مقالات مختارة

العثور على الطريق المعتدل في زمن التطرف

إبراهيم كالين
1300x600
1300x600
كتب إبراهيم كالين: إن الهجمات الإرهابية في كل من أنقرة وبيروت وباريس وسان بيرناردينو، أرجعت موضوع العنف المتطرف إلى أجندة أعمال العالم من جديد.

لقد أصبح الإرهاب اليوم مشكلة عالمية بغض النظر عن سببه، سواء أكان نابعا من التعصب الديني أو من القومية العرقية أم ناتجا عن أسباب أيديولوجية، فإنه يجب محاربة هذه المشكلة بشكل مستقر ومتكامل.

هناك بعدان لهذا الموضوع؛ التحليل الصحيح للفكر الذي يغذي التطرف، وتغيير الحقائق الملموسة على أرض الواقع.

نرى اليوم أن العديد من المنظمات في العالم تقوم بتبني العنف كأسلوب، من تنظيم الدولة إلى حزب العمال الكردستاني، بما في ذلك منظمة إيتا الإسبانية والمنظمات البوذية المعادية للمسلمين في ميانمار.

يجب علينا أن نكافح هذه المنظمات الإرهابية بشكل متكامل، ليس فقط تواجدها على أرض الواقع، بل إنه يجب أيضا محاربة الخلفية الفكرية.

يجب علينا مكافحتها على أسس دينية، وبالرجوع إلى المصادر والسلطات التي ترفض الإرهاب بشتى أشكاله.

وعلى سبيل المثال، يولي علماء المسلمين اليوم أهمية بالغة لإثبات زيف وبطلان المواقف الدينية المتطرفة لتنظيم الدولة، حيث إن هناك مجموعة من علماء المسلمين قاموا بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين بتوجيه مكتوب إلى زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي. 

يجب علينا أن نكثف هذه الأعمال من أجل إنهاء الاستغلال والحجج الباطلة لمنظمات إرهابية، كتنظيم الدولة وغيره.

إن الإستنكار لما يقوم به تنظيم الدولة وحده لا يكفي، بل إنه يجب علينا أن نوضح للعالم كيف أن هذه المنظمة الإرهابية تسيء إلى مبادئ الإسلام. ففكر هذه المنظمة يتناقض تماما مع فكر المسلمين وعملهم في العالم.

دعوني أذكّر هنا بهذا الأمر؛ ليست هذه أول مرة نرى فيها استغلال الدين من قبل الفكر المتطرف، فقد تعرضت المسيحية والموسوية والبوذية وغيرها من الاعتقادات للتحريف والتزييف على مر السنين. ففي عام 1994 قام المتطرف اليهودي باروخ غولدشتاين بفتح النار على جماعة المصلين في الحرم الإبراهيمي في الخليل أثناء صلاة الفجر، حيث قتل 29 شخصا وجرح أكثر من 125 شخصا مدعيا أن ما قام به كان باسم اليهودية.

وفي عام 2011، قام أندريس بريفيك بقتل 77 شخصا كانوا يعملون في إنشاء مخيم في النرويج، مدعيا أنه قام بذلك باسم المسيحية. واليوم يقوم البوذيون القوميون بمهاجمة مسلمي أراكان في ميانمار باسم القومية العرقية.

إن الأمثلة على ذلك كثيرة، لكن لا أحد اليوم يستخدم كلمات مثل الإرهاب المسيحي أو اليهودي أو البوذي، أما إذا كان الأمر متعلقا بالإسلام فإن من السهولة بمكان، أن تستخدم كلمة "إرهاب" مع "الإسلام" في جملة واحدة.

يمكننا مضاعفة الأمثلة على ذلك، لكن السؤال المهم الآن، هو: كيف يمكننا حماية الدين من التزوير والتحريف الذي تقوم به هذه المنظمات الداعمة للتعصب والتطرف والعنف؟

فن العثور على حل وسط

إن التاريخ الإسلامي غني بالفقه والفكر، الأمر الذي يجعله قادرا على مواجهة هذه المحاولات لتزويره وتشويه سمعته.

فمن بغداد إلى سمرقند، من أصفهان إلى أسطنبول، من البوسنة إلى قرطبة، نجد أن التاريخ الإسلامي غني بالأمثلة على التسامح والتعايش التعددي.

في يومنا هذا نحن بحاجة إلى أن نتذكر هذه الأمثلة وأن نذكر بها العالم. فعلى علماء وقادة المسلمين أن يجدوا حلا وطريقة لحماية الشباب المسلمين، الذين يتعرضون للعنف باسم العدالة والدين في أوروبا.

دعونا الآن نتكلم عن عالم الحقائق الملموسة... لقد شهدت الفترة السابقة، فترة القرنين الماضيين، أحداثا مأساوية واستعمارات بشعة وحروبا دامية. 

في هذه الفترة تم قتل الإنسانية بأسلحة الدمار الشامل، وسحقها تحت أرجل الاستعمار الغاشم ومحوها بالقنابل الذرية.. لقد قتل الملايين من البشر.

لن أبتعد كثيرا؛ فقد شهد العالم في التسعينيات من القرن الماضي تطهيرا عرقيا في البوسنة، حيث حصلت مجازر جماعية كتلك التي حصلت في أفريقيا سابقا.

خلال هذه الكوارث انتهت آمالنا. باختصار لقد انتهينا... فقد كان لا بد أن تكون لمثل هذه الكوارث الجماعية نتائج بعيدة الأمد، وقد وقعت.

