كتاب عربي 21

لماذا الشاهد وليس الشهداء؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
وقعت الفأس في الرأس، أو حصل ما في الصدور، أو قضى الله أمرا كان مفعولا.. في كل المجازات اللغوية لم نخرج من قانون التوريث الاجتماعي. لقد عادت السلطة إلى من خوّلت له قوانين الاجتماع الإنساني أن يتحكم فيمن وضعته نفس القوانين في موقع المحتج، أو المؤهل جماليا للشهادة بروحه ليدخل في القصائد ويخرج من المجتمع.

يبدو قانون التوريث الاجتماعي كوسيلة للتبرير والاستسلام للقدر، فليس بالإمكان قلبه أو التسرب منه إلا بقدر استثنائي يكون تثبيتا لقاعدته التي يمكن اختصارها لقارئ غير أكاديمي بأن ابن الطبيب يكون بالضرورة طبييا أو رئيس حكومة، بينما لا يمكن لابن المزارع البسيط أن يخرج من حقل أبيه أو من وراء قطيعه الصغير.

من هذا المنظور للتوريث الاجتماعي سنقرأ تكليف السيد يوسف الشاهد بإدارة حكومة تونس، عقب ثورة شعبية صعدت من الأعماق المفقرة لتنتهي في قصر الشاهد.

إدارة الدول علم لا أحلام

إنه علم صحيح، ونتائجه ظاهرة في البلدان الناجحة. هكذا يسوق للنجاعة ويقدم النمو الكمي، وتطرح خطط التصرف على أساس تحقيق الأرباح. روح الشركة الأمريكية (The firme) التي تفشت في العالم. آلات حاسبة لا تحتاج إلى ألسنة، وإنما تتكلم لغة المؤشرات، وتنتهي غالبا في البورصة، فتراكم أو تتحول ركاما فتولد منها أخرى. ويستمر حديث النجاعة والعلم منذ تكلم هنري دي سان سيمون عن استخدام العلم لتطوير حياة الإنسان والسيطرة على الطبيعة. الـ"سان سيمونيون" (Saint-Simonianiste) محترفون، لذلك تستشري عدواهم في كل تعديل حكومي يطلب المتقدمون من اللاحقين وضع سيرهم المهنية على الطاولة. ويبدأ الفرز وتولد فكرة التكنوقراط العارف بكل شيء إلا بهوى الأوطان والقصائد.

الوطن لفظ رومانسي غير اقتصادي يبدو نشازا على الطاولة. يُرد على القائلين بالأوطان ما جدوى أن يكون لك وطن وشركاتك مفلسة؟ أو ليس لك شركات. سؤال مربك، والأكثر إرباكا منه أن يرد المرء بقصيد وطني من قبيل "بلادنا قبل أولادنا" سيقول التكنوقراط أولادك في بلادك دون شركات سيأكلون التراب.

أيديولوجيا النجاعة منسجمة مع منشئها الاجتماعي لفتح باب التوريث، وغلق باب التسلق باسم الوطن أو الحق أو المساواة. يمكن ترضية محبي المساواة بنص دستوري عريق يصدر بالإجماع، لكن على الأرض يشتغل قانون التوريث الاجتماعي متسلحا بأيدولوجيا التكنوقراطية.

لو أخذنا على سبيل التجربة عينة من المواليد الذين يشاطرون السيد يوسف الشاهد يوم ميلاده، وقارنا مصيرهم المهني الذي انتهى به في سنة 45 رئيسا لحكومة تونس، فكم نجد منهم من شخص قد ارتقى مراقيه الاجتماعية؟ في سباق اجتماعي بقوى مختلفة عند الانطلاق، وصل شخص واحد إلى المكان المتقدم. طبيعي أن لا يكون الجميع رؤساء حكومات، ولكن مَن مِن جيله بلغ موقعا متقدما في نفس المجتمع؟ سنجد عددا قليلا جدا. فإذا عدنا إلى منشئهم، سنجد منشأ متقاربا في المكان والإمكانيات. وأجزم أن هؤلاء الواصلين إلى مواقع متقدمة سيكونون قريبين منه ومن حكومته. يظهر في الصورة متزلفون للشركة يؤكدون منطق الشركة (شبعان وابن عائلة).. هكذا كتب قيدوم الصحافة التونسية، زياد كريشان، عن رئيس الحكومة قبل تكليفه. وسيكون من بطانته ليروج لقدسية الأصل العائلي في نيل الموقع. تحتاج الشركة دوما إلى أداة دعاية طيعة، فالجمهور غافل عن طبيعة السلعة، وعادة ما يعمل الإشهار على تزيين الغلاف دون تغيير محتوى العلبة.

في زمن الشركة انتهى، ويجب أن ينتهي إلى الأبد، التأكيد على ابن الأصول الذي يعرف جده العاشر أو الخامس عشر. هذا منطق القبيلة وقرابة الدم.. نحن أمام ابن العائلة الذي لا يحتاج اسم جده، ويكفيه أن يضع شهادته الجامعية الأجنبية على مكتبه.

أما الشبع التاريخي فنتيجة طبيعية للموقع قبل انطلاق السباق، ولكنه في منطق الشركة يتحول إلى فقرة أخرى مهمة في السيرة المهنية مقابل سيرة الجياع، الجياع الذين مهدوا الطريق للسيد يوسف.

