مقالات مختارة

ماذا يحدث عندما تنشر غسيل إسرائيل على الملأ؟

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
بعد دعوة منظمة بتسيلم في الأمم المتحدة وقرار القائمة المشتركة مقاطعة جنازة بيريز، يجد الإسرائيليون أنفسهم مضطرين إما لدعم الاحتلال أو معارضته.
 
عضو الكنيسيت دافيد بيتان جديد نسبيا على السياسة القومية في إسرائيل. بعد أن عمل في السياسة المحلية إلى حين وقع انتخابه عضوا في البرلمان للمرة الأولى قبل ما يقرب من ثمانية عشر شهرا عن حزب الليكود. 
 
ومع ذلك يحتل بيتان الآن موقعا مهما ويقوم بدور مؤثر بوصفه رئيس الائتلاف اليميني الحاكم داخل البرلمان الإسرائيلي، وهو الائتلاف الداعم لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. 
 
ولذلك حينما صرح بيتان للتلفزيون الإسرائيلي يوم الجمعة أنه يبحث عن سبل تمكنه من نزع الجنسية عن هاغاي إلعاد، المدير التنفيذي لمنظمة بتسيلم لحقوق الإنسان، كان لكلماته وقعها. 
 
لقد جاءت هذه الدعوة غير المسبوقة لحرمان يهودي إسرائيلي من جنسيته بعد أسبوع من ظهور إلعاد أمام جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي خصصت للحديث عن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. 
 
لم يكن توصيفه للانتهاكات الدائمة والكثيفة لحقوق الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يقرب من خمسين عاما هو ما أثار غضب الإسرائيليين عليه، فمن المعلوم أن منظمة بتسيلم أصدرت على مدى سبعة وعشرين عاما مضت تقارير مفصلة تصف فيها مثل هذه الانتهاكات. 
 
نشر الغسيل
 
ما أغضب كثيرا من الإسرائيليين هو حديث إلعاد عن هذه الانتهاكات أمام أعلى هيئة دولية، فكان ذلك بمثابة نشر الغسيل أمام العالم الخارجي. والأهم من ذلك أنه طالب المجتمع الدولي جهارا نهارا بالتدخل من أجل وضع حد للاحتلال. 
 
خاطب إلعاد مجلس الأمن الدولي قائلا: "لن تتوقف إسرائيل عن كونها قوة غاشمة ظالمة لأنها ستصحو ذات يوم وقد أدركت بكل بساطة مدى وحشية السياسات التي تنتهجها."
 
وأضاف إلعاد إن المجتمع الدولي لا ينبغي له أن يرضي نفسه بمجرد تكرار التنديدات وإصدار "الكلمات الفارغة من كل مضمون"، مؤكدا أنه "ينبغي إحقاق الحقوق الفلسطينية وينبغي إنهاء الاحتلال، ويتوجب على مجلس الأمن أن يفعل شيئا إزاء ذلك، وأنه قد آن الأوان ليقوم بهذا الفعل في الحال."
 
إلا أن إلعاد لم يبين بالضبط طبيعة "الفعل" الدولي المطلوب، ولعله كان يشير بذلك إلى العقوبات. ومع ذلك، لا غرو في أنه انتهك محرما في نظر الرأي العام الإسرائيلي عن سبق إصرار وترصد عندما دعا مجلس الأمن إلى استخدام سلطانه ونفوذه ضد الحكومة الإسرائيلية. 
 
لا عجب إذ ذاك أن تعنون صحيفة يديعوت أحرونوت لتقريرها حول خطاب إلعاد بعبارة "بتسيلم في مواجهة إسرائيل". 
 
التعجيل بنقطة الانقلاب
 
كانت توصية بيتان بحرمان إلعاد من جنسيته الإسرائيلية -وهو أمر مستحيل الحدوث بحسب القوانين الإسرائيلية الحالية- ذروة ما وصل إليه سيل الهجمات التي شنت ضده من قبل الوزراء وأعضاء البرلمان الذين وصموه بالخائن، وكذلك من قبل الآلاف من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين طالبوا بإعدامه. 
 