لقد ولّدت فينا هذه الأحداث إحساسا بأننا في معركة وحرب دائمة إلى الأبد.

إن هذه الحالة النفسية غير المستقرة التي نعيشها، هي الوصف الأمثل للطريق المسدود الذي يعيشه السوريون اليوم... هم اليوم في حرب دامية ضد نظام الأسد لسنوات. والأسوأ من ذلك محاولات تنظيم الدولة وغيرها من المنظمات الإرهابية لتوسيع مجال نفوذها وسيطرتها في بلادهم.

لقد وصلت هذه الحرب اليوم إلى حالة يريد فيها كل من المتدخلين في منطقة شرق المتوسط، من قوى ودول ومنظمات، توسيع نطاق نفوذه من خلال سوريا... إنها لعبة عالمية قذرة لا تستثني أحدا.

سيستمر هذا الجو الجهنمي في سوريا ما دام نظام الأسد في السلطة. أما حلفاء الأسد فيقومون باستغلال حجة واهية مثل محاربة تنظيم الدولة، ذريعة لقتل الشعب السوري... لكن الذي يموت ليس الشعب السوري فقط، بل إنسانيتنا أيضا.

إن هذا الوضع في مصلحة تنظيم الدولة. فالشعب السوري اليوم محاصر بين كابوسين، تنظيم الدولة من جهة، ونظام الأسد من جهة أخرى.

لكن أصل المشكلة لم يبدأ في سوريا ولن تنتهي فيها. يجب التطرق إلى سبب وكيفية تطرف الشباب المسلمين الذين يتعرضون للتمييز والتفريق العنصري في أوروبا. 

لن يستطيع الأوروبيون حل مشكلتهم هذه بنفي المتعصبين إلى جحيم سوريا، بل إنه يجب حل مشاكل بلدانهم أولا.


الدين والعلماء وحكمة التمدن

قام كاتب شلبي (1609- 1659)، أحد المفكرين البارزين في العهد العثماني، بجهود حثيثة لمكافحة المحاولات الهادفة إلى تحويل الأفكار الدينية إلى نظام متعصب مغلق.

ففي كتابه المشهور "ميزان الحق"، يقدم سلسلة من الانتقادات لأصول وأسلوب حركة قاضي زاديليلار.

للتذكير، فإن حركة "قاضي زاديليلار" هي حركة ظهرت في العصر العثماني بهدف تصفية الدين، أي إرجاعه إلى أصله الروحي، وذلك عن طريق الوقوف في وجه العقل والعلوم الأجنبية القادمة من الخارج.

لقد كان كاتب شلبي يعي تماما أن إصدار فتوى في مواجهة فتوى خاطئة لن يكون كافيا لحل المشكلة، لذلك فقد كان يواجه آراء جماعة "قاضي زاديليلار" من وجهة نظر اجتماعية.

لقد كان لكاتب شلبي وجهة نظر خاصة به تعرف بـ"حكمة التمدن"، لأنه كان يعي أن حل المسألة بحاجة إلى وجهة نظر أشمل، وإلا فإن هذه المسألة ستتحول إلى صراع فقهي.

بناء على وجهة نظره، فإنه يجب أن يعيش الناس ويتعايشوا بشكل جماعي.

لكن المهم هنا أن هذا الوضع يدفعنا إلى إيجاد أسس من أجل التعايش السوي. لذلك، فإنه يجب على علماء الدين أن يفكروا بهذه الأسس وأن يستوعبوا مفهوم التعايش السوي. وإلا فإن النتيجة ستكون ضياع الدين والشعب معا.

يقول كاتب شلبي أيضا: ".. يجب الآن على أصحاب البصيرة بعد معرفتهم لأسس وواجبات التمدن والتعايش السوي، أن يعوا أن الشعب يصنف إلى فئات وأصناف، وأن يعرفوا صفات ومميزات كل صنف منه. وبعد معرفتهم لعادات وتقاليد وأفكار كل صنف من أصناف الشعب، فإنه يجب عليهم أن يجمعوا معلومات عن الأصناف الأخرى في العالم. بهذا سينفتح سر حكمة التمدن".

يقول كاتب شلبي، إن الاختلاف هو شرط التمدن، وإن فهم ذلك يتطلب منا وجهة نظر واسعة وكلية، تشمل جميع فئات المجتمع.

إن فن كاتب شلبي في إيجاد حل وسيط هو نتيجة لحكمة التمدن التي كشف سرها. أما سبب افتقارنا لحكمة التمدن فهو أننا نقوم بتهميش أي اختلاف نراه.

لقد عشنا الكثير منذ زمان كاتب شلبي وحتى الآن، لكن خلاصة التاريخ، هي كالآتي: إن ما يقع على عاتقنا اليوم، هو إيجاد حل وسط يحتكم للعقل والقيم الأخلاقية، في وسط هذه الحرب الدامية القاسية.

إن المهمة الكبرى هنا تقع على عاتق علماء الدين، إذ إن عليهم أن يذكروا الشباب بأسس الإسلام الصحيحة وأن ينقذوا الفكر الإسلامي من التعصب والتشدد.

يجب علينا دون تأخير أن نبذل كل ما نملك، من أجل الوصول إلى رحمة رسول الله ومحبته وتسامحه - صلى الله عليه وسلم - القائل: "خير الأمور أوسطها".

(عن صحيفة "صباح" التركية- ترجمة خاصة لـ"عربي21"، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2015)
التعليقات (0)