لكن الأوطان أحلام غير عقلانية

أين كان السيد يوسف الشاهد في الفترة بين 17 كانون الأول/ ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير. هذا سؤال يشبه في طلاسمه لامية العرب للشنفرى. إنه سؤال بلا معنى في لغة الشركة. شرعية الشهادة بالدم مقابل شرعية الشهادة العلمية من الجامعة الأجنبية تواجهتا لمدة خمس سنوات وانتصرت في آخر المطاف شهادة الجامعة على الشهادة بنهر الدم. انتصرت آلية التوريث الاجتماعي. وقد تجد لها حجتها من داخل منطقها النفعي، فالذين ثاروا جهلة بأمور إدارة الأوطان وليس لهم الخبرة التي اكتسبها أمثال السيد يوسف. لا يهم أن يكون اكتسبها في مخابر البحث الجيني التجاري الذي يحول أغذية الناس إلى تجارة، ولا يهم أن يكون في سيرته فصل داخل السفارة الأمريكية. إنه هنا، ويملك أن يحكم بحكم قانون اجتماعي غير قابل للنقض إلا بالثورة، والثورة حصلت لكن القانون الاجتماعي غير الأخلاقي وغير الدستوري كان أقوى واستعاد ما كانت الثورة تنوي انتزاعه. فعندما ذهب إلى الجامعة الفرنسية كان أترابه يسفون التراب خلف القطعان في الفيافي.

يمكن نقد الثورة. وهو الأسهل والأخف وزنا على العقول والأرواح والأدعى إلى التلذذ بالنواح التاريخي الذي يبرع فيه الشاعر العربي منذ "قفا نبكي". وهو النواح الذي يعفي الشركة من مهام ترضية الحزانى فالشعر يكفيهم. وقد كفاهم حتى أنهم تركوا الشركة في حالها زمنا طويلا وحولوا الأوطان إلى قصائد عصماء.

الشركة بمنطق النجاعة لا تحب الشعر ولا تحب الأوطان، لذلك فالمرور من السفارات الأجنبية يصنف في الحكمة. والوطنية عائق ابستمولوجي للنجاح. في الأثناء، ومن أجل ترسيخ القانون الاجتماعي توسع الشركة صلاحيتها النفعية والعملياتية، فتصير فلسطين مثلا عائقا أمام الشركة، ثم يكون التطبيع مع العدو مصلحة، فتقول وسائط الدعاية للشركة مصلحة وطنية عليا. والعدو ليس عدوا، فما من عدو أزلي وإنما مصلحة أزلية، وكل تاريخ الصراع متولد من غباء الشعراء.

الشعراء أهل الشهداء ومهمتهم تنتهي عند إحداث الرجة المطلوبة لإفاقة الشركة على ضرورات النجاعة الاقتصادية. تحتاج الشركة إلى منبهات من خارجها لتستفيق على/إلى الإمكانيات المحيطة. مثلا ما جدوى القطاع العام؟ هذه فكرة قديمة من زمن الدولة الوطنية، والأمر الآن موكول لسيادة الشركة لا لسيادة الوطن. السيادة الوطنية نفسها توضع محل نقاش، لنعود إلى نقطة قوة التكنوقراط:

معرفة الأرقام واصطناعها بحيث تسيح السيادة في العولمة والانفتاح وسقوط الحدود، فتصبح الضيعات المملوكة للدولة عائقا أمام تنمية الريف. ويجب أن تباع لمن يقدر، ومن يقدر غير مالكي المال (طبقا للقانون الاجتماعي الذي جاء بالشاهد البائع) وتصبح البذور الأصلية (غير المهجنة) عائقا أمام فلاحة علمية، وتصبح الشركات الوطنية بؤرا بيروقراطية للتفكيك (ويكفي هنا تمجيد الإدارة الفاسدة).

رأس المال الطيار صديق التكنوقراط ولقد فتحوا له الأبواب، حيث نعود بالتحليل إلى قاعدة التوريث الاجتماعي، لنجد السيد الشاهد يجلس على نفس المقعد الاجتماعي مع مهدي جمعة ومع السيدة كربول والسيد ياسين إبراهيم ومهدي حواص وزياد لعذاري، ومثلهم كثير ينتظر فتح الطريق ليعود من مراكز الخبرة الأوروبية، وليتهم التحليل المحلي بعقدة الخواجا. 

هل ينتصر القانون الاجتماعي دوما؟ وتسقط الأوطان في التجارة؟ قد نعثر على أمثلة نقيضة ذات يوم، لكن السيد الشاهد وحكومته ثمرة هذا القانون الذي يستمد شرعيته من خارج الوطن لا من دماء الشهداء. إن قوانين الاجتماع الإنساني أقوى من أحلام الثوريين. إن دماء الشهداء قصيد عمودي قديم. يشهد على الجميع ولا يحكم. فالشاهد لا يشارك في الفعل ولكنه يدل عليه، لهذا يتقدم الشاهد الارستقراطي ويتراجع الشهداء الحفاة العراة. سيكتب الشعراء يوما قصيدا عموديا عن الوطن في المزاد.
التعليقات (0)