ولكن، بالرغم من أن إلعاد وضع نفسه في موقف بالغ الخطورة إلا أن ما جرى معه ليس حكاية شخصية فحسب. وقد شرح إلعاد في مقال نشرته له صحيفة هآرتس بأنه وزملاءه في منظمة بتسيلم وصلوا إلى خلاصة مفادها أنه "لا يمكن للمجتمع الإسرائيلي، انطلاقا من رغبة ذاتية ودونما مساعدة من أحد، أن يخطر بباله وضع حد للكابوس." 
 
وبذلك يكون إلعاد قد لخص ما يشعر به الكثيرون في اليسار الإسرائيلي الراديكالي، وهو أن التغيير لن يأتي من دخل المجتمع الإسرائيلي، ولذلك من غير المجدي محاولة إقناعه بإنهاء الاحتلال. ويخلص هذا الموقف إلى أن إسرائيل ستكون مستعدة للتنازل فقط عندما تتكبد الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي تكلفة باهظة جراء استمرار الاستيطان واستمرار حرمان الفلسطينيين من حقوقهم. 
 
 
في مثل هذه الحالة تصبح مهمة منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية مثل بتسيلم وكسر الصمت وغيرهما هي التوقف عن البحث عن الكلمات المعسولة عند وصف الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة سعيا منها لإرضاء الجمهور الإسرائيلي. 
 
بل على العكس، ينبغي عليها أن تزيد من نقدها وإبراز كل ما في الاحتلال من ظلم وتوحش، وذلك أن مسألة ما إذا كان الرأي العام الإسرائيلي يحب هذه المنظمات أم لا باتت أقل أهمية بل وحتى بلا معنى. 
 
الانتفاض على التقاليد
 
يمثل هذا التوجه قطيعة مع تقليد قديم سار عليه اليسار اليهودي الإسرائيلي، حيث أن زعماء اليسار، ولسنوات طويلة، سعوا إلى تقديم أنفسهم على أنهم صهاينة موالون هدفهم من الدفع باتجاه إبرام معاهدة سلام هو الحفاظ على مصلحة إسرائيل وعلى المشروع الصهيوني وحماية أمن الدولة اليهودية. 
 
خذ على سبيل المثال مؤسسي وزعماء حركة السلام الآن الذين طالما تفاخروا بخدمتهم العسكرية، وهم الذين كانوا يعتبرون أن واحدا من المصادر الأساسية للشرعية السياسية التي كان يتمتع بها شمعون بيريز كان دوره في بناء القدرة النووية الإسرائيلية. 
 
والآن يأتي إلعد وحلفاؤه الذين يزعمون بأن احتلال الأراضي الفلسطينية لم يعد شأنا إسرائيليا داخليا، وأنه مادام أمرا غير مشروع، فلا مفر من أن يتوقف. ما نشهده هو تخل عن وعي وإدراك عن محاولة إقناع الرأي العام اليهودي في إسرائيل. ما من شك في أن ردود الأفعال على خطاب إلعد كانت عنيفة، ولكنها لم تكن مفاجئة على الإطلاق. 
 
ما هو مثير للانتباه أن هذا التغير في مزاج التيار اليهودي اليساري الراديكالي في إسرائيل يقابله حراك مشابه في أوساط الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل، ولا أدل على ذلك من قرار القائمة المشتركة -والتي تمثل إلى حد كبير مجمل هذه الأقلية- مقاطعة جنازة بيريز قبل أسابيع قليلة، حيث اعتبر ذلك تحدِ للرأي العام اليهودي في إسرائيل. 
 
وجه هذا القرار رسالة ضمنية إلى الجمهور اليهودي مفادها أن هذا الرجل الذي تحتفون به وتعظمونه كرمز للسلام هو نفسه رجل الحرب كما تراه الأقلية الفلسطينية. قرار المقاطعة هذا فهم على أنه إجراءات طلاق قام بها الفلسطينيون -حتى لو لم يكونوا يقصدون ذلك أصلا- للنأي بأنفسهم عن الحوار مع الأغلبية اليهودية الإسرائيلية، بما في ذلك ما يسمى باليسار الإسرائيلي. 
 
