ضد الآخر من خلال تباين المواقف بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، مما خلق حالة من الإرباك في القدرة على اتخاذ خطوات تصعيدية إضافية، وهذا يعد سلوكا شرعيا بالغا في الذكاء حتى لو أخذنا بفرضية أنه كله عفويا وغير مبرمجا، وذلك في سياق ضمان خدمة المصالح الأمريكية.

رابعا: رفض الأمم المتحدة اعتماد قائمة اللجنة العربية (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) التي صنفت بعض الأفراد والمؤسسات الخليجية ضمن قائمة الإرهاب، مما أفقد أهداف هذه الحملة الزخم السياسي والإعلامي المطلوب لنجاحها.

خامسا: قوة الإعلام القطري، وخاصة قناة الجزيرة، في طرح وجهة النظر القطرية في مواجهة وجهة النظر الأخرى؛ أحدثت إرباكا في التأثير على الرأي العام الذي رفض بشكل عام التساوق والتعاطف مع أهداف هذه الحملة ضد دولة قطر، بغض النظر عن الاتفاق مع سياساتها أو الاختلاف معها.

سادسا: رفض دولة قطر التنازل عن علاقاتها مع حلفائها، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الإخوان المسلمين وإيران تحت أي ظرف، هذا إلى جانب الموقف التركي المتقدم جدا في مساندتها سياسيا وإعلاميا وعسكريا والوقوف إلى جانبها في هذه الأزمة؛ كان سببا رئيسيا في فشل تحقيق أهداف هذه الأزمة بالسرعة المبتغاة حتى الآن.

سابعا: سرعة الرد القطري الذي تلخص بخطوات عملية فاعلة، منها عقد صفقة عسكرية مبدئية بقيمة 12 مليار دولار أمريكي، ضمنت تحييد الموقف الأمريكي من هذه الأزمة.

ثامنا: قوة الرد القطري من خلال إعلان قطر عن قرار نقل جميع استثماراتها في جبل علي في دبي إلى سلطنة عمان، أدى إلى زيادة الثقة بقدرة قطر على اتخاذ مواقف صارمة في التعاطي مع التحديات التي تواجهها.

تاسعا: سرعة تصرف قطر بإيجاد بدائل فاعلة وحيوية لتعويض ما نجم عن الحصار الذي فُرِضَ عليها، وذلك من خلال إيجاد مسارات بديلة لاستقبال المواد الغذائية، أدى إلى تهدئة الآثار السلبية الناجمة عن ذلك في الساحة الداخلية القطرية.

في تقديري أن ما حققته هذه الأزمة بشكل عام هو الدفع بحركة حماس الفلسطينية التي لم يتم تصنيفها ضمن القائمة الخليجية التي تتعلق بالإرهاب؛ لإدراك أن الظروف الإقليمية لم تعد تحتمل الوضع القائم الخاص بقطاع غزة، وأن حلفاءها وداعميها في المنطقة يواجهون ضغوطات هائلة، نجم عن ذلك أول حراك إيجابي، وهو التعاطي مع المتطلبات المصرية الأمنية بإيجابية مطلقة، وهذه أدت إلى فتح حوار آخر مع أطراف فلسطينية أخرى للمساهمة في تغيير المعادلة الفلسطينية القائمة والعمل على رفع الحصار عن قطاع غزة؛ استعدادا لمتطلبات مرحلة قادمة باتت ملامحها تدور بالأفق، وعلى ما يبدو بأنها لم تعد بعيدة.

كما أنه مما لا شك فيه بأن دولة قطر واجهت حصارها السياسي بحكمة، وذلك من خلال محاصرة الأطراف الأخرى أخلاقيا، وجعلهم في موقف دفاع عن أهداف حملتهم هذه ضدها، كما أن هذه الأزمة ستحد من حرية الإخوان المسلمين في المنطقة، بالرغم من أنه بات واضحا أن الموقف القطري لم يعد ضعيفا كما بدا في الساعات الأولى من هذه الأزمة. ولذلك وبعيدا عن النتائج السلبية التي ستنجم عن هذه الأزمة لاحقا، خاصة فيما يتعلق بتماسك واستمرار دول مجلس التعاون الخليجي بشكله الحالي، وعدم ضمان الحفاظ على العلاقات بين شعوب دول الخليج التي تربطها القيم والمبادئ البدوية والقبائلية الأصيلة، فإن هذه الأزمة ستعيد من جديد رسم العلاقات العربية والتحالفات في المنطقة، كما أنها ستعيد رسم العلاقات الخليجية في سياق مفاهيم جديدة، مع عدم إغفال إمكانية أن يكون هناك ضحايا لهذه الأزمة لترتسم ملامح مرحلة جديدة بتفاصيلٍ مختلفة وجديدة.

أخيرا، نتمنى بدورنا أن تمر هذه الأزمة بين الأشقاء العرب؛ بدون ترسيخ لأي انقسامات فيما بينهم أو تعميق شروخ ستؤدي إلى جفاء كبير بين شعوبهم، وأن يتم التعالي على الخلافات فيما بينهم، والنظر بأمل لمستقبل أفضل وأكثر ازدهارا ورخاء لشعوب المنطقة برمتها، من خلال استخدام الموارد التي تمتلكها هذه الدول مجتمعة من أجل بناء الإنسان وتحقيق آماله وتطلعاته؛ بأن يعيش بأمن وأمان وسلام مع باقي شعوب المنطقة.