في مقال نشرته له صحيفة هآرتس زعم المفكر الفلسطيني الرائد أسعد غانم أن قرار القائمة المشتركة مقاطعة جنازة بيريز، وذلك ضد رغبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس من جهة واليسار الصهيوني الإسرائيلي من جهة أخرى، كان إجراء رمزيا مهما سعت من خلاله الأقلية الفلسطينية إلى تحرير نفسها من الاعتماد على اليسار الصهيوني الإسرائيلي والركون إليه. 
 
باختصار، أقر أسعد غانم في مقاله بأن هذا القرار يزيد الهوة اتساعا بين الأقلية الفلسطينية والأغلبية اليهودية في إسرائيل. ونفس الشيء ينطبق على قرار بتسيلم التقدم بشهادة أمام مجلس الأمن الدولي. 
 
كلا القرارين يسهمان في زيادة الاستقطاب في الخطاب السياسي في إسرائيل وكذلك في الغياب العملي لأي أرضية وسطية مشتركة، بحيث تصبح أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما: إما أن تدعم الاحتلال الإسرائيلي أو أن تقف ضده. 
 
طاقات متجددة
 
ليكن معلوما أن المعركة السياسية التي تدور رحاها داخل إسرائيل ليست بين معسكرين متكافئين. فالمعسكر الذي يمثل اليسار الراديكالي، والذي يشتمل على بتسيلم وكسر الصمت ومن على شاكلتهما، معسكر صغير للغاية. صحيح أن الأقلية الفلسطينية ليست صغيرة إلا أنها محرومة من أي نفوذ سياسي يمكن أن يعول عليه. 
 
كلا الطرفين يتعرضان لهجمات شرسة لن تكون حياتهما يسيرة بسببها. وثمة مخاوف مؤكدة من التوجه نحو اتخاذ إجراءات إضافية غير ديمقراطية ضدهما، ومن أمثلة ذلك مبادرة بيتان آنفة الذكر. ومع ذلك، بدلا من أن تؤدي مثل هذه التحركات إلى إخماد أي نقاش سياسي حول مصير الاحتلال الإسرائيلي فإنها تشجع على المزيد من الحوار وتتيح مزيدا من المجال أمامه. 
 
منذ الخطاب الذي ألقاه إلعاد في الأمم المتحدة تضاعفت التبرعات الشخصية التي تلقتها بتسيلم خمسة أضعاف، وتوجه آلاف الإسرائيليين للاستماع إلى تامر نافر، مغني الراب الفلسطيني الإسرائيلي، بالرغم من الجهود المحمومة التي بذلتها وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف لإلغاء الحفل في حيفا، وشارك ما يزيد عن عشرة آلاف إسرائيلي، معظمهم من النساء، في مسيرة في القدس دعما لاتفاقية السلام. وكل هذا حدث فقط خلال الأسبوع المنصرم. 
 
على الرغم من أنها معزولة وصغيرة، يبدو أن المعارضة الداخلية في إسرائيل -سواء اليهودية منها أو الفلسطينية- تصبح يوما بعد يوم أكثر تماسكا وأكثر شراسة وأكثر تصميما. 
 
لسنوات طويلة، على الأقل منذ الانتفاضة الثانية في عام 2000، وطن يسار الوسط الإسرائيلي نفسه على تقبل واقع الاحتلال والاستيطان على اعتبار أنه أمر قاهر مفروض عليه. أما الآن، فقد بادرت بتسيلم من ناحية والقائمة المشتركة من ناحية أخرى إلى نفض هذا التقليد عن كاهلهما. لا ريب أنها لحظة خطرة، ولكن قد تكون أيضا لحظة أمل ورجاء. 
 
ميدل إيست آي
0
التعليقات (0)